الحكم المصرى للشام الجزء الثانى

 

نزع سلاح اللبنانيين وتجنيد الدروز

أيلول وتشرين أول (سبتمبر وأكتوبر) سنة 1835 فبعد ما عاد ابراهيم باشا من مصر الى عكا، شرع في اتخاذ التدابير لتجنيد اللبنانيين ونزع سلاحهم وتسهيلا لتنفيذ هذه المهمة بتفريق كلمة اللبانيين، أوهم المسيحيين أنهم سيعفون من تسليم السلاح، ففي أوائل أيلول (سبتمبر) سنة 1835 خابر الامير بشير ومشايخ الدروز طالبا من دروز لبنان تقديم مجندين ، فأجاب المشايخ أنهم لا يستطيعون اكراه احد على التجنيد، ثم حضر حنا بك بحري الى بيت الدين لمخابرة الدروز رأسا واقناعهم بتقديم المجندين المطلوبين فلم يفلح عندئذ عمد ابراهيم باشا الى نزع السلاح.

 

وفي 27 أيلول (سبتمبر) سنة 1835 ورد مرسوم منه على الامير بشير يخبره فيه انه حضر الى زحلة ومنها سيحضر الى بيت الدين لاجل نزع سلاح الدروز، ويأمره بأن يعلن وجوب جمع السلاح واحضاره الى بيت الدين، وأن يحذروا اخفاء أي قطعة سلاح والا أنزل بهم اشد العقاب، فصدع الامير بالأمر. وفي 29 أيلول (سبتمبر) تفرق أولاده وحفدته في المقاطعات اللبنانية لاجل جمع السلاح.

 

وفي اليوم عينه وصل الى بيت الدين ودير القمر، ابراهيم باشا وابن اخيه عباس باشا وسليمان باشا الفرنساوي وسليم باشا ومحمد باشا يقودون ألوفا من الجنود الزاحفين على لبنان من جهات مختلفة، فثار أهل المتن أولا وامتنعوا عن تسليم سلاحهم، لكن عادوا فخضعوا للقوة القاهرة وسلموها، وكذلك فعل سائر الدروز، وما كاد الدروز يسلمون أكثر سلاحهم حتى انقلب ابراهيم باشا على المسيحيين وأمرهم بأن يبادروا الى تسليم أسلحتهم، زعما أن عدم تسليم سلاح النصارى أدى الى تردد بعض الدروز في تسليم أسلحتهم ونفذ أمره هذا بمنتهى الشدة.

 

وفي 22 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1835 أذاع الامير بشير بناء على امر ابراهيم باشا مرسوما في جميع المقاطعات بوجوب تقديم ألف وستمائة شاب من الدروز للجندية. لكن عاد ابراهيم باشا فاكتفى بنصف هذا العدد. ويقال ان ابراهيم باشا لم يكن حاسبا ان الدروز يسلمون أسلحتهم ويرتضون بانتظام شبانهم في سلك الجندية بدون مقاومة، بعد أن كان قد سمع ما سمع عنهم من شدة البأس وصعوبة المراس، الا أن حالتهم عندما قدم ابراهيم باشا بعسكره الى لبنان جعلت المقاومة عديمة الجدوى بل غير ممكنة، نظلا لانقسام اللبنانيين على بعضهم، واطاعة حاكمهم أوامر ابراهيم باشا اطاعة تامة، وتغرب اكبر زعماء الدروز وأكثرهم نفوذا وأشدهم بأسا، بينما أكثر الزعماء الذين بقوا في لبنان كانوا موالين للأمير بشير، اما طمعا بمنفعة أو مراعاة للقوة القاهرة.

الثورات في الشام

 

لكن الادارة المصرية في سورية لم تلبث ان اصطدمت بثورات محلية نشبت في مختلف الجهات ورزأت مصر بضحايا كثيرة، وحملتها متاعب وجهودا كثيرة لاخمادها.

 

فلنتكلم عن اسباب هذا الثورات.

 

وعد ابراهيم باشا السوريين بان يعفيهم من التجنيد ويخفض الضرائب ولا يكلفهم الا دفع الاموال الاميرية، وقد بر بوعده في السنوات الاولى من حكمه، فخفف عنهم بعض الاعباء المالية، واخذ في تنشيط الزراعة والتجارة، فشعر السوريين بالاطمئنان الى الحكم المصري وركنوا اليه.

 

ولكن هذه الحالة ما لبثت ان تبدلت لمااصدره محمد علي باشا الى ابنه في اواخر سنة 1833 واوائل سنة 1834 من الاوامر التي اثقلت كاهل الاهلين باعباء فادحة وهي: أولا: احتكار الحرير في البلاد السورية. ثانيا: اخذ ضريبة الرءوس من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم. ثالثا: تجنيد الاهالي. رابعا: نزع السلاح من ايديهم.

 

وقد تبرم الاهالي بهذه المحدثات وتذمورا منها، لان احتكار الحكومة للحرير من شانه الحاق الضرر بمنتجيه ومنع تنافس التجار على شرائه وحرمان المنتجين مكاسبهم منه.

 

وقد نفروا كذلك من ضريبة الرءوس وخاصة المسلمين لانهم ما كانوا ملزمين بها من قبل، وزاد في تذمرهم تسخير الحكومة للأهالي في الاعمال العامة.

 

وكانت التجنيد ونزع السلاح اهم الاسباب المباشرة التي افضت الى الثورة، فقد نفذ التجنيد بطريقة قاسية تثير الخواطر، وكان كثير من المجندين يرسلون الى جهات لا يقع على اهلهم شئ من اخبارهم فيها، وجاء نزع السلاح ثالثة الاثافي، لان معظم الاهالي كانوا يحملون السلاح ليدفعوا به سطوات البدو والرحل وعدوانهم، فانتزاع السلاح من ايديهم امر لا تقبله نفوسهم عن طاعة واختيار، ومن هنا نشات الثورات والفتن.

 

وقد كان للدسائس التركية والانجليزية عمل كبير في تحريك تلك الثورات، فان الترك والانجليز ما فتئوا يستفزون السوريين الى الثورة ويوزعون عليهم الاسلحة ويحرضونهم على القتال ويستميلون اليهم رؤساء العشائر والعصبيات، تارة بالمال وطورا بالوعود، حتى افلحوا في تهيئة البلاد للثورة، كما ان بعض اصلاحات ابراهيم باشا كانت من اسبابها، فقد مر بك ان ابطل سلطة الرؤساء الاقطاعيين وضرب على ايدي الاشقياء وقطاع الطرق الذين كانت لهم سطوة كبيرة في بعض البلاد، فؤلاء اولئك قد ساءهم انتزاع السلطة من ايديهم، فكانوا مدفوعين بوازع المنافع الشخصية الى تحريض الاهلين على الثورة بالحكم المصري، قال الدكتور مشاقة في هذا الصدد خلال كلامه عن نظام الحكم المصري في سورية:

 

“هذا النظام وان يكن عادلا وشريفا قد كان باعثا قويا على كره الاعداء والمشايخ للمصريين حيث كف يدهم واوقف مطامعهم عند حد لا يمكن اجتيازه، وأمات استبدادهم بالشعب، وجعلهم امام الشريعة سواء لا امتياز ولا فرق بينهم وبين افراد الرعية، فحنقوا على الدولة المصرية وردوا ازالتها وارجاع الحكومة التركية”.

وقائع الثورة

 

ان مظالم حكومة محمد علي اذت المسلمين في شعورهم الديني، وأثقلت كاهل الشعب على اختلاف مذاهبه وطبقاته بالضرائب حتى ان الأغنياء حملوا منها فوق طاقتهم وشاركت الملاكين والصناع العمال في أتعابهم، وشردت رجال البلاد في الآفاق اما بسوقهم الى الخدمة العسكرية في البلدان البعيدة سوق الجناة أو للسخرية في الأشغال الأميرية بأجور زهيدة أو بإلجائهم الى الفرار الى حيث لا تصل يدها اليهم، فخلت الحقوق من زارعيها ، وارتفعت أجور العمال الباقين ارتفاعا فاحشا، تعذر معها على ذوي الأملاك استثمار أملاكهم، وتقهقرت تجارة البلاد التي كانت في أول عهد الحكومة قد أخذت في الانتعاش، واستعملت من ضروب القسوة في جميع اجراءاتها ما أوغار الصدور وأحرج السوريين كافة احراجا لم يبق وراءه سوى انفجار بركان الاحقاد وشبوب نار الثورات في البلاد.

 

ورغما عن الاسباب التي حالت دون اجتماع كلمة السوريين على القيام بالثورة دفعة واحدة، فان نيران الثورات التي بدأ شبوبها سنة 1834 ما برحت متنقلة من فلسطين الى جبال العلويين فشمالي سوريا فحوران فلبنان، ولم ينته الا بانتهاء حكم محمد علي في سوريا.

 

فكان ما فقد محمد علي من جيشه في محاربة السوريين بسبب تنفيذ قانون التجنيد أكثر بكثير من عدد الذين تمكن من تجنيدهم وما استولى عليه من أموال السوريين بحق أو بغير حق أنفق أضاعفه في محاولة اخضاعهم، وجميع التدابير التي قام بها لاضعاف قوتهم ولد في نفوسهم من الغيظ والغيرة على حقوقهم والمحافظة على كرامتهم وكيانهم ما يزيد على القوى التي سلبها منهم. كما أن أعداء محمد علي من عثمانيين واوروبيين استثمروا هياج أفكار السوريين، فأيدوا الثائرين حتى انتهى الأمر بخروج ابراهيم باشا بجنوده وسائر رجال حكومة محمد علي من سوريا كما سنرى.

ثورة فلسطين

 

وصلت اوامر محمد علي بالمحدثات الجديدة الى ابراهيم باشا وكان في يافا ، فبادر من فوره الى اذاعتها بين القبائل وفي انحاء البلاد، فثقلت هذه الاوامر على الناس وطلبوا رفعها، فلم يجابو الى طلبهم، فظهرت بوادر الاضطرابات في فلسطين.

 

ابتدأت الثورة على شواطئ نهر الاردن بالقرب من بيت المقدس في شهر ابريل سنة 1834، وتواطأت القبائل في هذه الجهات على الا يذعنوا لتلك الاوامر، وفي هذا اعلان للثورة.

 

فلما اعلم ابراهيم باشا بنبا هذا العصيان سار بالجيش من يافا الى بيت المقدس، قد كان لمبادرته تاثير كبير اضعف عزيمة الثوار، وهناك جمع نبهاء القوم واكابرهم (ابريل سنة 1834) فاستوضحهم مقصدهم، فاجابوه بانهم لا يعارضون في احتكار الحكومة للحرير، ذلك يؤدون الضريبة ضعفين ويقدمون بعض اولاد المشايخ رهينة لضمان طاعتهم واخلاصهم، غير ان ابراهيم باشا ابى ان يتهاون في تنفيذ اوامر ابيه، فاستمهلوه مدة يراجعون قومهم وعشريتهم، وانفض الاجتماع على غير طائل، وعاد ابراهيم باشا الى يافا ينتظر الجواب الاخير الذي وعد المجتمعون بابلاغه اياه بعد مشاورة الاهالي، ولكي ينتظر ورود النجدات والتعليمات من مصر، وكانت انتشار الوباء في هذه الجهات مما دعاه الى التعجيل بمغادرة بيت المقدس فاثر البقاء في يافا اذ لم يكن الوباء وقع فيها.

 

 

أما باقي المشايخ فتفرقوا في البلاد لدعوة الأهلين الى التجنيد حسبما اتفقوا عليه مع ابراهيم باشا، لكن قلوبهم كانت ممتلئة حقدا عليه. وكانت الحكومة العثمانية في أثناء ذلك تدس الدسائس في سوريا لحكومة محمد علي، فذاع في طول البلاد وعرضها خبر مؤاده ان الدولة العثمانية قد حشدت جيشا جرارا في سيواس ، وعهدت بقيادته الى محمد رشيد باشا الذي كان قد أسره ابراهيم باشا في موقعة قونية، وأنها تتأهلب للزحف على سوريا لأجل استرجاعها.

 

وكان العدد الأكبر من الجنود المصرية قد عاد الى القطر المصري ، أما الجنود التي كانت لا تزال باقية في سوريا فكانت مفرقة في المدن المختلفة. فهذه الاشاعة لقيت أذانا صاغية من السوريين الذين أصبحوا ناقمين على حكومة محمد علي، وشددت عزائمهم على مقاومة مطاليبه، فعاد العربان الضاربون بجوار البحر الميت الى الانتفاض، وتبعهم أهل جبل نابلس الأشداء وفر الشيخ قاسم الاحمد من معتقله في يافا الى نابلس، وتولى قيادة الثوار هناك وأرسل جماعة الى القدس فأحضرت ولده الذي كان متسلما عليها.

 

وانضم الى الثوار آل أبي غوش انتقاما من الحكومة لأنها سجنت والدهم وكبير قومهم في عكا لابتزازه أموال الحجاج الى بيت المقدس، وكان لانضمام هؤلاء الى الثوار تأثير عظيم لشدة بأسهم وزعامتهم في البلاد الواقعة ما بين القدس ويافا، فتحرج مركز الحامية المرابطة في القدس التي كان يبلغ عدد رجالها نحو ألف مقاتل، فعزم قائدها على الانسحاب منها الى يافا، فاعترضها آل أبي غوش برجالهم وهاجموهم بشدة وقتلوا منها نحو خمسين جنديا، وشتتوا شمل الباقين ، فاضطر القائد الى الرجوع الى القدس مع الجنود التي تسنى له جمع شتاتها ودخل بهم القلعة واعتصم بها. فلما اتصل الخبر بابراهيم باشا وجه آلايا من جيشه بقيادة الميرالاي حسن بك لرفع الحصار عن حامية القدس، فتصدى له آل أبي غوش أيضا، ونشبت بينهم معركة ادمية قتل فيها حسن بك ونحو ثلاثين جنديا، وأكره الباقون على الرجوع الى يافا.

 

وكان الثوار في أثناء ذلك قد هاجموا حامية الخليل المؤلفة من مايتي جندي وذبحوهم، وحضرت جموع غفيرة لمهاجمة القدس فانسل بعضهم الى جهة باب داود، وقتلوا الحرس وفتحوا الباب، فدخل الثوار منه واشتد القتال بينهم وبين الحامية المحاصرة في القلعة، ونهبو دكاكين البلد وبعض بيوت اليهود..وكانت حينئذ قد وصلت الامدادات من مصر فنهض ابراهيم باشا من يافا في 4 حزيران (يونيه) سنة 1834 ومعه سليمان باشا الفرنساوي يقودان ستة آلاف مقاتل، فلما بلغوا قرية العنب بلدة آل أبي غوش الواقعة على مسيرة نحو ثلاث ساعات من القدس، اشتبكوا مع الثوار في موقعة دامية استمرت من الظهر الى العشاء دون أن يفوزوا منم بطائل ، فباتوا ليلتهم هناك.

 

وفي الصباح تجدد القتال فأبلى الفريقان أحسن بلاء، وأخيرا تغلب ابراهيم باشا على الثائرين، وفتح طريقه الى القدس، فوصلها في اليوم الثالث بعد قيامه من يافا، وفرق جموع الثائرين الذين كانوا قد دخلوها. وعلم أن مسلمي القدس ساعدوا الثائرين، وأن الذين قاموا بالمساعدة قد فروا مع الثوار، فأباح لجنوده نهب منازلهم، ونهبت في أثناء ذلك بعض اليهود خطأ لقربها من منازل المسلمين. غير أنه وجد موقفه في القدس محرجا بازاء الثوار الذين كانوا يحيطون به من كل جانب، فالنابلسيون كانوا يهاجمونه من جهة، وعربان البحر الميت من جهة أخرى، ومواصلاته مع يافا مقطوعة لاعتراض آل أبي غوش في الطريق. فحصلت بين ابراهيم باشا والثوار ثلاث وقائع، كان النصر فيها لابراهيم باشا، لكنه فقد في احداها قائدا من رجال برتبة لواء ، غير أن قوة الثائرين لم يصبها وهن وهممهم لم تفتر عن القتال.

 

اخذت الثورة تستفح ، وخاصة لما ذاع بين الاهالي من ان تركيا تتاهب بجيش جديد لاسترجاع الشام من محمد علي، فجنح البدو الضاربون بجوار البحر الميت الى العصيان، وامتدت الثورة الى نابلس.

قمع العصيان

 

كان زعماء العصيان في تلك الجهات حاكم نابلس المسمى الشيخ قاسم الاحمد، وهو من رؤساء العشائر ذوي العصبيات القوية، وكان منهم زعيم آخر لا يقل عنه نفوذا ومكانة وهو أبو غوش صاحب قريبة العنب الواقعة بين بيت المقدس ويافا.

 

هاجمت جماعة أبو غواش المخافر المصرية المعهود اليها تامين السبيل بين يافا وبيت المقدس من سطو قطاع الطرق، فقفلت الحامية راجعة الى يافا لقلة عددهم ازاء المهاجمين.

 

وكذلك هاجم العصاة حامية بيت المقدس، وكانت تبلغ الف مقاتل، فقتل منهم خمسون جنديا واضطر القائد الى الامتناع في قلعة المدينة حتى يأتيها المدد.

 

فلما علم ابراهيم باشا بهذه الواقعة انفذ الايا من الفرسان بقيادة الميرلاي حسن بك لنجدة الحامية وللتنكيل بقبيلة ابي غواش، ولكن النجدة المصرية لم تقو على مقاومة العصاة، ورجعت مهزمة مضعضعة بعد ان قتل قائدها ونحو ثلاثين من جنودها، وتكاثر الثوار على القدس واقتحموا باب داود (من ابواب المدينة) ودخلوا منه ، ووقع قتال شديد بينهم وبين الحامية المحصورة في القلعة، ونهبوا حوانيت المدينة وبعض بيوت لليهود، كذلك هاجم العصاة الخليل وقتلوا حاميتها وكان عددها 200 جندي.

 

فلما علم ابراهيم باشا باستفحال الثورة جمع جيشا من ستة آلاف جندي وقام على راس هذا الجيش. فسار من يافا في شهر يونية سنة 1834. وزحف على معقل العصاة في قرية العنب التي امتنع بها جماعة ابي غوش، وكانت محصنة تحصينا منيعا، فحاصرها الجيش المصري واستمر القتال حولها ثلاثة أيام متوالية، وفي اليوم الثالث دخل المصريون القرية، فكان سقوطها في يدهم سببا في تشتيت العصاة، واحتل المصريون الطرق المفضية الى بيت المقدس وفرق الجيش جموع العصاة ودخل المدينة بعد ان فر كثير ممن انضموا الى الثوار، ووقعت ثلاث معارك بين الجيش المصري والعصاة كان النصر فيها للمصريين.

 

على ان هذا القتال قد حمل الجيش خسائر جسيمة ومتاعب هائلة، فتحصن ابراهيم باشا في بيت المقدس.

 

وفي غضون ذلك عمل على التفريق بين القبائل وضرب بعضها ببعض على الطريقة التي اتبعها في حرب الحجاز، وافلح في استمالة بعض القبائل فتفككت عراها، وعقد سليمان باشا الفرنساوي اتفاقا مع اولاد ابي غوش تعهدوا فيه ان يؤمنوه على اجتياز معاقلهم وان يوالوا الحكومة المصرية على ان تطلق سراح ابيهم الذي كان سجينا في عكا، وعلى العفو عنهم، وبذلك امنت الطريق بين يافا وبيت المقدس.

 

وفي اثناء ذلك عرض الشيخ قاسم حاكم نابلس على ابراهيم باشا ان يقدم طاعته على ان يعفي النابلسيون من الخدمة العسكرية، وجرت بينهما في هذا الصدد مفاوضات، فلما تم الاتفاق مع جماعة ابي غوش واستوثق ابراهيم باشا من ولائهم قطع تلك المفاوضات.

حضور محمد علي باشا

 

لما استفحل امر الثورة عتزم محمد علي باشا المجئ الى فلسطين ليطمئن بنفسه على الموقف وليشرف على حركات القتال التي كان الغرض منها قمع العصيان، فحضر الى يافا يصحبه عدد كبير من الجند، وكان ابراهيم باشا وقتئذ في القدس، فذهب لاستقباله في يافا.

 

وكان العصيان قد امتد الى صفد، فقطع اهلها الطرق ونهبوا اليهود، فعهد محمد علي الى الامير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وكان على ولاء تام للحكومة المصرية، ان يخمد هذا العصيان ، فصار بالامر وزحف على صفد وحاصرها وسلمت من غير قتال واعاد العصاة ما نهبوه من اليهود.

 

وقد بر ابراهيم باشا بوعده لآل ابي غوش فاطلق سراح زعيمهم وعين احد ابنائه متسلما (حاكما) للقدس.

اخماد الثورة

 

وجرد جيشا لمحاربة الشيخ قاسم حاكم نابلس، فدار قتال شديد بينهما انتهى بهزيمة الشيخ قاسم وفراره مع اتباعه الى الخليل.

 

وفي غضون ذلك عاد محمد علي باشا الى الاسكندرية بعد ان اطمأن من ناحية الجيش المصرية ومركزه، فوصل الى الاسكندرية في يوليه سنة 1834.

 

احتل الجيش المصري قرى نابلس: ثم تعقب الشيخ قاسم ورجاله الاشداء الى الخليل، وتطاحن الفريقان ثلاث ساعات انكسر بعدها الثوار، فدخل الجيش الخليل وانسحب المنهزمون الى الكرك والسلط فتعقبهم ابراهيم باشا الى الكرك ولقى جنوده مشقات هائلة في هذه الحملة لاشتداد القيظ والعطش، وسقط منهم نحو ثلثمائة مصابين بالرعن (ضربة الشمس)، واحتل الجيش المصري الكرك، وحمى القتال حول قلعتها التي اعتصم بها الثوار، وتكبد المصريون خسائر جسيمة في هجومهم على القلعة وارتدوا عنها قليلا ريثما تبلغهم المدفعية، فانتهز الثوار هذه الفرصة واخلوا القلعة واسنلوا منها الى السلط، وتقدم ابراهيم باشا الى السلط فسلم اهلها من غير قتال.

 

وفر الشيخ قاسم ومن معه من زعماء العصيان الى البادية، ونزلوا على عرب عنزة، ولكن ابراهيم باشا تعقبهم وما زال بهم حتى اخذهم جميعا وقتلهم، وبذلك تم اخماد الثورة في فلسطين، واذعنت القبائل لسطوة ابراهيم باشا وشدة بأسه.

اضطرابات اخرى

 

وقد هاجت الخواطر في دمشق لما اوقع التجنيد من الحزن في نفوس اهالي المجندين، وفر عدد كبير من الناس الى البادية والى الجبال، وخشى شريف باشا والى ايالات الشام ان يعم الهياج، وخاصة بعد ورود انباء ثورة فلسطي، وفكف عن التجنيد ، لكنه جمع السلاح من ايدي الاهالي.

 

وكذلك وقعت اضطرابات في طرابلس سنة 1824 وائتمر الاهلون بالحامية، فاضطرت ان تنسحب الى الميناء، فارسل ابراهيم باشا المدد الى طرابلس، وعاقب مثيري الفتنة باعدام ثلاثة عشر منهم وثارت الفتن في عكار وصافيتا والحصن. فاخمدتها القوة المسلحة، ووقعت كذلك اضطرابات أقل شانا منها في حلب وانطاكية وبعلبك وبيروت.

ثورة النصيرية

 

من تشرين أول إلى آخر كانون أول (أكتبر-ديسمبر) سنة 1934وشهدت الثورة في بلاد النصيرية شرق اللاذقية في اكتوبر سنة 1834، وكانت اهم ثورة بعد ثورة فلسطينعنوان وصلة، وهاجم الثوار اللاذقية فامدها ابراهيم باشا، وزحفت قواته على بلاد النصيرية ونشبت معارك عدة بينها وبين الثوار انتهت بانتصار الجش المصري ونزع السلاح من ايدي الثوار وتجنيد نحو اربعة آلاف من اهل تلك البلاد.

 

 

وقد نفذ ابراهيم باشا قاعدة نزع السلاح والتجنيد في البلاد التي اخمد الثورة فيها، واستتب الامن في ربوعها، وكان البنانييون يعاونون الجيش المصري في اخماد تلك الثورات فترك لهم سلاحهم الى سنة 1835 ثم عمد الى تجريدهم منه وبدا بالدروز وخادع المسيحيين انه لا يريد نزع اسلحتهم، فعاونوه على تجريد الدروز، وبعد ان تم له ذلك عاد الى اولئك فجردهم من سلاحهم، واستتبت السكينة في سورية ولبنان، فعمدت الحكومة الى تجنيد الاهالي من البلاد كافة، وترتب على ذلك فرار الكثير من الشبان الى البادية مما اضر بالحالة الاقتصادية ضررا بليغا.

 

 

ان ثورة النصيرية كانت أهم ثورات سنة 1834 بعد ثورة فلسطين، فقاتلوا الجيش مستبسلين، كما ان بلادهم أصابها من النهب والحرق والتخريب ما لم يصب غيرها مثله. أما اسباب هذه الثورة فهي تلك التي أذكت نار الثورة في سائر البلدان السورية، وكان ابتداؤها ان النصيرية اعترضوا آلايا من الخيالة النظامية كان ذاهبا من اللاذقية واعتدوا على ممتلكات الحكومة والمسيحيين، وحاصروا المتسلم سعيد أغا العينتابي في داره. وكان ابراهيم باشا عائدا حينئذ من كرك الشوك فلما وصل الى المزيريب بلغه خبر هذا الانتفاض، فأصدر أوامره الى امير لواء الامير بشير أن يوجه قوة لبنانية بقيادة أحد أولاده ليشترك مع سليم بك في أعمال التأديب، فنهض الأمير خليل ومعه اللبنانيون من بيت الدين في 20 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1834 وانضم اليهم الامراء الشهابيون فندي وجهجاه وسعد الدين واحمد ومعهم رجال وادي التيم، فوصلوا الى طرابلس ومنها استأنفوا السير الى اللاذقية في 27 جماد الثاني سنة 1259 هـ = 31 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1834م.

 

وفي 6 رجب زحفوا على بلاد النصرية وخيموا في قرية البهلولية، ففر النصيرية من وجههم تاركين وراءهم مواشيهم وامتعتهم وغلالهم، فعنمتها العساكر وحرقت خمس عشر قري من قراهم وقطعت أشجارها، ثم وجه سليم بك فرقة من عسكره لتخريب غيرها من القرى فصدمها الثوار صدمة شديدة وأكرهوها على الرجوع مضاربها. فأرسل الامير خليل ألف مقاتل من رجاله بقيادة المير جهجاه احد أمراء حاصبيا، فانهزم النصيرية، وحرق العساكر ثلاثين قرية وفي اليوم الثاني نهض الامير خليل ورجاله ومعه الامير افندي شهاب حاكم راشيا والعرب الهنادي وبعض الفرسان المصرية، وتواقعوا مع النصيرية في قرية منبايا، وكانت خسائر الفريقين بالرجال قليلة غير أن النصر كان حليف الجيش الذي حرق قرى عديدة.

 

ثم انتقلت العساكر الى مقاطعة صهيون وكان سكانها قد اعتصموا في قلعتها وجاءتهم نجدة مؤلفة من نحو ألفي مقاتل من مقاطعة بيت الشلف، فحصلت بينهم وبين العسكر معركة فاز فيها العسكر على الثوار وهزمهم، ثم هاجم القلعة واستولى على ثلاثة من أبراجها، وطلب المحاصرون الباقون الأمان وكان الوقت ليلا فكف العسكر عن قتالهم، فاغتنم المحاصرون الفرصة وانسحبوا من القلعة تحت ستار الليل وهربوا، وعند الصباح دخل العسكر القلعة واستولى على ما فيها. وعلى أثر ذلك حضر أهل مقاطعة ديروس وسلموا، ثم انتقل العسكر الى مقاطعة بيت الشلف وشرعوا في حرق قرية عين التين، فبادر أهلها الى التسليم، وحذا حذوهم أهالي مقاطعة المزيرعة وبيت عمار والجهنا. وقدم الى اللاذقية عثمان الجبور كبير الكلبية وحميدوش كبير بني علي، لاجئين الى القناصل ملتمسين مساعدتهم متعهدين انهم يقدمون سلاح بلادهم.

 

أما أهل بيت باشوط والسرامطة والقراحلة فامتنعوا عن التسليم ورابطوا على جسر السن الواقع بين بانياس وجيلة، واتفق ان الشيخ حسين السلمان ونحو سبعين خيالا من المتاولة جاءوا قاصدين الانضمام الى العسكر ، فاعترضهم المرابطون على الجسر وقتلوا اثنين منهم واستولوا على بعض خيولهم. وأرسل الامير بشير نجدة مؤلفة من خمسمائة مقاتل مؤلفة من اهل زحلة وبسكنتا، فتصدى لهم الثوار انفسهم عند جسر السن أيضا، وقتلوا منهم ستة وعشرين رجلا من الزحليين وعشرة من البسكنتاويين، فأرسل الامير خليل ثلاثمائة فارس لنجدة اللبنانيين بقيادة الامير سعد الدين والامير احمد الشهابيين، ففر النصيرية من وجههم الى جبل الحمام.

 

وفي اليوم التالي زحف العسكر على مقاطعاتهم فاعمل فيها النهب والحرق، وفعلوا مثل ذلك في مقاطعة القرادحة التي كان مقدمها عثمان الجبور قد سلم للعسكر، لكن عجز عن تقديم جميع الاسلحة التي وعد بتسليمها، ثم ساروا الى الشعرة وحرقوا نحو خمسين قرية، ونزلوا في قرية الجديدة، وكان ابراهيم باشا قد وصل الى حمص قادما من دمشق، فأبلغه سليم بك امر خضوع الثوار، فأمر الباشا بتفرق العساكر، فاذن للأميرين سعد الدين واحمد الشهابيين بالرجوع الى أوطانهم، وفي أثناء عودتهم حصلت وقائع بينهم وبين النصيرية في وادي العيون ووادي عميق شمالي صافيتا.

 

أما الامير خليل شهاب، فغادر بلاد النصيرية في 20 شعبان 1250 هـ = 12 كانون أول (ديسمبر) سنة 1834 م عن طريق جبلة فالمرقب فطرطوس فطرابلس، ووصل الى بيت الدين في أول كانون ثاني (يناير) سنة 1835 وتفرق رجاله الى أوطانهم، وبقى سليم بك في بلاد النصيرية مع قسم من عساكره لاكمال جمع السلاح. استتب الأمن بعد ذلك بنوع لم يسبق له مثيل، وانتظم نحو أربعة آلاف رجل من أبناء تلك البلاد في سلك الجيش المصري.

ثورة حوران

 ثورة الدروز

 

نحوه من مختلف الجهات، فيوحدون صفوفهم ويقاتلون جنبا الى جنب كأنهم رجل واحد. وهم يفوقون الجنود المنظمة في سرعة حركاتهم ومرونة ترتيباتهم الحربية، وفي صفةمن تشرين ثان (نوفمبر) سنة 1837 إلى آب (أغسطس) سنة 1838

 

بدأت هذه الثورة في أواخر شهر تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1837 ، وانتهت في النصف الثاني من آب (أغسطس) سنة 1838 بعد وقائع دامية خسر في أثنائها جيش ابراهيم باشا ما لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، بينهم عدد غير يسير من القواد، ولاقى من الاهوال ما لم يلاق مثله في حروبه مع الدولة العثمانية أو في اخماد سائر الثورات في سوريا وغيرها. وحتى تتضح للقارئ الاسباب التي دعت حكومةمحمد علي الى اثارة هذه الفتنة التي كلفتها الضحايا الغالية بدون جدوى، وتنجلي أمامه الاحوال التي مكنت الدروز رغما عن قلة عددهم من البطش بالحملة بعد الحملة واحتال ضغط الجيوش الجرارة تسعة شهور، لابد من ايراد بعض التفاصيل عن موقف المتحاربين.

 

هجر بعض الدروز مواطن العمران في لبنان وغيره الى بلاد سادت فيها الفوضى وكثر الخراب وهي بلاد حوران، وكانت هجرتهم اما بسبب المشاحنات التي كانت كثيرة الوقوع بين الاسر والاحزاب أو فرارا من نظام حكام ذلك الزمان. فوجدوا في حوران الحرية المطلقة وجودة الهواء والمساكن الرحبة في قراها القديمة المهجورة تحيط بها الاراضي الواسعة الكثيرة الخصبة. غير انهم ما لبثوا ان اضطروا الى أن يستأنفوا في وطنهم الجديد مثل ما كانوا عليه في وطنهم السابق من قتال ونزاع مع جيرانهم أو مع القبائل الرحالة التي اعتادت المرور والرعي في الديار التي نزلوها، هذا فضلا عن تعرهم الدائم لمقاومة غزاة البادية الذين يعيشون على السلب والنهب.

 

هكذا كان الدروز الذين أمرا حوران حتى عهد ابراهيم باشا – كانوا أحس حرب حنكتهم التجارب وتمرسوا على الحروب في وطنهم القديم، فكان ذلك أفضل ما ادخروه لحفظ كيانهم في وطنهم الجديد، حيث لم تزدد مزاياهم الحربية الا نموا لانهم كانوا على الدوام في حال حرب لا يخرج الواحد منهم من منزله الا وهو شاكي السلاح استعدادا للطوارئ والمفاجات – فتمادى الاحوال على هذا المنوال صير جميع دروز حوران جيشا محاربا فيه الجنود والقواد. فبنوا الحمدان وهم اقدم أسرة درزية نزحت الى حوران على ما نعلم توطدت زعامتهم العامة فيها ونشأت أسر غيرها ذات عصبية قوية وزعامة محلية، فكان أولئك الزعماء قوادا ورجالهم جنودا.

 

والدروز في الحروب أطوع لقوادهم من البنان، كما ان قوادهم فوق ما امتازوا من البسالة والاقدام عرفوا في حروبهم بسعة الحيلة وحسن الادارة الحربية، وطالما بزوا في ذلك القواد المدربين. وفي الدورز من مزايا الجنود المنظمة سرعة حشد قواتهم والعمل يدا واحدة بدون ارتباك، وهذه المزايا توارثها الخلف عن السلف، غير انها ازدادت ظهورا في دورز حوران لكثرة تعرضهم لغزو الغزاة، واعتيادهم على الغارات، فكانوا اذا جاءتهم اشارة من موقع خطر تندفع مقاتلتهم الاعتماد على النفس الضعيفة في أولئك الجنود. فهذه المزايا كانت تجعل لهم اليد العليا في الكر والفر وتجعلهم أقل عرضة للخسائر الجسيمة والنكبات عند تكاثر جموع الاعداء.

 

ومن مزاياهم الصبر على الشدائد وتحمل المشقات لصحة ابدانهم وقوة إيمانهم وخشونة معيشتهم واعمالهم الجسدية واتقانهم استعمال الاسلحة المختلفة، كالسيف والرمح والاسلحة النارية وفي ذلك يقول أحدهم مفتخرا:

 

حنا بني معروف نحمي الجار ولو جار تهوى المزند فتيلك ما نداريه وسيوفنا الحدب تبرى كل زنار وسلاحنا لو صدى بالدم نجليه بارودتي فلنتا ومزنره بسوار حالفه رصاصها عالأرض ما ترميه

 

وفوق هذه المزايا قد استفادوا من موقع اللجاة المنيع. وللجاة بر فسيح طوله عشرون ميلا وعرضه خمسة عشر ميلا، وهو شديد الوعورة كثير المغاور والكهوف، يصعب على الجيش المهاجم الاحاطة به ويجد أكثر المشقات اذا حاول اختراقه. فالدروز انتقلوا اليه بعيالهم حالما ظهرت بوادر العدوان بينهم وبين حكومة محمد علي واتحدوا مع العربان الذين يقطنون اللجاة، فبلغ عدد مقاتلتهم جميعا نحو ألفي رجل، منهم نحو ألف وستمائة رجل من الدروز. وهذا عدد يسير بالنسبة الى الألوف المؤلفة التي اعتادت جنود ابراهيم باشا المنظمة مصادمتها والتغلب عليها. غير أن وعورة مسالك النجاة، وصعوبة الحرب فيها على غير عارفيها، ضاعفت قوة الدروز وحلفائهم، وبالنسبة عينها أضعفت قوة الجيش الذي هاجمهم فيها.

 

أما الذين حمل حكومة محمد علي على التشدد في أمر التجنيد في سوريا، فهو أن الدولة العثمانية كانت تحشد جنودها على مقربة من حدود سوريا الشمالية، بحجة مقاتلة ثوار الاكراد، فاستعدادا للطوارئ بادر محمد علي الى تقوية جيوشه في سوريا، واصدر أوامره بتعميم التجنيد فيها، وبمقتضى ذلك النظام، طلبت حكومة دمشق من دروز حوران مائة وسبعين مجندا، مع أنها لم تكلفهم التجنيد في سنة 1834 لشعورها بحاجتهم الى الرجال لدفع اعتداء العربان المحيطين بهم من كل جانب، لأن الدروز أنفسهم كانوا يقومون في بلادهم بما هو من واجب جنود الحكومة ورجال شرطتها، فيتولون حفظ الامن في الداخل، والدفاع عن حوزتهم عند وقوع اعتداء من الخارج. وحالتهم في سنة 1837 لم تتغير عما كانت عليه في سنة 1834 فتجنيدهم وتكليفهم الخدمة في أماكن بعيدة عن جيلهم، بينما جيرانهم من عربان البادية يسرحون ويمرحون لا مبرر له من جانب الحكومة، لان عدم تجنيد مائة وسبعين رجلا ليس له تأثير محسوس على قوة الجيش.

 

فالذي يتبادر الى ذهن الباحث هو أن حكومة محمد علي اتخذت مسألة التجنيد ذريعة التحرش بدروز حوران، توصلا الى اغراض أكثر أهمية من الحصول على مائة وسبعين مجندا. فجبل حوران واللجاة كانا في ذلك الزمان ملجأ لكل خائف من جور الحكام أو ثائر على الحكومة، ومعقلا يعتصم به الفارون من التجنيد والمتملصون من حمل الضرائب الثقيلة حتى ان قرى عديدة في جبل الكرمل خربت في ذلك الوقت، وانتقل أهلها الى جبل حوران لتنجو من الضرائب الثقيلة وشدة وطأة التجنيد، وفي ذلك خسارة جسيمة على الحكومة في المال والرجال فلذلك رأت الحكومة أن تدويخ دروز حوران يثبت قدمها في جبلهم وفي اللجاة، ويمكنها من ايقاف تيار اللاجئين اليهما، ومن فرض التكاليف العسكرية والمالية عليهم، وتمهيد السبيل لبسط سلطتها على ما وراءهم من العربان.

 

وكانت تظن خطأ أن دروز حوران القليلي العدد لا يستطيعون مقاومتها لتفرقهم في قرى مختلفة، وأن روابط الولاء والاخلاص بين مشايخهم وفلاحيهم كادت تكون مفقودة، وأنهم عزل من السلاح ولا خبرة لهم باستعمال المحراث والمساس. وعلى كل حال لم يكن عندها ريب في نجاح تدابيرها لاخضاعهم، لأن جيشها كان على قدم الاستعداد وفيه الجنود المجربة والقواد المحنكون الذين تعودوا الانتصار على اعداء اقوياء، زد على ذلك أنهم يفوقون الدروز عددا ويمتازون عليهم بجودة السلاح ووفرة الذخيرة.

 

أما مواطن الضعف في ذلك الجيش فكانت استصغاره شأن الدروز، وعدم تقدير عواطفهم القومية ومزاياهم الحربية تقديرا صحيحا. وشتان ما بين مدافع عن وطن اشتراه بالمهج الغالية وبين مهاجم مأجور لا يندفع الى الامام ولا بقوة النظام، كما أن قواد الجيش وجنودهم لم يعتادوا الحرب في الاماكن الوعرة كاللجاة التي كانوا يجهلون مصاعبها. فوعورة مسالك اللجاة أفقدت الجيش اهم مزاياه، وهي قوة النظام وكثرة العدد لانها اضطرت الجنود الى التفرق فلم يستطيعوا العمل مجتمعين، وزال الاتصال الوثيق بينهم وبين قوادهم، فهان على عدوهم الفتك بافرادهم وجماعاتهم الصغيرة وانزال النكبات بمجموعاتهم.

 

 

كان ابراهيم باشا قد اعفى دروز حوران من التجنيد، ثم تراءى له ان يطبق عليهم نظام التجنيد، وحجته انه في حاجة الى زيادة عدد الجيش استعدادا لمقاومة هجوم العثمانيين الذي جاءت الاخبار بقرب وقوعه.

 

فتمرد الدروز على طلب حكومة دمشق، وكان من ذلك نشوب ثورة خطيرة في حوران (نوفمبر سنة 1837) وهي شاد ثورة عاناها الحكم المصري في سورية.

 

انفد ابراهيم باشا ثلاث حملات لكفاح تلك الثورة واخمادها، فالحملة الاولى الفها من 459 من فرسان الهوارة، ففازت في بدء القتال على الثوار في بصرى ولكن الثوار استدرجوها الى الجهات الجبلية الوعرة فيبلاد اللجاة، وامر قائد الحملة بالزحف عليها، حتى اذا بلغ الوعر وانحصر فيه، انقض عليه الدروز، فدارت بين الفريقين معركة بطش فيها الدروز بالحملة المصرية، فقتل قائدها وبادت الحملة قتلا واسرا وتشريدا.

 

ولما ابلغ ابراهيم باشا نبأ هذه الواقعة وكان في انطاكية اجمع لحملة جديدة يقودها بنفسه، لكنه علم باحتمال تقدم الترك نحو الحدود الشمالية، فاضطر الى البقاء في حلب وارسل الى ابيه يستمده. وطلب منه ان ينفذ اليه احمد باشا المنكلي وزير الحربية المصرية لقيادة الحملة، فجاء هذا على جناح السرعة، وقاد الحملة الجديدة وكان فيها 6000 مقاتل، وزحف على حوران، فاخذ الثوار يستدرجونها كما استدرجوا الحملة الاولى من قبل الى ان توغلت في الجهات الوعرة، فقاتلها الثوار في معركة انتهت بهزيمة الحملة، وخسرت من رجابها نحو اربعة آلاف بين قتيل وجريح، وجرح قائدها احمد باشا المنكلي جراحا بالغة.

 

تصدعت هيبة الجيش المصري بانتصارات الدروز، واستشرت الثورة من حوران الى وادي التيم فثار الدروز فيها بقيادة (شبلي العريان) وقطعوا مواصلات الجيش.

 

وجهز ابراهيم باشا حملة ثالثة من عشرين الف مقاتل اطبق بها على ثوار حوران ووادي التيم.

 

ونشبت الحرب وكانت سجالا. الى ان انتهت بتسليم دروز (وادي التيم)، ثم تسليم شبلي العريان وانحصار الثورة في اللجاة ثم انتهت باخماد ثورة اللجاة (أغسطس سنة 1838).

 

وبذلك انتهت ثورة الدروز بعد ان استمرت تسعة اشهر تكبد فيها الجيش المصري خسائر فادحة، ولقى فيها الاهوال ما لم يلقه في اخماد الثورات السورية الاخرى.

 

وعنى عن البيان انه كان في امكان مصر ان تتفادى هذه التضحيات الاليمة والخسائر الفادحة لو لم يتشدد محمد علي باشا في تجنيد السوريين ونزع اسلحتهم، اذ لم يكن من الحكمة ولا من حسن السياسة ان تبادر دولة فاتحة الى تجنيد الاهالي في بلاد حديثة عهد بفتحها ولما يستقر بعد حكمها فيها، وخاصة اذا كان اهلها قد اعتادوا من قديم الزمن حمل اسلحتهم ولم يألفوا نظام التجنيد الاجباري، لما استهدف الجيش المصري لهذه الثورات الى اودت بحياة عشرة آلاف مقاتل ونيف، وذلك اكثر من العدد الذي استطاع تجنيده من السوريين، واكثر مما خسرته مصر في المعارك الحربية بسورية والاناضول، هذا فضلا عن ان اخماد الثورات بالقوة والجبروت قد اوغر صدور السوريين على الحكم المصري، فبعد ان استقبلوه في بدء الفتح بقبول حسن وفضلوه على الحكم التركي جنحوا بعد ذلك الى قديمهم ولقيت الدعاية التركية بينهم مرعى ومأوى.

 

على أنه يجب الا يغرب عن البال ما كان للدسائس الانجليزية والتركية من الاثر الكبير في تحريض السوريين على الثورة كما قدمنا، ولكن مما لا نزاع فيه ان هذه الدسائس ما كانت لتفلح لو لم تلجأ الحكومة المصرية الى اثارة الخواطر بنزع سلاح الاهلين وتجنيدهم جبرا، ومن جهة أخرى فان الحكومة المصرية رغبة منها في منع ورود الاسلحة الى البلاد امرت بمنع دخول جهة اخرى فان الحكومة المصرية رغبة منها في منع ورود الاسلحة الى البلاد امرت بمنع دخول السفن التركية الى الثغور السورية، وصدت ورود القوافل من جهات الاناضول، فاصاب التجارة من هذه وتلك ضرر كبير، وقد كان للدسائس الانجليية وسوء الحالة الاقتصادية في اواخر عهد الادارة المصرية اثر كبير في الحرب السورية التي شبت بين مصر وتركيا وحلفائها عقب ابرام معاهدة لوندره، فان الجيش المصري قد لقى فيها من مقاومة السوريين ما زاد مركزه جرحا كما سيجئ بيانه.

التأثير حكومة محمد علي

تأثير حكومة محمد علي في سوريا

 

زالت حكومة محمد علي من سوريا بانسحاب جنوده منها. أما تأثيرها فلم يزل مع ذلك الانسحاب، لأنها أحدثت في نظام الأحكام انقلابا عظيما، فأدخلت انظمة جديدة للادارة والقضاء والمالية والجندية، وأنفذت في السوريين سلطة العزيز المقتدر، فكان لذلك تأثيرات جمة في حياة البلاد الاجتماعية والأدبية والاقتصادية والادارية والسياسية، منها ما كان بعيد المدى، فاتصل تأثيره بوقتنا الحاضر.

التأثير الاجتماعي

 

من التغييرات الاجتماعية التي نشأت عن حكم محمد علي في سوريا اطلاق الحرية الدينية، ونشر روح الديموقراطية بالضرب على ايدي الزعماء والمتغلبين، ونزع السلطة من أيديهم، وانشاء العلاقة ما بين أفراد الشعب وحكامه مباشرة، وتأليف مجالس مشورة تمثل الشعب بعض التمثيل، ولها حق النظر في الشئون المحلية، بعد أن كان النظر في جميع الشئون منوطا بحكام مستبدين.

 

وقد كان لوجود ابراهيم باشا في سوريا تأثير في بساطة المظهر، بعد أن كان كبار البلاد يباهون بالملابس الفاخرة والمظاهر الخلابة وكثرة الأتباع، وانما كانوا يقلدون في ذلك الحكام العثمانيين. اما ابراهيم باشا فكان ميالا بفطرته الى بساطة المظهر والتخشن في المعيشة، ولعل حياته الجندية زادته استمساكا بذلك، لان احوال الجندية تقتضي التخشن وملابس رجالها بسيطة متماثلة لا تمييز فيها بين ملابس كبار الضباط وصغارهم الا بما عليها من العلامات الفارقة. ويروي انه لما جاء ابراهيم باشا بجيشه الى لبنان وحل في دير القمر، أقام في منزل حقير. لا ينزل فيه امثاله من الوزراء. وذهب ذات ليلة لزيارة الامير بشير زيارة غير رسمية، فلم يستصحب أحدا من رجال حاشيته بل كان بصحبته أحد خدمه، فقضى السهرة عند الامير في المسامرة والتدخين.

 

وكان الامير قبل ذلك لا يعهد في الوزراء سوى مظاهر الأبهة والترفع عن الناس، فلا تتحرك ركابهم الى آخر الا وهم مرتدون الملابس الفاخرة محاطون بالجند والعظماء. وكان الأمير نفسه بل من دونهن من الزعماء يجرون على الخطة نفسها كل حسب مكنته ومكانته. أما بعد أن تلقى هذه الزيارة الودية من ابراهيم باشا الخالية من التكلف البعيدة عن الفخفخة، لم يسعه إلا أن يحذو حذوه. وبما أن ابراهيم باشا وهو ابن عزيز مصر ورأس الحكومة السورية وقائد الجيش العام زاره مستصحبا خادما واحدا فحتى يحفظ النسبة ما بين مقامه ومقام مولاه وهما نازلان حينئذ في مكانين متقاريبن، رد له الزيارة منفردا.

 

وفي عهد ابراهيم باشا في سوريا طرح الامير بشير وأولاده العمائم واستبدلوها بالطربوش المغربي اقتداء بمحمد علي وابراهيم باشا ورجالها، فتبعهم في ذلك كبار رجال الدين وغيرهم.

 

وأظهر ما قامت به حكومة محمد علي من التغييرات الاجتماعية، المساواة بين رعايها على اختلاف الأديان والمذاهب. فقبل دخول ابراهيم باشا الى سوريا لم يكن مباحا للمسيحيين ان يتعمموا بالعمائم البيضاء أو الخضراء أو الحمراء، وكانت محظورة عليهم بعض أمور غير هذه، وكانت تولية المسيحيين مناصب الحكومة قليلة الوقوع. فحكومة محمد علي أزالت كل هذه الفوارق. وأباحت

الوطنيين والافرنج الوظائف في الجيش والحكومة الملكية ومنحتهم الرتب والألقاب.

 

ويروى عن حنا بك بحري الذي كان يتولى منصبا رفيعا في حكومة سوريا ان زملاءه المسلمين كانوا لا يعاملونه بالاكرام الذي يستحقه منصبه، وكان محمد علي قد منحه رتبة مير ميران. فشكا أمره الى ابراهيم باشا ، فهذا لم يحدث أحدا عن هذه الشكوى، لكنه دخل مرة الى مجتمع ضم كبار رجال مجلسه وبينهم حنا بك بحري فنهضوا واقفين. فقال ابراهيم باشا: “يا بك تقدم نحوي”. دون أن يذكر اسم البك الذي طلب تقدمه، ولم يخطر ببال أحد أنه يقصد بحري بك دون غيره اسم البك الذي طلب تقدمه، ولم يخطر ببال احد انه يقصد بحري بك دون غيره من البكوات الواقفين أمامه، فتقدم موظف آخر اسمه حافظ بك فقال له ابراهيم باشا: “إني أنادي بحري بك” فرجع حافظ بك الى مكانه، وتقدم بحري بك ولما دنا منه قال له: “تفضل” وأجلسه على مقربة منه. أما سائر رجال المجلس فبقوا في أماكنهم وقال لهم “اجلسوا”. فبعد هذا الحادث صار كبار رجال الحكومة يعاملون حنا بحري بك المعاملة اللاقئة بمقامه.

 

وكان قبل قيام حكومة محمد علي في سوريا لا يقاد المسلم بالذمي، اما حكومة محمد علي فسوت في ذلك بين رعاياها المختلفي الأديان والمذاهب، كما سوت بينهم في دفع الضرائب، ولم تفرق بينهم في شي سوى تكليف المسيحيين دون المسلمين بدفع الخراج، لكنها كلفت المسلمين القيام بالخدمة العسكرية ولم تكلف المسيحيين. وقد تجاوزت حكومة محمد علي في سوريا حد المساواة بين المسلمين والمسيحيين في امر التسليح، فبعد أن كانت قد جمعت أو فرضت جمع السلاح من جميع البلاد السورية، عادت في سنة 1838 فسلحت النصارى لتستعين بهم على مقاتلة الدروز.

 

وكان التضييق على المسيحيين الافرنج قبل عهد ابراهيم باشا مقله على المسيحيين الوطنيين ، فكان الوافدون منهم على سوريا قليلي العدد ولا يستطيعون التجول فيها إلا وهم مرتدون الملابس الوطنية، أو تحت حراسة الجند فلما ساح بكهرت في سوريا في أوائل القرن التاسع عشر ارتدى الملابس الوطنية، واتخذ لنفسه اسم الشيخ ابراهيم. وعينت انجلترا قنصلا لها في دمشق المستر فرن سنة 1829 فلم يستطيع دخول دمشق بل بقى في بيروت مدة طويلة أي إلى أن احتل ابراهيم باشا مدينة دمشق في سنة 1832 ، فأذن حينئذ للقنصل الجديد بالذهاب اليها، فدخل المدينة باحتفال مهيب ولم يجرؤ أحد من الاهالي ان يبدي اي تذمر او اعتراض، لان ابراهيم باشا كان يحكم البلاد بيد من حديد.

التأثير العملي والأدبي

 

لم تقم حكومة محمد علي في سوريا باعمال علمية وأدبية ذات شأن، فالمدارس التي أنشأتها كانت قليلة العدد والتأثير، وكانت في معظم الاوقات مشتغلة بالفتح وتسكين الاضطرابات واخماد الثورات ومقاومة الدسائس والاعتداءات الداخلية والخارجية. على ان قيامها في سوريا مهد السبيل لنهضة علمية أدبية، لأن تنظيماتها استوجبت اختيار المتنورين لادارة الاحكام والقيام بالأعمال القضائية والمالية والكتابية، وسهلت قدوم الافرنج من مرسلين دينيين، وتجار وغيرهم فأنشأت بوساطتهم المدارس.

 

كما ان ارسال بعض الشبان لدرس الطب في القطر المصري، واستخدام بعض السوريين في حكومة محمد علي باشا، أنشأ صلة أدبية دائمة بين القطرين، فامتدت تلك الصلة ونتائجها الى وقتنا الحاضر، وأدخلت حكومة محمد علي روحا علمية الى البلاد في أعمالها، فأنشأت محجرا صحيا في بيروت، وبذلت اهتماما يذكر في الأمور الصحية، وكانت تجري فيها حسب مشورة الأطباء، كما فعلت في دمشق بانشاء مصارف للمياه الراكدة، واستخدام المهندسين في ذلك وفي الانشاءات التي تحتاج الى معرفة فنية.

التأثير الاقتصادي

 

لو قدر لحكومة محمد علي الثبات في سوريا لاثرت في حالة البلاد الاقتصادية افضل تأثير، لان محمد علي كان رجلا عمرانيا طامحا الى توطيد دعائم ملكه، عالما أن العمران دعامة الملك الكبرى، فما قامت به حكومة محمد علي من الاعمال الاقتصادية لتنشيط زراعة الكرمة والتوت والزيتون، واستخرجت المعادن واشهرها معدن الفحم الحجري في قرنايل وقيل في بزيدين أيضا في مكان يدعى عين بوقة، كما أنها استخرجت الحديد من مرجبا في قاكطع المتن في لبنان.

 

وقد كان لحكومة محمد علي تأثير خاص في نهضة بيروت الاقتصادية، لأن اقامة المحجر الصحي فيها أوجب على جميع البواخر القادمة الى الشواطئ السورية ان ترسو في مياه بيروت، وأجرت تجارب على زراعة السكر والنيلة وشجر التين، وتربية دودة القز، غير أنها لم تتمكن من مواصلة هذه الاعمال والتوسع فيها، لان البلاد كانت في حالة حرب، والحرب والعمران لا يجتمعان، فبعد فتح البلاد بزمن قصير، قامت الثورات في مختلف أنحاء البلاد، وما كادت تخمد هذه الثورات حتى تجددت الحرب مع الاتراك ثم تلتها محاربة الحلفاء ، فالانسحاب من سوريا وكان اهل سوريا ومواردها الاقتصادية مقيدين في اثناء تلك الحوادث بمشيئة الحكومة، تتصرف بهم في التجنيد والتسخير والاحتكار وفرض الضرائب الثقيلة الوطأة حسبما اقتضته الحاجة، ومكنت القوة من تنفيذه. فاشتغل من اشتغل من رجال البلاد في الجندية أو الثورة أو السخرة، وفر الى البادية او البلاد المجاورة من استطاع الفرار سيبلا. فحرمت الاراضي الواسعة من ايديهم العاملة، كما أن ثقل وطأة الضرائب والاحتكار ثبطا عزائم من بقى من القارين على الانتاج. وفي اثناء الحروب والثورات دمرت قرى عديدة، وأهملت الزراعة ، فقل الانتاج وارتفعت أسعار لوازم المعيشة، ولاسيما انها كانت محتكرة، وقسم كبير منه مطلوب لاعالة الجيش المرابط من البلاد، وأصبح الأهلون في ضيق شديد.

 

وبعد أن كانت قد ظهرت بوادر النشاط في أسواق التجارة بسبب تأمين طريق المواصلات الداخلية وتسهيل المعاملات مع البلدان الخارجية، كسدت التجارة، ووقف دولاب الاعمال الصناعية أيضا، ولاسيما أن البضائع الأجنبية اخذت تزاحم المصنوعات الوطنية، وأقبل الناس على شرائها، لأنها كانت أرخص ثمنا من مصنوعات البلاد، وأجمل منها منظرا.

 

ورغما عما عرف عن محمد علي من الرغبة الشديدة في تنشيط الصناعة، لم تتمكن حكومته من تنفذ رغبته هذه في سوريا، نظرا لما سبقت الاشارة اليه من اضطراب الاحوال واشتغالها بالحروب واخماد الثورات.

 

التأثير الاداري والسياسي

 

من حسنات حكومة محمد علي ان مبادئها كانت نظامية، ومع أن النظام لم يطبق دائما تطبيقا عادلا، نظرا لما تخلل ادارة الحكومة من الاختلاط والفساد، فانه وضع الاساس لترقية الحكم بترقية القائمين به والشعب الخاضع له. ووزع السلطات الادارية والقضائية، وقرر اختصاص كل منها بقدر الاستطاعة، فأقام الحوائل دون الحكم المطلق الذي كان في ما مضى يحصر السلطة في الحاكم وحاشيته.

 

وجرى في تلك الاثناء تعيين عدد كبير من اهالي البلاد في المناصب المختلفة، فتمرنوا على طرق الحكم الجديدة. وألفت مجالس الثورة من أبناء المدن، فتعودوا على ادارة بعض شئونهم بنفوسهم، وربطت اجراءاتهم بنظام معلوم. فهذا التبديل في ادارة البلاد، ومد رواق المساواة فوق جميع أبناء الشعب الواحد المختلفي الأديان والمذاهب، كان بمثابة مقدمة لخلط كلخانة الذي أصدره السلطان عبد المجيد في تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1839، ولما عقبه من التنظيمات الاصلاحية التي حاول أسلافه ادخالها ولم يفلحوا.

 

وأكبر نجاح صادفته حكومة محمد علي في سوريا، هو اقرار الامن في نصابه. ففي عهد الحكومة العثمانية السابق دخول ابراهيم باشا الى سوريا كان حبل الامن مضطربا في كل مكان، وكان الاشقياء يعيثون فسادا حتى في البلاد الساحلية وعلى أبواب المدن، كذلك الاماكن الواقعة على الطرق السلطانية، كما بين بيروت والشام التي كان من الواجب اقامة مخافر فيها لتأمين المواصلات، كانت في ذلك العهد مكامن للصوص، وكان المسافرون يضطرون الى السير جماعات جماعات، وهم شاكو السلاح ليستطيعو الدفاع عن نفوسهم وأموالهم، وكان من منتهى الشجاعة ان يذهب الرجل وحده من بيروت الى الشام، ومن ذلك نشأت الأغنية المشهورة في جبل لبنان التي منها قولهم:

 

جوزك يا المليحة راح على الشام وحده

 

جوزك يالمليحة بوزيد الهلالي

 

اما حكومة محمد علي ، فانها شددت النكير على اصحاب الجرائم، وأنزلت بهم العقابات الصارمة، وكان القاتل يقتل بدون تردد ولا امهال، وجازت المجرمين بالضرب الموجع، وبزجهم في السجون المظلمة، وتكليفهم القيام بالاشغال الشاقة، وحافظت على طرق المواصلات محافظة دقيقة، وألقت على عواتق رؤساء القبائل وشيوخ القرى تبعة ما يقع في دوائر نفوذهم من الجنايات والسرقات التي لا يكشف مقترفوها، فكان أهل القرية أو الناحية يكلفون ايجاد أو دفع ثمن ما يسرق أو ينهب في أرضهم. فهذه الاجراءات، وان كان بعضها لا ينطبق على العدالة، فانها لم تكن مخالفة لروح ومقتضيات ذلك الزمان، كما أنها جادت بفوائد عامة تبرر اتخاذها، فاستتب الامن في جميع أنحاء البلاد وفي ما عدا زمن الثورات كادت حوادث القتل والسرقة والسلب تنقطع من البلاد.

 

أما جبل لبنان فلم تترك فيه حكومة محمد علي من حسن التاثير ما تركته في سواه من البلاد السورية، فقبل حلول تلك الحكومة من سوريا، كان الامن مستقرا في لبنان، لان الامير بشير كان منصرفا بكليته الى ذلك، وكانت هيبته في البلاد ملء الاسماع والابصار. غير ان الامير كان مستبدا وحكومة محمد علي لم تضعف استبداده، ولا ذهبت بسيئات الحكم الاقطاعي وضغطه على الشعب اللبناني، لان السلطة التي كانت لاصحاب المقاطعات الاصليين انتقلت الى ايدي ابناء الامير وحفدته واقاربه ومريديه، وهؤلاء كانوا يستمدون من الامير قوة ويفوقون الاقطاعيين الذين تقدموهم جورا على الاهلين.

 

والذي أدى بلبنان الى هذا الموقف الشاذ، هو ان الامير بشير خدم حكومة محمد علي في سوريا خدمات جليلة، وكان أقدر اللبنانيين على تنفيذ مآرب محمد علي وابراهيم باشا في لبنان، فنظر الى هذه الامور بعين المراعاة، ولم تتعرض حكومة محمد علي للامير بشير في ادارة البلاد الداخلية، ولا أنشأت مجالس مشورة في لبنان كما فعلت في مدن سوريا، فبقيت السلطة محصورة في شخص الامير بشير، فازداد تمكنا من رقاب اللبانيين، واغتنم الفرصة السانحة، فجمع ثروة طائلة من اموالهم. هذا فضلا عن ان حكومة محمد علي رتبت على اللبنانيين نحو ثلاثة اضعاف ما كانوا يدفعونه الى الحزينة العثمانية. ومن اشد مساوئ حكومة محمد علي في لبنان طعن الوطنية اللبنانية في صميمها بما زرعته من بذور التفريق بين المسيحين والدروز. 

 

للمسيحيين ما هو مباح للمسلمين من لباس وركوب خيل وحقوق اجتماعية ووطنية، وقلدت كثيرين من المسيحيين

الحكم المصرى للشام الجزء الاول

بعد عقد اتفاق كوتاهية ، انسحب ابراهيم باشا بجيوشه من الأناضول الى البلاد التي تقرر ضمها الى حكومة محمد علي، وتولى منصبي الحاكم العام والقائد العام فيها، لكنه وجه اهتمامه الى الشؤون العسكرية، فحد في العمل لتأمين الحدود، واقرار الأمن والسكينة في البلاد، ورمم أسوار عكا، وحصن الحدود الشمالية تحت مراقبة مهندسين أوربيين لصد هجوم الأتراك فيما لو حدثتهم نفوسهم أن يسترجعوا سوريا. ووزع جيشه الذي كاني بلغ نحو سبعين ألف مقاتل في جهات مختلفة من سوريا، انما جعل معظمه في شماليها لأجل حماية الحدود، كما أنه جعل مقره العام في أنطاجية مراعيا في اختياره اياها دون سواها موقعها الحربي، وجودة هوائها، وكثرة العلف في جوارها، هذا فضلا عن قربها من مصدر الخطر التركي الذي كان لابد له من السهر على مراقبته بنفسه. وزيد جيشه فيما بعد حتى بلغ نحو خمسة وثمانين ألفا، هذا ما عدا المتجندين الحديثين من سوريا.

 

دخلت الشام في حكم الدولة المصرية بعد صلح كوتاهية الذي توج انتصارات الجيش المصري، واصبحت مصر المرجع الاعلى لحكومة الشام، وصار ابراهيم باشا حاكما عاما للبلاد السورية وقائدا للجيش المصري.

 

Description: http://2.bp.blogspot.com/-o3HxPxtb0_0/UVy-zyJhFhI/AAAAAAAAAj8/FUyzO-OC8Rc/s1600/200px-Portrait_d'Ibrahim_Pacha_2.JPG

 

 

 

نظام الحكم المصري

 

كانت سوريا قبل أن يستولي عليها ابراهيم باشا مقسمة الى أربعة أقسام كبرى وهي: إيالات حلب وطرابلس ودمشق وصيدا، وكانت القدس ويافا وغزة داخلة في هذا التقسيم. غير أن الوزير الذي كان يتولى الحكم على ايالة صيدا كان يبسط سلطته أحيانا على البلدان المذكورة وعلى ولاية طرابلس الشام. وهكذا كانت الحال لما زحف ابراهيم باشا بجيشه على سوريا، فان عبد الله باشا والي صيدا كان متوليا ادارة ايالة طرابلس الشام ومتسلطا على بلاد فلسطين حتى برية سيناء. وكانت حكومة الآستانة المرجع الأعلى لحكام البلاد السورية.

 

أما بعد استيلاء ابراهيم باشا على سوريا وانضمام كيليكليا اليها، أصبحت حكومة محمد علي في القاهرة المرجع الأعلى لحكومة سوريا وكيليكليا. ووضع تشكيل اداري جديد لحكومة البلاد، فجعل ابراهيم باشا حاكما عاما وقائدا عاما كما ذكرنا قبلا، وضمت عكا وسائر بلاد فلسطين حتى برية سيناء الاى ولاية الشام. وفي خريف سنة 1832 عين شريف باشا أحد أقارب محمد علي حاكما عليها، وأطلق عليه لقب “حكمدار عربستان” لأنه في أثناء السنين الأولى كان يتولى ادارة الآيالات السورية جميعها، وكان ابراهيم باشا قد فوض الى كاخيته منيب أفندي ادارة شؤون الحكومة في عكا عند استيلائه عليها، فاستبدله في رمضان سنة 1249 هـ = كانون ثان (يناير ) سنة 1834 بالشيخ حسين عبد الهادي من زعماء نابلس وجعله تابعا لشريف باشا.

 

أما المدن الساحلية وهي صور وصيدا وبيروت وطرابلس ، فكان ابراهيم باشا قد وجه متسلمين اليها عند فتحها في كانون أول (ديسمبر) سنة 1831، ثم عاد في تشرين أول (أكتوبر) سنة 1832 ففوض ادارة شؤون بيروت وصيدا وصور الى الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان، فولى عليها متسلمين من أقاربه ، لكن عند ارجاء التشكيلات الجديدة بعد عقد الصلح بين السلطان محمود ومحمد علي رفع سلطة الأمير بشير عن السواحل، وعين متسلمين اختارهم بنفسه.

 

ولم تبق التشكيلات الادارية على حال واحدة في أثناء قيام حكومة محمد علي في سوريا بل ان كثرة الاضطرابات ، واتساع دائرة الأعمال أوجبتا مراقبة الأمور مراقبة شديدة لا يقوى عليها حاكم واحد. فولى سليمان باشا الفرنساوي على إيالة صيدا التي كانت قد سلخت عنها عكا، وجعل مقره مدينة صيدا وسليمان باشا كان أليق رجال ابراهيم باشا لهذا المنصب، لأنه كان أكثرهم أهلية لتنشيط التجارة، وأوسعهم خبرة بمعاملات الأجانب الذين كانت بيروت مركز قناصلهم، وكان فيه أكثر وأكبر بيوتهم التجارية. أما حلب فولى عليها في سنة 1838 اسماعيل بك أحد أبناء عم ابراهيم باشا، وعين أحمد منيكلي باشا حاكما على أدنه، وبعد انتقاله منها خلفه خورشيد باشا.

 

فبعد ذلك بقى شريف باشا متوليا على ايالة الشام والبلاد الفلسطينية بما فيها عكا. أما توليته في بادئ الرأي على جميع البلاد السورية، فواضع من تلقيبه “حكمدار عربستان” ويعززها الأوامر الصادرة منه الى أنحاء مختلفة من الآيالات السورية، والنصوص الواردة في تأليف بعض المعاصرين كنوفل نوفل وغيره. فقد قال نوفل في كتابه “كشف اللثام عن محيا الحكومة والأحكام” ص 493: ان جريدة ضبط مجالس المشورة كانت ترسل الى الشام ليراجعها يوحنا بك البحري”. وهذا يدل على أن الشام كانت مركز الادارة العامة حينئذ.

 

وقال في الصفحة نفسها ما هو أكثر من هذا صراحة وهو: “ونصب لكل بلدة متسلما من أهل الاسلام، ومرجع الكل هو مركز الحكم العمومي الذي في الشام، وفيها يقيم الحكمدار العام الذي هو شريف بك خزينة دار محمد بك باشا سابقا.. وكذلك مدير الحسابات الذي هو الخواجة يوحنا بحري وهو بمنزلة دفتر دار عمود أيالات سوريا، وأخيرا صيره مير لواء وصار يدعي بحري بك”. وقال معاصر آخر: “وهوفي 9 جماد الثاني 1249 عـ (1833م) حضر كتاب من شريف بك في حلب الى الأمير بشير الشهابي أن يأمر بعدد أهالي جبل لبنان، ويتحرر دفاتر بأسامي كل مقاطعة ببيان قراها، وتقسم على عشر مراتب، كل مرتبة فئة معلومة على قدر احتمالها بوجه العدل، وتختم الدفاتر من مشايخ القرى، وبعده تختم من أمراء المقاطعة وترسل الى عنده”.

 

المتسلم: كان لكل مدينة متسلم يتولى ادارة أعمال البلد ومراقبتها، ويقوم في أحوال كثيرة بالأعمال التي يقوم بها قضاة الصلح والمجالس البلدية.

 

المباشر: كان بمثابة أمين سر المتسلم، ويتولى أيضا وظائف الصراف أو مدير المال وادارة حسابات المدينة وأموال الفريضة والميري. وكان المباشرون عادة من المسيحيين، لأنهم كانوا أكثر من سواهم خبرة بالأعمال الحسابية.

 

ديوان المشورة: وألف في كل مدينة عدد سكانها من عشرين ألف نفس فما فوق مجلس سمي “ديوان المشورة” عدد أعضائه يتراوح ما بين 12 و21 عضوا مراعين في ذلك عدد السكان، وكان هؤلاء الأعضاء ينتخبون من بين أعيان البلد وكبار تجارها ويمثلون جميع المذاهب، ففي دمشق مثلا كان هذا المجلس مؤلفا من واحد وعشرين عضوا ينتخبون من بين أعيان البلد وكبار تجارها ويمثلون جميع المذاهب ، ففي دمشق مثلا كان هذا المجلس مؤلفا من واحد وعشرين عضوا من المسلمين والنصارى واليهود، ورئيس هذا الديوان كان من أهل البلد أيضا. ولم يكن هذا المجلس خاضعا لسلطة المتسلم أو حاكم البلد، وفي بيروت كان مؤلفا من اثني عشر عضوا وقد ورد ووصف ديوان المشورة باسهاب في كتاب حروب ابراهيم باشا المصري في سوريا والأناضول، ج1 ص37 و38 وهو:

 

“في 14 رمضان 1249 هـ (1834 م) أمر ابراهيم باشا يصير ديوان مشورة في بيروت، وجعل اثني عشر رجلا من أكابر بيروت أصحاب فطنة والمتسلم لا يبدي بشئ الا بما يبرز به الحكم من ديوان المشورة بموجب كتاب منه الى أرباب الديوان المذكورة، وهم ستة: اسلام عبد الفتاح حمادة ناظر المجلس، عمر بيه (بيهم)، أحمد العريس، حسن البربير، أمين رمضان، أحمد جلول، وستة نصارى وهم: جبرايل حمصي، بشارة نصر الله، الياس منسا، ناصيف مطر، يوسف عيروت، موسى بسطرس، وترتيب الديوان المذكور:

 

(1) تعيين وقت معلوم كل يوم الى حضور أرباب المجلس، وعند حضورهم يحرر الكاتب أسماءهم بقايمة برتبة حضورهم لا برتبة مقامهم. (2) الكاتب يحرر كل يوم الأشغال الموجودة عنده وحين يحضر أرباب المجلس يعرضها عليهم حتى يعملوها ولا تبقى من يوم الى يوم. (3) اذا كانت هذه الأشغال لا تنتهي في ذلك اليوم فيصير الاجتماع ثاني يوم قبل الوقت المعين بزمان كاف لنهيها. (4) الأشغال المذكورة المتبقية من اليوم السابق لا تتقيد في أعماله بل في اليوم الذي تنتهي فيه. (5) حين يقرأ الكاتب الدعوى يطلب الجواب ممن هو خبير بها من أرباب الديوان قبل الجميع، وبعده يأخذ رأي الباقي بحيث لا يبقى أحد بدون تكلم، واذا وجد واحد من أرباب المجلس تكلم مع آخر في حديث خارج عن الدعوى ينبه عليه الكاتب أولا وثانيا، فاذا ما أفاد فيحرر في مضبطة المجلس ان فلان مشغول يشغل أحاديث خارجة عن المصلحة، والكاتب لازم يحرر كلما يتقرر بالمجلس ولا يترك منه شيئا وكلما يتقرر يكون مكتوبا ولا يتحرر الا الذي موافق الحق. (6) بعد نهاية المجلس وتمام رؤية المصالح التي نظر فيها واستقر الحكم عليها باستحسان الجميع يحررها الكاتب بمسودة، وثاني يوم يبيضها ويوجهها لمحلاتها، وبعد ذلك تتقيد في سجل المجلس، وهذه الخلاصات بعد تحريرها يأخذها الكاتب كل يوم للمجلس لكي بعد نهايته يقرأها بأعلى صوته بحضور الجميع ، فان استحسنوا رأيا أوفق من الذي تقدم فيغيروا الخلاصة، وتتقدم الخلاصات لناظر المجلس فيختمها بختم مجلس الثورة، وبعد القيد تصل الى صاحب الأمر لكي يشرح عليها الى أصحابها أمرا باجراء ما يتضمن من الحكم، واذا ما كان سعادة الحاكم دار موجودا ينشرح من طرف متسلم آغا. (7) الكاتب يمسك دفترين الواحد الى صورة المجلس المتضمنة التقرير، والآخر الى الخلاصات من بعد ختمها ويلزم حفظ المسودات اليومية ضمن كيس أيضا”.

 

وكانت قرارات مجالس الشورة في المدن الصغيرة، تستأنف عند الاقتضاء الى مجلس مشورة عكا أو مجلس مشورة دمشق، واذا اقتضت الحال تميز قرارات هذين المجلسين الى القاهرة. على أنه لم يرو أنه حدث أي تمييز.

 

ومن التغييرات الادارية التي أحدثتها حكومة محمد علي القضاء على الحكم الاقطاعي، وجعل أصحاب الاقطاعات في بادئ الرأي موظفين بمرتبات مقررة لا تساوي عشر ما كانوا يستولون عليه من اقطاعاتهم، وتدرجت من ذلك الى عزلهم وتولية سواهم في أماكنهم. هكذا عاملت الامراء بني الحرفوش في بعلبك والأمراء آل شهاب في بلاد حاصبيا وراشيا، وكذلك زعماء فلسطين وغيرهم.

 

على أن هذه التنظيمات رغما عما لهامن حسن المظهر ومع ما في وضعها من حسن القصد، أدى تطبيقها الى خلل في الادارة واجحاف شديد بحقوق الأهلين، لأن الحكام كانوا يجهلون أو يتجاهلون حدود سلطتهم، فاتسع المجال للفوضى الادارية والاستبداد، نظرا لتجاوز كل منهم حدود وظيفته واعتدائه على سلطة غيره، وقيامهم بأعمال متناقضة وهذا ما يحدث عادة عن قلة الاختبار عند تطبيق النظامات الجديدة. انما أشاد أسباب الشكوى نشأ عن فساد العمال واستبدادهم بالعرية، من أمثلة ذلك أن شريف باشا حكمدار عربستان كان صارما مستبدا مولعا بجمع المال بطرق غير مشروعة، وحملته قرابته لمحمد علي على الظن أنه لا يحاسب على ما يفعل.

 

وكان اسماعيل باشا حاكم حلب محبا للمال، احتكر لنفسه الاتجار باللحوم والفواكه والبقول وما شاكل ذلك. وكان يستثمر بعض الأراضي الزراعية، ويبيع محصولاتها للتجار بالمزاد ولا يسمح لغير الذين اشتروا منه أن يبيعوا ما عندهم من جنس محصولاته، الا بعد ما يفرغ الذين اشتروا منه ما بيع ما اشتروه.

 

ويقال ان حنا بك بحري وأخاه جرمانوس الذي كان يتولى ادارة أموال وحسابات ولاية حلب لم يكونا أكثر نزاهة ورفقا بالأهلين من شريف باشا واسماعيل بك. وكان حنا بك يتخذ مختلف الوسائل ليزيد دخل الخزينة، وينال الحظوة لدى محمد علي وابراهيم باشا، من ذلك أنه كان يلزم بعض الاصناف التجارية في المدن كاللحم والبقول وغيرها بأسعار عالية، ويسمح للملتزمين ببيعها بأكثر من ضعفي ثمنها، فتربح الخزينة والملتزمون أرباحا فاحشة، كما يخسر الأهلون خسارة جسيمة لغلاء لوازم معيشتهم.

 

وكان جرمانوس يحذو حذو أخيه في سياسته المالية ، ويشارك اسماعيل بك حاكم حلب في ابتزاز الأموال. وكان المباشرون بمن تقدم، ولم يكونوا مكلفين بتقديم ضمان مالي يخشون فقده فيما لو اختلسوا الأموال، كما أن مرتباتهم كانت صغيرة لا تكفي لسد حاجاتهم واعاشة عائلاتهم، فالحاجة والفساد الاداري المنتشرة بين عمال الحكومة على اختلاف طبقاتهم، كانت تدفعهم الى اتخاذ أساليب مختلفة لكسب المال بطرق غير مشروعة. ووجود ديوان المشورة لم يحل دون وقوع المظالم بل كان هو نفسه مصدرا لكثير منها.

 

على أنه لا يسع المنصف الا الاعتراف بأن المبادئ التي شاء محمد علي أن يؤسس عليها الادارة والقضاء في سوريا كانت صحيحة بوجه عام، لأنها كانت ترمي الى تنظيم الأعمال وتوزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة، ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بالنصوص القانونية، وتدريب الأهلين على ادارة شئونهم المحلية، غير أن جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وفطرتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبة فعالة على أعمالهم، وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعاداتها، وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت تلك القوانين من أجلها.

 

ولابراهيم باشا فضل خاص في السنين الأولى بعد الفتح في ضبط الأحكام وشدة مراقبة الحكام واجراء العدل بين الأهلين، وقد كان شديد الوطأة على المستخدمين الذين يحيدون عن السبيل القويم، فعاقب كثيرين منهم بالطرد والضرب والحبس والاعتداء على أهل البلاد أو عدم النزاهة أو غير ذلك مما يخرج عن جادة الاستقامة، فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم الحكيم لملكت قلوب السوريين.

 

 

واخذ ابراهيم باشا في تنظيم سورية وتدبير امورها الادارية والسياسية والحربية، فعنى باقرار الامن والنظام في ربوعها، وامن الطرق، ومنع اعتداء البدو على غلات الاهالي واملاكهم وارواحهم.[1]

 

واخ من الوجهة الحربية يعنى بتوطيد مركز مصر في سورية، فأمن حدودها الشمالية وعنى بتحصين مضايق جبال طوروس لصد هجوم الترك اذا حدثتهم انفسهم بالزحف على الشام، ورمم حصون عكا وأسوارها، وشيد الثكنات والمستشفيات، وخطط الطرق الحربية، واستقرت الحاميات المصرية في اهم المدن السورية.

 

وبلغ عدد الجيش المرابط في سورية نحو سبعين الف مقاتل رابط معظمه في الجهات الشمالية القريبة من الحدود التركية.

 

واتخذ ابراهيم باشا مقره العام في انطاكية لموقعها الحربي وقربها من التخوم الشمالية وعين محمد شريف بك (باشا) حاكما عاما على سورية سنة 1832 ولقب حكمدار عربستان، وظل في معظم سنوات الحكم المصري يتولى ادارة الايالات السورية جميعا.

 

وجعل سليمان باشا الفرنساوي على ايالة صيدا (عكا)، وعين اسماعيل بك سنة 1837 حاكما لولاية حلب، وعين محمود نامي بك احد خريجي البعثات المصرية محافظات لبيروت وبقى في هذا المنصب من سنة 1833 الى سنة 1840.

 

ان الفوضى كانت سائدة على مالية السلطنة العثمانية من دخل وخرج سيادتها على غير ذلك من الشؤون، لان الانظمة لو وجدت لما أمكن العمل بموجبها الا بطريقة عامة لعجز حكومة الآستانة عن تنفيذ أوامرها ونظاماتها في الولايات البعيدة كالولايات السورية، فقد كان ولاة صيدا مثلا كأحمد باشا الجزار ثم عبد الله الخزندار يسيرون الأمور في البلاد التي يحكومنها حسبما شاءت أهواؤهم ومطامعهم. ومع أن الضرائب المفروضة على بلاد السلطنة كانت أنواعها ومقاديرها مقررة بوجه عام، وهي مال الميري والجزية والرسوم الكمركية – وأحيانا كانوا يلجأون الى احتكار بعض الأصناف – فأن الولاة لم يتقصروا على ذلك، بل كانوا يكلفون الأفراد والجماعات بدفع اعانات مختلفة ينتحلون لابتزازها شتى الأسباب.

 

وهذا جبل لبنان مع ما كان له من الامتياز الخاص، فيما أن حاكمه كان يتلقى خلعة الولاية من والي صيدا، كان أهله يكلفون ما يفوق طاقتهم دفعه من الأموال، ويسامون صنوف العذاب في تحصيلها. فالتولي على لبنان كان موضوع التنافس بين الأمراء وعرضه للمساومه بينهم وبين والي صيدا. فلما وقع التنافس بين الأمير بشير الكبير وبين طالبي الولاية من أقاربه، أكره الأمير على التنحي عن الولاية للأميرين قعدان وحيدر شهاب، لكن بعد حين رضى عنه الجزار وأرجعه الى الولاية “بعدما أخذ رهينة على المال ابنه قاسم” الخ، لكن “بعد مدة أيام ظهر ابنا الامير يوسف وكاخيتهم جرجس باز ونزلوا عكا .. فلبسهم الباشا حكام الجبل .. واستقاموا حكاما أيام. ومن طمبع الباشا رتب عليهم مالا كثيرا، وقبلوا فيه غصبا، وصار طلب الغرش من الناس بما يفوق الاحتمال. فمن اتصال الطلب هاجت العامة وطردوا أولاد الأمير يوسف ورجعوا الأمير بشير”.

 

على أنه لم يمض زمن طويل حتى عزل الأمير بشير وأعيد ابنا الأمير يوسف الى الحكم “تحت مال معلوم” و”أخذ جرجس باز يفرض المال على الناس من مشايخ وعامة ومطارنة ورهبان حتى ما بقى أحد سالم من دفع غرش حتى من الغريبة (الأجانب) وكل مدة يجد طلب وشئ ما له نهاية”.

 

أما حكومة محمد علي فقضت على هذه الفوضى، لكنها لم تخفف عن عواتق الأهلين الأثقال المالية، بل أضافت الى الضرائب التي كانت تجبى قبلا ضرائب جديدة وهي الفردة والدخوليات، واحتكرت محصول الحرير، وأوجبت دفع الأموال الأميرية عن الأملاك الموقوفة مع أنها كانت معفاة منها في عهد العثمانيين، ومع أنها ألغت الاعلانات التي كان يتقاضاها الحكام العثمانيون، فان الالغاء لم يك الا اسميا، لأنها أضافت الى مال الميري الاصلي جميع ما كان يبتزه الموظفون والملتزون في العهد العثماني، كما سنبين ذلك في الفصل التالي.

 

وعدا الضريبة العامة على العقار ، كانت حكومة محمد علي تجبى مالا خاصا عن الأشجار كالتوت والزيتون وغيره من الأشجار المثمرة تقدر بخمسة بالمائة من دخلها في سنة معتدلة الاقبال، وكانوا يحسبون ذلك بأن يفرضوا على كل أرض مشجرة مسطحها خمسون قدما قرشين ونصفا، يضاف الى ذلك بارتان عن كل قرض.

 

وكانت المغروسات الجديدة من هذه الأشجار تفرض عليها الضريبة من وقت غرسها، أي كانوا يتقاضون الضريبة عن بعضها، كالزيتون مثلا قبل أن يستثمره صاحب ببضع سنين، وهذا ما حمل كثيرين من الناس على العدول عن غرس الاشجار المثمرة.

 

الفردة أو الفرضة: هو ما فرضته حكومة محمد علي باشا على الذكور من مختلف المذاهب البالغين من العمر خمسة عشرة سنة الى ستين سنة. وكانت قيمتها 12 في المائة من دخل المكلفين، ولهذا كان يختلف مقدارها بحسب اختلاف درجات دخل المكلفين، انما كان لها حدان أعلى وأدنى، فلا تزيد عن خمسمائة قرش على المكلف المثرى، ولا تنقص عن خمسة عشر قرشا على المكلف الفقير. وقد شذت حكومة محمد علي عن هذه القاعدة في سنة 1839 حينما اضطرت الى المال، بسبب تجدد الحرب مع السلطان محمود، فضاعفت مقدار هذه الضريبة وجمعتها عن سنتين دفعة واحدة.

 

وقد كانت الفردة من أهم مصادر الدخل لخزينة محمد عي في سوريا، وكان يقوم بتقديرها وتوزيعها على طبقات المكلفين ديوان المشورة، لكن كانت الشكوى كثيرة من المحاباة في التوزيع. وتضاعفت الشكوى اذ أخذ عدد المكلفين بالتناقض بسبب الوفيات والتجنيد والمهاجرة، لأن الرجال الباقين في البلدة أو المقاطعة كانت تكلفهم الحكومة دفع ما كان مفروضا على الموفين والغائبين. أما اذا زاد عدد المكلفين في بلدة ما، فكانت تزاد الضريبة بنسبة زيادة العدد. وكان يعفى من دفع الفردة رجال الدين والموظفون الملكيون والعسكريون، كما أن الجنود لم يكونوا مطالبين بدفع الفردة في أثناء تجندهم، غير أن أهلهم أو مواطنهم كانوا يكلفون بدفعها عنهم.

 

رسوم الكمارك والدخوليات: كانت الرسوم الكمركية التي تستوفى من الأجانب اقل كثيرا من الرسوم التي تستوفى من رعايا الحكومة المحلية. على أن اللوم في ذلك لم يكن واقعا على حكومة محمد علي بل على الحكومة العثمانية التي خولت الأجانب الامتياز على رعاياها بمقتضى معاهداتها مع الدول الأجنبية. فبمقتضى تلك المعاهدات كان يدفع الرعايا الأجانب رسوما كمركية قدرها من نصف الى واحد بالمائة عن الأصناف المذكورة في التعريفة وثلاثة بالمائة عن الأصناف غير المذكورة فيها. أما الرعايا المحليون فكانوا يدفعون أضعاف ذلك مرارا في عهد الحكومة العثمانية، فخفضها محمد علي الى أربعة بالمائة عن جميع البضائع المذكورة في التعريفة وغير المذكورة فيها.

 

وكانت تجبى مثل هذه الرسوم عند ارسال البضائع من مدينة الى مدينة في داخل البلاد، ويكلفون فوق ذلك رسوم مختلفة، كرسم التسريح مثلا فتصبح جملة الرسوم التي يدفعونها من 6.2 إلى عشرة في المائة الى 12 بالمائة. بينما جملة ما يستوفي من الأجانب في مثل تلك الأحوال لم يكن ليتجاوز 3.2 بالمائة . على أنه كما ذكر قبلا كانت معاملة التجار الوطنيين من جهة الرسوم في عهد محمد علي أفضل منها في عهد الحكومة العثمانية، حيث كان يبلغ مجموع الرسوم ما بين 18 و21 بالمائة، ولهذا عجز التجار الوطنيون عن مجاراة التجار الأجانب، ليتخلصوا من الرسوم الباهظة وكانوا في مقابل ذلك يدفعون لأولئم الأجانب مبلغا قدره 3 أو أربعة بالمائة من قيمة بضائعهم.

 

 

رسم التسريح: وكان يستوفي رسم تسريح على المحصولات المحلية عند ارسالها من بلد الى آخر إما لأجل المقوطعية الخصوصية أو للاتجار به، أما الأجانب فكانوا مفين من رسوم التسريح اذ كانت المحصولات المطلوبة لأجل مصروفهم الخاص. وكان بعض موظفي القنصليات يسيئون استعمال هذا الامتياز فيطلبون مقادير كبيرة من المحصولات زاعمين أنها لازمة لسد حاجاتهم، فيستهلكون بعضها ويبيعون البعض الآخر.

 

رسوم الدخولية على الحيوانات: ان الحيوانات التي تدخل المدن كان يستوفى عنها عند دخول المدينة رسوم دخولية قدرها عن رأس البقر من 12 إلى 21 قرشا اذا لم يكن دخوله لأجل الذبح، ومن ستين الى سبعين قرشا اذا كان لأجل الذبح.

 

أما الغنم والمعزى والجمال فكانت تستوفي عنها رسوم سنوية.

 

الضريبة صنفا (الشونة): عدا مال الميري الذي كان يستوفى نقدا، كان أهالي كل ناحية يكلفون تقديم بعض ما يلزم الجيش من حصالاتهم، كالحبوب والسمن والزيت الخ. وكانوا يكلفون نقل هذه الحاصلات الى أقرب شونة عسكرية من بلدتهم، اما على دوابهم أو على دواب يستأجرونها بمالهم. ولم يقف الحيف عليهم عند هذا الحد، بل كانوا عند تسليم المقدار المطلوب منهم يجدونه ناقصا، لأن الحكومة على ما يقال كانت تستعمل ميزانين ومكيالين مختلفين في الوزن والكيل. فالميزان أو المكيال الكبير تتسلم بموجبه من الأهلين، والصغير تستعمله عند ما يكون التسليم منها اليهم. وكان الفرق بين الاثنين نحو الربع. فبسبب هذه المعاملة الجائرة، كان الملاك مكلفين بتسديد العجز صنفا أو دفع ثمنه نقدا.

 

دخل الخزينة وخرجها: ان حكومة محمد علي زادت الضرائب على السوريين زيادة فاحشة، ففي جبل الشوف وتوابعه لا غير كانت الزيادة من مال “الفردة” فقط 1.919.500 غرش، لكن بالرغم عن ذلك لم يكن مجمود الدخل كافيا للقيام بنفقات الحكومة. على أن أحوال سوريا حينئذ كانت شاذة، وكان فيها جيش جرار اضطرت حكومة محمد علي لحشده لاخماد الثورات، أو لتكون على استعداد لصد هجوم العثمانيين اذا حاولوا استرجاع سوريا. فالعجز الذي كان ينشأ عن ذلك كانت تستورده الحكومة من خزينة مصر.

 

 

وجعل على ادارة الشئون المالية حنا بك بحري احد اعيان السوريين، فصار صاحب النفوذ الاكبر في ادارة شئون الحكومة واحوالها، وقد ذكر المسيو جومار ان تعيين احد السوريين الاكفاء في هذا المنصب الكبير دليل على رغبة ابراهيم باشا في اسناد كبار المناصب الى ابناء البلاد، وهو ما لم يكن مالوفا في عهد الادارة التركية، وقال الدكتور مشاقة ، وهو معاصر للحكم المصري:

 

“لم يمض على حصار عكا زمان حتى ارسل محمد علي تفويضا الى حنا البحري في سن النظامات لحكومة سورية على النمط الحديث، وكان حنا البحري على جانب عظيم من اصالة الراي، وله القدح المغلي في السياسة المدنية، وكان العدل والانصاف شانه والنزاهة زمامه، لا فرق عنده بين القوى المثري والضعيف الفقير او المسلم والذمي، وكان يعاملهم بالقسط والعدل حسب وصية محمد علي باشا الذي كان عارفا ان لا قيام للدولة الا بالعدل والانصاف”.

 

وعين ابراهيم باشا لكل بلد متسلما اي حاكما يتولى ادارتها.

 

والف في كل مدينة يزيد عدد سكانها على عشرين الف نسمة مجلسا يسمى (ديوان المشورة) يتراوح عدد اعضائه بين 12 و21 عضوا ينتخبون من بين نبهاء (أعيان) البلد وتجارها، وتنظر هذه المجالس في مصالح كل بلدة ومطلوبات الميري واليها ترفع بعض الدعاوى للفصل فيها.

 

ووحد الادارة ووطد سلطة الحكومة المركزية، وابطل سلطة الامراء والرؤساء الاقطاعيين وخضد شوكتهم، وضرب على ايدي الاشقياء وقطاع الطرق وبسط رواق الامن في البلاد، ونظم طرق الجباية، وعامل الاهلين بالعدل والمساواة من غير تفريق بين الطبقات والمذاهب والاديان، وكان ذلك اجل اعمال الادارة المصرية في سورية.

 

ونشطت التجارة والزراعة في عهد الحكم المصري، فعمم ابراهيم باشا تربية دود القز (الحرير)، واكثر من غرس اشجار التوت لهذا الغرض، وغرس في ضواحي انطاكية اشجار الزيتون، وازدهرت زراعة العنب، وعنى باستخراج بعض المعادن ولاسيما الفحم الحجري في لبنان، وراجت التجارة واتسع نطاقها، وكثرت المعاملات بين سورية والبلاد الاوربية.

 

وقد كان دخل الولايات السورية اقل من الخرج اي ان غلاتها تقل عن نفقاتها، وخاصة لما يقتضيه الانفاق على الجيش الموزع على المدن من المال، فكانت الخزانة المصرية توازن بينها فتسد عجز الميزانية وتحتمل مصر هذا الغرم في مالها.

 

كانت الادارة المصرية في سورية رغم ما بها من عيون اصلح من الحكم التركي السابق، وحسب هذه الادارة فضلا انها اقرت الامن في البلاد واستنقذتها من الفوضى.

 

ويكفيك لتتحق مبلغ تقدم الادارة السورية في ظل الحكم المصري ان تقرأ ما كتبه مؤرخو سورية في هذا الصدد.

 

قال الاستاذ محمد كرد علي بك رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق خلال كلامه عن الفتح المصري:

 

“كان من اول اعمال ابراهيم باشا الجليلة في بلاد الشام ترتيب المجالس الملكية والعسكرية واقامة مجالس الشورى وغيرها من النظم الحديثة، وترتيب المالية، فجعل نظاما لجباية الخراج ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل، لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم، ولذلك لم يلبث الامراء والمشايخ وارباب النفوذ ان استثقلوا ظل الدولة المصرية. وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء، وينالهم من ذلك مصة الوشل، مع ان البلاد رات في ايام ابراهيم باشا ابطال المصادرات وتقرير حق التملك، وتوطد الامن في ربوعها، واحييت الزراعة والتجارة والصناعة، وعممت تربية دودة القز (الحرير)، واستخرجت بعض المعادن ولاسيما معدن الفحم الخجري في قرنايل (لبنان)، وفرض على لبنان 6782 كيسا يتقاضى الامير ضعفيها ويدخل في خزانته الخاصة المال الزائدة على المفروض.

 

“وأكد كثيرون ان بعمله هذا استعادت اكثر قوى حوران وعجلون وحماة وحمص وغيرها من اعمال الشام عمرانها القديم، واخربت بعض القلاع التي كان يعتصم بها الثائرون احيانا مثل قلاع جبل اللكام وقلعة القدموس، وقرب العلماء والشعراء، ورخص الاجانب في ارسال معتمديهم الى دمشق، وكانوا يمنعون من دخولها قبله، فينزل وكلاؤهم السواحل مثل صيدا وعكا وبيروت وطرابلس، ويقال على الجملة ان الناس حمدوا دولة محمد علي في الشام، ولم يتبرموا بها لو لم يقم ابنه ابراهيم باشا بايعاز ابيه بتجنيد الشبان ولو لم يثقل كاهل الاهلين بالضرائب، واقل الضرائب الشخصية 15 قرشا، واعظمها خمسمائة قرش، فان هذا مما نفرت منه بعض القلوب ولاسيما من كان يقع عليهم عبء معظمها مثل اهل حلب واهل دمشق”.

 

وقال الدكتور اسد رستم احد اساتذة التاريخ بجامعة بيروت الامريكية لمناسبة الكلام عن محمود نامي بك محافظ بيروت في عهد ابراهيم باشا:

 

“لما عزم عزيز مصر على ارسال بعض ضباط بحريته الى فرنسا وانجلترا لاتمام علومهم وممارسة الفنون الحربية انتخب حسن افندي الاسكندراني وشنان افندي والامير محمود نامي وارسلهم الى فرنسا، فتلقى محمود علومه العالية وتخصص في الرياضيات، ولما رجع من فرنسا ، عينه محمد علي باشا محافظا لبيروت، وابقاه في هذا المنصب سبع سنوات (1833-1840) تنشقت بيروت في خلالها نسيما منعشا من الغرب المتمدن، فاستيقظت من سبات العصور الوسطى، وخطت خطوتها الاولى في سبيل رقيها الحديث، وكان محمد علي باشا وابنه ابراهيم وعامله الامير محمود نامي لبيروت اول العثمانيين الذين اخذوا الافكار الحديثة فيما يتعلق بالحكومة ولاادارة وهم اول من وضعها، وضع الاجراء والتنفيذ، نعم ان سلطتهم في بيروت كان مطلقة، ولكنهم احكموا التدبير واحجموا عن الحجم الاستبدادي، فشكلوا في هذه المدينة من سكانها مجالس تباحثوا مع اعضائها في جميع اعمالهم المتعلقة فكان هناك مجلس للمشورة يدعى مجلس شورى بيروت وديوان للصحة واخر للتجارة”.

 

وقال سليمان بك ابو عز الدين احد ادباء سورية:

 

“على انه لا يسع المنصف الا الاعتراف بان المبادئ التي شاء محمد علي ان يؤسس عليها الادارة والقضاء في سوريا كانت صحيحة بوجه عام، لانها كانت ترمي الى تنظيم الاعمال وتوزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بالنصوص القانوينة، وتدريب الاهلين على ادارة شئونهم المحلية، غير ان جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وفطرتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبة فعالة على اعمالهم وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعادتها وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت تلك القوانين من اجلها، ولابراهيم باشا فضل خاص في السنين الاولى بعد الفتح في ضبط الاحكام وشدة مراقبة الحكام واجراء العدل بين الاهلين، وقد كان شديد الوطاة على المستخدمين الذين يحيدون عن السبيل القويم، فعاقب كثيرين منهم بالطرد والضرب والحبس للاعتداء على اهل البلاد او عدم النزاهة او غير ذلك مما يخرج عن جادة الاستقامة، فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم الحكيم لملكت قلوب السوريين”.

 

وقال في موضع آخر: “من التغييرات الاجتماعية التي نشات عن حكم محمد علي في سوريا اطلاق الحرية الدينية، ونشر روح الديمقراطية بالضرب على ايدي الزعماء والمتغلبين، ونزع السلطة من ايديهم، وانشاء العلاقة ما بين افراد الشعب وحكامه مباشرة، وتاليف مجالس مشورة تمثل الشعب بعض التمثيل ولها حق النظر في الشئون المحلية بعد ان كان النظر في جميع الشئون منوطا بحكام مستبدين”.

 

ثم قال في موضع آخر: لم تقم حكومة محمد علي في سوريا باعمال علمية وادبية ذات شأن ، فالمدارس التي انشاتها كانت قليلة العدد والتاثير، وكانت في معظم الاوقات مشتغلة بالفتح وتسكين الاضطرابات واخماد الثورات ومقاومة الدسائس والاعتداءات الداخلية والخارجية، على ان قيامها في سورية مهد السبيل لنهضة علمية ادبية، لان تنظيماتها استوجبت اختبار المتنورين لادارة الاحكام والقيام بالاعمال القضائية والمالية والكتابية، وسهلت قدوم الافرنج عن مرسلين دينيين وتجار وغيرهم، فانشئت بواسطتهم المدارس، كما ان ارسال بعض الشبان لدرس الطب في القطر المصري واستخدام بعض السوريين في حكومة محمد علي باشا انشا صلة ادبية دائمة بين القطرين فامتدت تلك الصلة ونتائجها الى وقتنا الحاضر ، وأدخلت حكومة محمد علي روحا علمية الى البلاد في اعمالها، فانشات محجرا صحيا في بيروت وبذلت اهتماما يذكر في الامور الصحية، وكانت تجرى فيها حسب مشورة الاطباء الصحيحة كما فعلت في دمشق بانشاء مصارف للمياه الراكدة، واستخدام المهندسين في ذلك وفي الانشاءات التي تحتاج الى معرفة فنية”.

 

هذا، وقد زار المارشال مارمون (الدوق دي راجوز)، سورية سنة 1834 فاجاب بما راه من اقرار السكينة والامن فيها، وكتب في رحلته يقول:

 

“اذا بقيت اعمال محمد علي وبقى الامن الذي بسطه فيما فتحه من البلاد كما صار اليه الان من الاستقرار الذي يدعو الى الاعجاب فان حالة هذه البلاد سينبه شانها وستتطور تطورا كبيرا.

 

ويقول المسيو لويس بلان المؤرخ الفرنسي في كتابه (تاريخ عشر سنوات):

 

“إذا اردنا ان نعرف ما افادته سورية من انتقالها من الحكم التركي الى حكم المصريين فما علينا الا ان نلقي نظرة على سهول انطاكية التي اكتست باشجار الزيتون وضواحي بيروت التي كثر فيها الكروم، والنشاط الذي انبعث في حلب ودمشق، صحيح ان محمد علي اظهر جنفا وقسوة في حكم سورية، ولكن في ظل هذا الاستبداد العارض الذي كان ضرورة ولزاما حيث سادت الفوضى في تلك البلاد، قد نالت سورية النظام والعمران”.

مظالم محمد علي

 

كثيرون من السوريين أملوا الخير من وراء تغلب حملة ابراهيم باشا على بلادهم، لأن من مزايا حكومة محمدعلي العمل على اقرار الأمن في البلاد، وانقاذها من الفوضى التي جعلت أرواح العباد وأموالهم تحت رحمة الأقويات والأشقياء، كما ان ابراهيم باشا كان قد وعد السوريين بأن سيعفيهم من التجنيد ويخفض الضرائب، ولا يكلفهم سوى بدفع الأموال الأميرية. والأموال الأميرية لم تكن عبثا ثقيلا عليهم في عهد الحكومة العثمانية، الا لما كان يرافقها من سوء المعاملة في التحصيل وابتزاز المبالغ الاضافية بحجج مختلفة.

 

وكان ابراهيم باشا قد حقق بعض الآمال على أثر احتلال سوريا، والشروع في ادارة أحكامها، فخفف عنهم الأثقال المالية، وأخذ ينشط الزراعة والتجارة فبدأ القوم يشعرون بالطمأنينة والرخاء والاخلاص للحكومة الجديدة، غير أن زمن الهناء والرخاء لم يطل. فقد ذكرنا في فصل سابق أن من أهم الأسباب التي حملت محمد علي باشا على الطموح الى الاستيلاء على سوريا هو رغبته بالانتفاع بما فيها من مال ورجال، ولذلك لم ينقض زمن طويل على امضاء اتفاق كوتاهية على الخطة الحكيمة التي كان ابراهيم باشا قد انتهجها في ادارة البلاد السورية حتى وردت عليه أوامر والده قاضية على آمال السوريين، موجبة عليهم الخضوع للسياسة العسكرية والاقتصادية التي جرى عليها في القطر المصري. فالأوامر التي أصدرها محمد علي الى ولده ابراهيم باشا في أوائل سنة 1834 أوجبت اجراء ما يلي:

 

1- احتكار الحرير في البلاد السورية. 2- تحصيل الفردة أي فريضة الرؤوس من جميع الرجال على اختلاف مذاهبهم. 3- التجنيد في البلاد الساحلية. 4- نزع السلاح من أيدي أهل البلاد.

 

ورغما عما لتنفيذا هذه الأوامر من سوء التأثير في عمران البلدان السورية، وفي شعور السوريين نحو حكومة محمد علي، ومع أنها تناقض الوعود التي كان قد قطعها ابراهيم باشا لأهل البلاد، فانه لم يتردد في تنفيذ أوامر والده. والطاعة العمياء لمشيئة محمد علي كانت من أظهر صفات ابراهيم باشا.

 

وقد لامه بعض الكتاب على مضيه في تنفيذ هذه السياسة في سوريا بدون أن يراجع والده في الأمر ويلفت نظره الى ما فيه من المجازفة، لأن ابراهيم باشا كان قد اكتسب خبرة شخصية باقامته في سوريا، واطلع على أحوال البلاد وعرف عنها وعن أهلها ما لم يعرفه والده. فان السوريين كانوا يئنون من جور الحكم العثماني لتكاليف كانت أخف وطأة من تلك التي فرضت عليهم في عهده، ولم يكن يخاف عليه أن من وقع بين شرين يختار أهونهما، وهو الميل الى الرجوع الى الحكم العثماني ، لاسيما ان الحكومة العثمانية ، وبعض الاوروبيين وفريقا من أهل البلاد كانوا يدسون الدسائس ويعملون على اثارة الفتن على حكومة محمد علي.

 

فلو أقام ابراهيم باشا على خطة الرفق في معاملة السوريين لازداد اخلاصهم للحكومة الجديدة، وزال أهم أسباب الثورات وتمكن من الانتفاع برجال سوريا ومواردها الاقتصادية انتفاعا مشروعا أكيدا، لأن السوريين بعدما تذوقوا طعم السكينة في أول عهده، صاروا يرون أن عود الحكم العثماني ليس لمصلحتهم، ولو لم تنقلب عليهم حكومة محمد علي وتحرجهم بما فرضته عليهم من التكاليف الثقيلة، لما خرجوا عليها المرة بعد المرة، بل لأصبحوا بأسرهم جيشا متطوعا لمقاومة كل اعتداء على سوريا من جانب الحكومة العثمانية، وللمحافظة على ما حصلوا عليه من بوادر الأمن والرخاء. كما أن انتشار السكينة والطمأنينة في بلادهم كان مما يمكنهم من توسيع نطاق الزراعة والصناعة والتجارة، فتنشأ عن هذا التوسيع زيادات عظيمة في الضرائب والمكوس لا يتذمر منها دافعوها متى أصبحوا يجودون بما يجدون.

 

انه لم المستبعد ان تكون أمور كهذه قد خفيت عن ابراهيم باشا وهذا ما يجعلنا على التساؤل عن الاسباب التي منعته من محاولة اقناع والده بالرجوع عن سياسة جمعت بين الاجحاف بحقوق السوريين، ونكث العهود التي كان قد قطعها لهم، وهو ما يؤدي حتما الى نفورهم من حكومته وعدم ثقتهم به. فمن رأي بعضهم أن اعتياد ابراهيم باشا اطاعة أوامر محمد علي اطاعة عمياء وشدة ثقته بحزمه وبعد نظره انسياه عهوده للسوريين، وحجبا عن بصره الأخطار التي تتعرض الحكومة لها بسبب نكث تلك العهود. على أن الأقرب الى المعقول هو أن محمد علي لم يقدم على فرض التكاليف السالف ذكرها الا بعد الوقوف على رأي ابراهيم باشا وان كليهما كان يرى ان من الحزم الاسراع في تقوية الجيش وحشد الأموال استعدادا للطوارئ، وان ذلك مما يستوجب تجنيد السوريين ومساواتهم باخوانهم المصريين في تأدية الضرائب والتسخير وما شاء كل ذلك، وعمدا أولا الى نزع سلاح السوريين ليبقوا كالطير المقصوص الجناح.

 

واغتر ابراهيم باشا بانتصاراته الباهرة على الجيوش العثمانية، فاستصغر شأن السوريين وبعدما اتخذ له حزبا منهم، توهم انهم لا يستطيعون جمع كلمتهم على المقاومة، ولا يجرأون على الانتفاض على الحكومة متفرقين. كما أن ابراهيم باشا مضى في تنفيذ أوامر والده بالتدريج فلم يشرع في نزع سلاح اللبنانيين وتجنيدهم الا بعد ما فرغ من نزع سلاح غيرهم وتجنيده. ولما جاء دور اللبنانيين أوهم المسيحيين أنه سيكتفي بنزع سلاح الدروز. وهكذا استمال المسيحيين اليه، لكنه ما كاد ينتهي من نزع سلاح الدروز حتى عمد الى نزع سلاح المسيحيين.

 

فلم يبق هناك شك في ان سياسة الرفق التي كان قد اتخذها في اول الامر، لم تكن الا تدبيرا وقتيا غايته تخدير أعصاب السوريين الى اجل مسمى. على أنه ثبت جليا لمحمد علي، لكن بعد خراب البصرة ان الشدة شر الوسائل لحكم الشعوب، وان السوريين الذين استصغر شأنهم في بادئ الرأي، كانت مقاومتهم له من أشد العوامل تأثيرا في انهاك قوى جيوشه، واتخذتها السياسة الاوروبية وسيلة لزعزعة اركان حكومته.

 

ويروى ان احدهم راه يوما قلق البال، فساله عما اذا كانت الدول الاوروبية سبب بلباله فأجابه: “ماذا؟ الدول الاوروبية؟ اني اضمها في علبة السعوط. انني اتالم من أولئك السوريين الاشرار الذين سيكونون سببا لجميع ويلاتي”. على أن تذمر محمد علي من صعوبة مراس السوريين لا يذكر في جانب ما فاقه هؤلاء من مر العذاب من حكومة محمد علي ، كما يتضح ذلك من اشباع الكلام عن المظالم والمغارم التي انزلتها عليهم.

احتكار الحرير

 

حينما بدا محمد علي باحتكار التجارة بمحصولات البلاد وصناعتها في القطر المصري، انتحل عذرا لذلك الاضطرار لحصوله على موارد تمكنه من انشاء الترع والمصارف العائدة منفعتها على الفلاحين. لان تلك المشاريع لم يكن في الامكان القيام بها بطريقة منظمة الا بواسطة الحكومة. فلما عمد الى اجراء مثل ذلك الاحتكار في محصول الحرير في سوريا تبين فساد تلك العذر، لان السبب الذي دعاه للاحتكار في مصر لم يكن موجودا في سوريا.

 

فالاحتكار كان يوجب على الاهالي بيع محصولات ارضهم الى الحكومة بالثمن الذي يقدره عمال الحكومة نفسها، وعدا ما كان هذه الطريقة من الحيف في تقدير الثمن، فانها كانت تحول دون تزاحم التجار والسماسرة على المشترى، فتحرم الملاك والفلاح من الحصول على ثمن عال لمحصولاته، وتثبط عزائم المنتجين، وتحرم السماسرة من الانتفاع برسوم السمسرة عما يشترون، فالربح الذي كان يجب أن يحصل عليه هذان الفريقان تسرب الى خزينة الحكومة التي شاركت الفلاح في تعبه، وحرمت السمسار عملا يقوم به. اما احتكار صناعة الحرير فعدا ما فيه من مزاحمة الحكومة للأهلين على ربح هم أولى به، فانه يحول دون تنشيط المشاريع المحلية، ويمنع المتمولين واصحاب العقول النيرة والهمم العالية من استثمار اموالهم وجهودهم.

الفردة والميري

 

ان الفردة كان لها تأثير سيئ في نفوس المسلمين بنوع خاص لانهم لم يعتادوا دفع مثلها من قبل، وكانت ثقيلة الوطأة على بوجه عام، لأن ما يفرض منها على بلدة او مقاطعة كانت مكلفة بدفعه ولو نفص عدد الرجال فيها، فمن كان ذا عائلة فيها ثلاثة أو أربعة شبان يكلف بالدفع عنهم جميعا، ولو مات بعضهم او كلهم اما بسبب المرض او في الحرب في سبيل الحكومة، واذا عجز عن ذلك فبلده او المقاطعة التي ينتسب اليها توزع المبلغ المطلوب على الرجال الموجودين.

 

وهذه التكاليف كانت تزداد سنة فسنة على الذين يقومون بدفعها، نظرا لازدياد عدد الغائبين والمفقودين موتا او قتلا او فرارا الى حيث لا تطالهم يد الحكام، خوفا من الحبس او الضرب والتعذيب. وقد كان رجال الحكومة يعاملون الأهلين بمنتهى القوة في تحصيل هذه الضريبة وغيرها من الاموال. وزادت حكومة محمد علي هذه المغارم تقدير الاموال الاميرية على الاملاك بطريقة جعلتها اشد وطأة على الملاكين مما كانت عليه في عهد الحكومة السابقة، حيث لم تقتصر على تحصيل ما الميري فقط بل اضافوا عليه كل ما كان يبتزه الملتزمون والعمال المحليون، واعتبروا المجموع مالا اميريا فعلى هذه الحالة ينطبق قول حافظ

 

وقد كان فين الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلما منظما

 

وقد وصف نوفل نوفل الطريقة الجائرة التي كان يتبعها مندوبو الحكومة لتقدير الاموال الاميرية فقال:

 

“وأول عملية يلزمه اجراؤها عند وصوله هو ان يطوف بنفسه على القرايا، قرية فقرية ومقاطعة فمقاطعة، ويتحقق من الفلاحين عن مقدار ما كان يتناوله منهم المتلزمون من غلال ونقود، وعن ميري ابقارهم وما يقدمون لهم من العوايد والرسميات والهدايا في المواسم والاعياد والافراح من كلي وجزئي، لأن المقاطعات كانت تعطى قبلا الى ملتزمين تحت بدلات معلومة، كما كان جاريا في مصر قبل حكومة محمد علي باشا… وأوهم الفلاحين حين أن قصد الحكومة من ذلك ابطال ما كان من تلك الاشياء ظلما فترفعه عنهم، وتحت هذا الظن والامل كان الفلاحون يقررون عن كل شي حتى عن ثمن حلوة حصان أو عن ربطة شعر ماعز يكون قدمها أحدهم للمتلزمين في احدى السنين ، ليصلح بها غربالا أو ليعملها عقالا لدابة من دوابه، ثم بعد ان يقيد هذا الباشكاتب كل هذه الاشياء بثمنها، ويرسخ مقدار مجموعها بتمامه مالا راتبا على كل تلك القرية، يتحصل منها كباقي الاموال الاميرية في كل سنة”.

 

وقال ايضا مشيرا الى ما تقدم:

 

“وندم الفلاحون غاية الندم على تقاريرهم اذ ما كان اخذه منهم المتلزم مرة في العمر مثلا ترتب عليهم مالا سنويا، وحزن الملتكمون على ما خسروه من سعة العيش ولذة السلطة والنفوذ في المقاطعات التي سلبت من أياديهم”.

 

ومما زاد من تعاسة الفلاحين وعجل في فقدان أملاكهم ، هو أن العسر كان يدفعهم الى الاستدانة من مرابين قساة القلوب، وبيع محصولاتهم مقدما بنصف قيمتها الحقيقية، فاذا أمحل الموسم أو لم يكف ثمنه لتسديد مطلوب المرابي، يمدد أجل الدين مضافا اليه الربا الفاحش، وينتهي الامر باضطرار الفلاح الى بيع أملاكه لاجل تسديد ديونه.

السخرة

 

وزاد الاهلين ضنكا تسخيرهم وتسخير حيوانات النقل لاشغال الحكومة ، فمن امثلة ذلك ما رواه نوفل نوفل ايضا حيث قال:

 

” فلا يقدر أحد من أية رتبة كانت من الاهالي في المدن فضلا عن القرى ان يحمي دابته ويحافظ عليها ولو جعل معلفها داخل داره، فان الضابط المسحى بالتفكجي له سلطان ان يخلع الابواب ويكسر الاقفال، ويفوت هاجما الى الدار ويجرها قهرا جبرا ويركبها لاي عسكري او ضابط اراده، ويكون صاحبها مجبورا بان يستأجر لها رجلا يرسله معها لاجل عليقها وليحضرها له عند انتهاء عملها، والا لا دعوى له اذا ضاعت عليه، وفي اكثر ايام السنة كان يمتنع الفلاحون عن النزول الى المدينة، لانه لا يمكن ان ينزل اليها الفلاح الا ويتسخر هو ودابته او هو وحده ودابته وحدها، فيجره الضابط الى حيث اراد، واذا تعند معه أصابه من الضرب الأليم والعذاب المفرط ما يجعله ان يخضع لارادته رغما عن انفه”.

 

وكانوا يرسلون البنائين الى عكا وقولاق بوغاز وغيرها من الاماكن التي تبعد عن أوطانهم مسيرة يوم أو أيام، ويكرهونهم على العمل بربع الأجرة. ومن مظالم السخرة انهم كانوا يكلفون المكارين نقل الفحم الحجري من معدن قرنايل باجرة زهيدة، وبما ان الفحم المحفور حديثا تكون فيه رطوبة تتبخر عن تعرضه للشمس والهواء في اثناء نقله مسيرة ساعات عديدة فيجف وينقص وزنه، فكانوا يلزمون المكارين بدفع ثمن الفرق في الوزن الناشئ عن فعل الطبيعة، فيفقدون اكثر اجرتهم او كلها ظلما وعدوانا.

 

ومن فظائع البلص والتسخير هي ان الحكومة عملت بالمثل المشهور فكانت تكيل بمكيالين وتزن بميزانين، فتأخذ بمكيال او ميزان يزيد على الميكال او الميزان الذي تعطى به والذي فرضت التعامل به بين الناس كما بينا قبلا في الكلام عن الضرائب.

 

ولم يقتصر حيف الحكومة على الملاكين او المكارين بل شمل افقر الطبقات وهي طبقة العامل الفقير الذي يأكل خبزه بعرق جبينه ويعول ذويه من اجرته اليومية. فمن هؤلاء من كان يستخدم في قطع الاشجار في الغابات، فاذا قطع شجرة ووجدت لاي سبب من الاسباب غير صالحة للغرض الذي تطلبه الحكومة يحرم اجرته. نعم ان الحكومة كانت تترك له حرية التصرف في الشجرة التي تمسك عنه اجرة قطعها، غير أن بعد الغابات عن المدن كان يحون دون الانتفاع بها.

 

ومن المظالم التي ذكرها نوفل نوفل بعد ان عدد اضرار السخرة ما يلي قال:

 

“والأعظم من ذلك جميعه اخراج الناس من بيوتها لاجل اسكان العساكر التي لا تفتر من الجولان في البلاد وخاصة مدن الساحل فلا يرثون لانين شاكي ولا يرحمون دمعة باكي، فترى النساء والارامل فضلا عن المتزوجات من المسلمين والنصارى دايرات في الاسواق يتوقعن مأوى يأوين اليه، وقد يتفق البعض منهم أنهم بعد مقاساة العناء يجدون محلا، لكنهم لا يستقرون فيه برهة الا وتأتي العساكر وتخرجهن منه، أيضا ولا يعفى من ذلك احد لا كبير ولا صغير الا من كان ذا رتبة معروفة بين خدام الميري”.

 

“وكثيرا ما تتعطل المساجد والمدارس لتجعل عنابر لوضع الذخائر والمهما”. وقد ذكر نوفل نوفل حوادث من هذا النوع منها ما حدث في دمشق فانهم “أخذوا جملة جوامع ومدارس نزلوا بها عساكر مثل الجامع الذي في الخياطين والمدرسة التي بلصق بين عبد الله باشا والمدرسة التي قاطع حبس باب البريد والجامعة الذي بالدرويشية وجامع المعلق”.

التلاعب بأسعار العملة

 

ومن مساوئ حكومة محمد علي في سوريا التلاعب بأسعار العملة تلاعبا يعود بالخسارة على عموم الأهلين فتربح خزينتها ما خسره أهل البلاد، وذلك أنها تخفض أسعار العملة عندما تشرع في تحصيل الضرائب، فاذا انتهى جمع الضرائب عادت الى رفع أسعارها، وهذه المعاملة شبيهة بما ذكرناه قبلا عن الكيل بمكيالين والوزن بميزانين.

التجنيد

 

كان السوريون ينفرون من التجنيد اشد النفور، لانهم لم يألفوه ، وان كانوا قد الفوا الحروب. فالحروب التي كانوا يشتركون فيها قبلا كانت تقع في داخل البلاد، وكان المحارب لا يغيب عن أهله وبلدته الا اياما معدمودة ويسير الى الحرب مع اخوانه ومواطنيه جنبا الى جنب وتحت راية زعيم يعطف عليه، وتجمع به جامعة المبدا والمصلحة والوطن. أما التجنيد الاجباري في جيش ابراهيم باشا فكان خاليا من كل هذه المزايا، ولم يكن له شريعة خاصة ولا نظام معروف ولا وقت معين. وكانت طريقة تنفيذه فظيعة، اجمع على استنكارها جميع المعاصرين حتى ان كلوت بك وهو من كبار رجال حكومة محمد علي ومن الحائزين على ثقته لم يسعه الا الاعتراف بانها كانت طريقة هجمية، وان كل ما رواه الرحالون عن فظاعتها مطابق للواقع.

 

وقال نوفل نوفل عن التجنيد انه “لم يكن له وقت ولا نظام مخصوص ولا على اصول القرعة الشرعية، بل في اي وقت صدرت به الارادة، يدور العساكر في المدن والقرى للقبض على اي من وجدوه، واذا وشى باحد انه مختبئ في احد البيوت، تهجم العساكر وتدخل الى ذلك البيت فجاة للبحث عنه، فتصبح اسواق المدن ودكاكينها خالية وتتعطل حوانيت البيع والشراء، ويهرب الشبان منها ، ويمتنع الفلاحون واهل القرية عن المجئ اليها وكثيرون من الناس كانوا يقطعون السبابة، وهو الاصبح الذي يلي الابهام من الكف اليمين او يقلعون العين الشمال ليخلصوا من الدخول الى هذه الخدمة”.

 

وروى بوجولا ما خلاصته: “كان ثاني يوم وصولنا الى حمص يوم سوق، ففتحوا ابواب المدينة مبكرين ليمكنوا الفلاحين من الدخول وبيع حاصلات أراضيهم. فنحو الساعة العاشرة صباحا بينما كانت مدينة حمص غاصة بالناس، حركة السوق على اشدها، وكان الباعة والمشترون قائمين باعمالهم بسلام، أقفلت ابواب المدينة اقفالا محكما، وانقض فجاة على الجمهور نصف الاي من الجنود المشاة، فساد الاضطراب الشديد مدينة حمص باسرها، كانما هجمها عدو لدود. فقبض الجنود على الشيوخ والشبان من مسلمين ومسيحين سواء أكان من التجار او الصناع او العمال، وقادوهم جميعا مشدودي الوثاق، يتبعهم عدد عديد من النساء والبنات يملأ صراخهم ونواحهن الفضاء، وهن يقرعن صدروهم ويلطمن وجوههن حزنا على أبنائهن واخوتهم وآبائهن الذين اقتادهم الجنود كرها بدون ان يترك لهم فرصة لمشاهدة مسقط راسهم او التزود بنظرة من ذويهم.

 

أما المقبوض عليهم، فسيقوا الى دار احدى الثكنات العسكرية، وهناك جرى فرزهم، فأخلي سبيل المسيحيين والشيوخ من المسلمين، وسبق الباقون الى مصر كما يساق الجناة تخفرهم فرقة من الجند ويرافهم اليأس من الرجوع الى أوطانهم، لانهم سيبقون جنودا مدى الحياة.

 

وهكذا كان كلما شاء محمد علي زيادة قوة جيشه، يغتنم فرصة حلول عيد أو اقامة سوق بيع وشراء او اذا اقتضت الحال بجمع الناس لحفلة دينية، ويحيط المجتمعين بفرقة من الجنود الذين يعتمد عليهم فيقومون بالمهمة التي انتدبوا لها بالصورة التي سبق وصفها”.

نزع السلاح

 

ان السلام آلة شديدة الضرر بالأهلين ونزعه من أيديهم بعد قيام الحكومة بحفظ الامن واقرار السكينة في البلاد أمر لا غبار عليه، على أنه في كل حال أحدث استياء عظيم بين السوريين، لأنهم اعتادوا نقل السلاح واستعماله منذ أجيال، وكان الزعماء يفاخرون بالتفاف رجالهم حولهم وخم شاكو السلاح.

 

فالسلاح كان احد مظاهر القوة والعظمة التي عز على السوريين فقدها. غير أن تجريد الأهلين منه له ما يبرره، انما الخطة التي اتبعت في التنفيذ كانت جائرة، وكان فيها من القسوة والترويع ما في جميع اجراءات حكومة محمد علي في التجنيد وجمع الضرائب وغيرها. وكانت تعتبر كل رجل مسلحا ولو كان ممن لم يقتنوا السلاح مطلقا، وتكرهه على تسليمها سلاحا يضطر الى مشتراه لينجو من ضغط الحكام.

انشاء الخمارات

 

اجازت حكومة محمد علي انشاء الخمارات وحصرت فيها حق بيع الخمور للأفراد ولأصحاب المقاهي. فكان من ذلك اباحة شرب الخمر جهارا لأي شاء حتى المسلمين، وقد غالب بعض الجهال بالجهر في استعمال الخمر، وفي اثناء احدى الزينات التي اقيمت في دمشق ركب رجل مسلم جملا ووضع علي جانب “مسودتين” من العرق وسار في موكب عظيم متنقلا في احياء المدينة، وكان الرجل يتناول العرق من حين الى آخر وهو على ظهر الجمل على مرأى من ألوف من المسلمين، الذين كادوا يتميزون غيظا مما شاهدوا.

 

فانشاء الخمارات أثار في نفوس المسلمين ثائر الغيرة الدينية، كما أنه حرم عددا كبيرا من المسيحيين الأرباح التي كانوا يصيبونها من المتاجرة به، واستولت الحكومة على ما كان مخزونا عندهم من العرق والنبيذ لأجل البيع، ولم تدفع لهم سوى ربع ثمنه، كما انها استولت على الآلات المستعملة لصنع الخمور وعلى المواعين المعدة لحفظ الخمر في بيوت النصارى واليهود. وهكذا أوجب انشاء الخمارات استياء جميع الطوائف السورية

الشخصيه العدائيه

الشخصيه العدائيه


تحليل شخصية المقابل وعلاج الفرد لنفسه,
وعلاج المجتمع, والعلاج يكون تفكيري, ولنعلم ان علاج امراض الشخصية من الامور
الصعبة لصعوبة تقبل المقابل واقعه وصفات ذاته. لكن علينا ان نقف حدا دون سوء حالته
وان نسعى لأبقاءه على وضع مستقر للحيلولة دون تحولها لمرض نفسي اخر له ارتباط
بشخصيته يكن اسوأ حالا.
_شخصية سلبية عدوانية
هي شخصية تبدو طيبة ومسالمة ولكنها في الحقيقة تحمل عدوانا هائلا في داخلها يخرج بطريقة غير مباشرة وغير معلنة في الخفاء, و هذه الشخصية لم تعتاد المواجهة والتعبير عن رايها والدفاع عن نفسها فهي تعرضت في طفولتها للقهر والكبت لذلك فهي تخاف الناس ولا تصارحهم بمشاعرها الحقيقية
a. الشخصية السلبية العدوانية”Passive Aggressive Personality”
· حيث يرفض هذا الشخص القيام بالمهام والأعباء الاجتماعية والعملية
· ويشكو من أن الناس لا تفهمه ولا تقدره
· وهو جدّي “مجادل”
· ويظهر الحقد والحسد لمن هم ناجحين ومحظوظين
· ودائم النقد للسلطات واعتمادي على الأخرىن ويعتقد أنهم يجب أن يؤدوا المهام التي يفترض أن يقوم بها
· وفي النهاية غالباً لا يوجد أصدقاء مؤيدين له فهو متقلب بين العنف والجرأة والندم والغيرة_______________________

الاضطرابات
الشخصية:personality
disorder))
الشخصية (personality):هي مجموعة الخصائص المغروسة في ذات الشخص
والتي تنعكس بتصرفاته وافعاله في المواقف المختلفة وتعامله مع الاخرين في
المجتمع..

الشخصية
المريضة نفسيا:هي مجموعة التصرفات غير الملائمة والمختلفة (المتغيرة) او التصرف
بجملة من الافعال بصورة غير طبيعية وبشكل غير سوي ولا مستقيم.

نسبة الامراض الشخصية التي حددت كمرض والتي يجب عندها المعالجة حوالي5-15% من
المجتمع. وهذه نسبة كبيرة وخصوصا في مجتمعنا مقارنة مع دول الغرب اذ تقل هذه
النسبة كثيرا, لماذا؟؟..الجواب هو لتعاملهم مع الامراض النفسية كأي مرض لا يعيب
عليهم احد في ذلك, و لانهم اكثر اهتماما في مجال الرقابة النفسية للطفل واحواله
وسلوكه ولهم من الاخصائيين والباحثين والدراسات النفسية في ذلك كثير.اذن, على الوالدين ان يحرصا على
استقراء شخصية ابنائهم ويتم هذا من خلال زجهم واختبارهم في مواقف تجعلهم هم المسؤولين
فيها وتقديمهم للمجتمع.. فيضطروا للتعامل على اساس سلوكهم, عندها بامكان الوالدان
ان يعرفا الشخصية التي يتحلى بها الطفل وما هي نمط تصرفاته فيتوصلا الى معرفة
الكثير من الصفات كالكرم والبخل والخوف والتهور والايثار وتقديم المساعدة والمحبة
والبغضاء وغيرها من الصفات الوراثية والمكتسبة, حينها يكن بالامكان تغيير وتقويم
ما هو غير مرضٍ او يؤدي بالنتيجة الى ان يحمل صفة سيئة تستمر وتقوى عنده, ويكونا
بذلك قد تفاديا من ان يُصاب الطفل بشخصية مريضة, وما حالات العداوة و البُخل
والتكبُر والعناد والحسد والحقد واللؤم والسفاهة والكآبة وغيرها من ذميم الاخلاق
الا مثالا لشخصيات قد أُصيبت باحد امراض الشخصية ولم تجد محيطا حريصا, صالحا يُعالجها..وان
لنا في شخصيات اهل البيت عليهم السلام المثل الاعلى في الاقتداء بهم واتباع نهجهم
واخلاقهم..وكما في دعاء مكارم الاخلاق ترى من المعاني التي ترقى بالنفوس وتُكمّلها(وهب
لي معاليَ الاخلاق)… نذكر هنا انواع الشخصيات المريضة نفسيا والتي تصنف الى ثلاث
مجاميع:

المجموعة
الاولى:وتشمل( شخصية العظمة paranoid personality – والشخصية الانطوائية التخيليةschizoid personality – والشخصية
الانفصاميةschizotypal
personality )

المجموعة
الثانية: وتشمل( الشخصية العاطفية التمثيلية hysterionic personality – والشخصية النرجسية narcissitic personality
– والشخصية العدائية للمجتمعantisocial )

المجموعة
الثالثة:و تشمل (الشخصية الاعتماديةdependant
– والشخصية الوسواسية obsessive- والشخصية السلبية- العدوانيةpassive-aggressive – والشخصية الشاعرية Effective-personality والشخصية الخائفة المضطربةAnxious personality والشخصية التجنبيةavoidant personality )

ونوضح
باختصار كل نوع من هذه الشخصيات التي تعتبر مريضة نفسيا

شخصية العظمة
(Paranoid
personality):
وصاحب هذه الشخصية يكون شكوكي ميالا الى نقد حتى الاصدقاء والاقارب, وعديم الثقة
بالآخرين, كثير الجدل, عنيد, يحس بان نفسه مهمة جدا.. هذه الصفات في هذه الشخصية
تجعل الشخص صعب التعامل في المجتمع و لا تستمر له علاقات صداقة وزواج وعمل لانعدام
الثقة بكل شخص وهو يظن انه يملك مواهب خاصة وقدرات فذة رغم انه غير متميز بعمله وهو
لا يقبل باي فكرة او استشارة او نصيحة ظنا منه انه هو الصواب و الاكثر فهما من
غيره. ومثل هذه الشخصية هو في معرض الاصابة بداء العظمة(وهو مرض منفصل عن هذه
الشخصية).

هذه الشخصية
نهينا عن الاتصاف بها وليبادر الفرد المصاب نفسه الى تغيير سلوكه واسلوب تعامله
فقد ينتج منها التكبر والتعالي والعجب والادعاء الكاذب, وهي من ذميم الاخلاق كما
نعرف…لكن لا يستطيع الاخرون ان يعالجوه لصعوبة تفهمه لواقعه فلا يكن بايدينا حل
الا التثقيف عن هذه الامراض فيطلع بذلك
المريض نفسه على عيوبه علّه ينتبه لاصابته بهذا المرض النفسي ويبادر في علاجها
بالسلوك الصحيح.

الشخصية
الانطوائية التخيلية (Schizoid
personality):
وصاحب هذه الشخصية يتميز بالبرود العاطفي والانفصال والانعزال عن المجتمع بما فيه
العائلة التي يعيش فلا يشعر بمشاعر محبة تجاه الآخرين ويميل الى التخيل والتفكير في
مستقبل هو يرسمه والاماني والتخيلات وقد تولد ما يسمى باحلام اليقظة التي تفتك
بوقت الانسان وتشغل له تفكيره بما لا اساس له.. وهذه الشخصية ايضا لا تستطيع اقامة
علاقة زواج وصداقة بسبب جمود المشاعر والانعزال الذي يملكها صاحب هذه الشخصية
ويميل الى ترك العمل في المجتمع وينسجم افضل مع اعمال الذكاء والتفكير وهذه
الشخصية لا علاقة او ارتباط لها مع مرض انفصام الشخصية.

لكن بامكان
المحيطين به ان يعالجوه بان يخرجوه من هذا الجو والانعزال واجباره على التعامل مع
الاخرين والاحتكاك بهم, طبعا في انتقاء الافراد المميزين الذين يتعامل معهم الاثر
في تقويم سلوكه نحو الافضل..وليشغل تفكيره بما هو مفيد ومنطقي بحيث يبعده عن جو
التخيل والاوهام..

الشخصية الانفصامية(Schizotypal personality): وهذه الشخصية لها ارتباط
وثيق بانفصام الشخصية, طبعا -انفصام الشخصية هو مرض بحد ذاته- ويتميز بانه شكوكي
منعزل عاطفيا وله بعض التصرفات غير الطبيعية وتشتت الافكار وشرود الذهن وشكوك
تراوده بأن الآخرين ينتقدونه ويتحدثون عنه بسوء.

الشخصية
العدائية للمجتمع(Antisocial
personality):
وتتميز بأنها شخصية عديمة الشعور بالذنب تميل الى العنف لا يستفاد من تجارب الحياة
ولا يهتم بمشاعر الآخرين ولا يستطيع ان يستمر بالارتباط مع المجتمع بعلاقة تعاونية
ودية, فهو يثور ويغضب ويشك بمن حوله ويجلب الالم لهم من دون الشعور بالندم وحتى لا
يحترم القانون والاصول ولديه مشاكل كثيرة في حياته وعمله وامثال هذه الشخصية كثير
ونحن نرى على مر التاريخ الكثير من الطواغيت الذين بلغت فيهم هذه الصفة الى حد
اوصلتهم ليقوموا بالاعمال الشنيعة ليشبعوا هذه الرغبة والصفة فيهم..وما بيد الغير
الا ان يتجنب المواجهة معه خشية اثارة هذه الصفة اكثر فيه…

الشخصية التمثيلية
العاطفية(Histrionic
personality):
صاحب هذه الشخصية له صفات متداخلة مع انواع الشخصيات الاخرى وهو ذو شخصية
رقيقة المشاعر والاحاسيس تحب جلب الانظار اليها, شخصية اعتمادية تبحث عن
العلاقات العاطفية, تُجرح مشاعرها بسهولة, يستخدم لغة الوجه وحركات الجسم بكثرة..
يكثر نوع هذه الشخصية عند النساء فتكون مرهفة الاحاسيس تحب ان ينظر اليها الآخرين و
تستخدم المكياج بكثرة والملابس الجذابة, وقد تكون كثيرة الكذب بانها محط اعجاب الاخرين,وتدعي
ان الكثير تقدم لها لانها كما تظن فريدة من نوعها..

هنا يكون
العامل الرئيسي في تقويم السلوك هو الجو العائلي الذي يعيش فيه الفرد وللتوعية
والرقابة من قبل الوالدين الاثر في اعتدالها, والانتباه والتصرف بحذر من ان تجرح
مشاعر الفرد المصاب فيكون بذلك قد تسبب في تدهور حالته بدل معالجتها..

الشخصية النرجسية:(Narcissitic personality):اشتق اسم هذه الشخصية
بالانكليزية من امير يوناني عاشق لنفسه, وهذه الشخصية تتميز بتضخيم حب الذات (مع
ان لكل شخص شيء من حب الذات).. لكن في هذه الشخصية يزداد حب الذات الى الحد الذي
ثؤثر على تصرفات الانسان وافعاله فهو يشعر بالتميز ونكران جميل الآخرين اليه, ويتمنى
لو انهم خلقوا لاجله وفي خدمته.

على الفرد
ان يسعى لتغيير هذه الصفة في نفسه عند ملاحظة ذلك, وفصّلت في هذا العنوان
ابواب كثيرة للتخلص من حب الذات ونكران الجميل, وفي مثل هذه الشخصية تكون مسؤولية
الوالدين كبيرة في بداية حياة الطفل وملاحظة ذلك عنده والسعي للحد من ان يتفاقم
عنده حب الذات الى هذه الدرجة..

الشخصية
الوسواسية القهرية:obsessive
compulsive personality)):
المستوى المتوسط من هذه الشخصية مفيدة للمجتمع والفرد, ويتميز صاحب هذه الشخصية
بانه يميل الى الدقة والترتيب والتأكد بنفسه من الاعمال والسيطرة بنفسه على الامور.
مستقر العواطف والمشاعر ويحب ان يسير الآخرين على هذا المنوال, لكن تضخيم هذه
التصرفات تؤدي بالشخص الى ان يصاب بالوسواس القهري ويتحول من الاستقرار
العاطفي فيما بعد الى الانفصال العاطفي ..و بعدما كانت تصرفاته مفيدة للمجتمع تصبح
عديمة الفائدة ومضرة للشخص ومقيدة لحياته و السيطرة على الامور بنفسه فتكون تفكيرا
مزعجا له.. فعليه الحد من ان يفرط في التدقيق من ابسط الامور والاهتمام الزائد بما
لا مبرر له و سلوك الفرد لهذا النوع من الشخصية ومعالجتها يتم بنفسه لنفسه..

الشخصية الخائفة
المضطربة(Anxious
personality):
وهي شخصية تشعر بالقلق والخوف المستمر والخوف من النقد ورفض تحمل المسؤولية فيتجنب المواقف التي تفرض بها المسؤولية علية
فيبدأ بالشعور بالحقارة وانه ليس ممن يُعتمد عليه. هذه الصفات تجعل الشخص تجنُبيا,
ليس بسبب انعدام العاطفة ولكن بسبب الهروب من المسؤولية وامور المجتمع التي تفرض
عليه تحمل ذلك.

وهذه الصفة
بامكان الوالدان معرفتهما من اول حياة الطفل, اذ ان حالة الخوف والاضطراب والتهرب
لا تخفى عليهم فتعالج تدريجيا بتعريضه للمواقف التي يضطر فيها لاتخاذ القرار وتحمل
مسؤولية ذلك وفي احتكاكه مع الاخرين والافضل ان يكون تعامله مع محيط له من الجرأة
والكفاءة في التصدي للمواقف حتى يغير من شخصيته – وان لاقى صعوبة في ذلك- لكن مع
مرور الوقت ربما تعالج عنده هذه الحالة وحتى لو انها صفة وراثية فأنه بالامكان
تغييرها تبعا لمحيط واساليب العيش مع المجتمع..

الشخصية
الاعتمادية(dependent
personality):صاحب
هذه الشخصية يتميز بانه فاقد الثقة بنفسه اعتماديا على الغير يشعر بالضعف في
قدراته سهل الانقياد للغير يرفض تحمل المسؤولية ولا يبدي المساعدة.

ولتقويم
سلوكه على المهتمين به وبشخصيته ان يعززوا من ثقته بنفسه اكثر, ويحاولوا ان يكلفوه
ببعض الاعمال السهلة التي يمكنه القيام بها و الإشادة بذلك لترفع من مستوى ثقته
بنفسه اكثر..

الشخصية السلبية
العدوانية(passive-aggressive
personality):صاحب
هذه الشخصية يتميز بالعداء الواضح ويعبر عن ذلك بطرق مختلفة فمثلا في العمل مع
الاخرين يرفض المساعدة باعذار ويتهرب من ذلك, وعندما يجبر على فعل شيء ينفذه ببطيء
ويتعمد عدم كفائته في ادائه وليس تعاونيا فهو لا يعطي الغير شيئا من نفسه, ونجد ان
صفة الايثار وابداء المساعدة عنده معدومة. فاين هو من قول الله عز وجل (..وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ)؟…واين هو من هذا المعنى(جسمه منه في تعب والناس منه في راحة)؟

الشخصية
الشاعرية(Effective
personality)
:تشمل الشخصية الكئيبة وتتمثل بالكآبة الدائمة والتشاؤم,والشخصية التفائلية وتتمثل
بصفات معاكسة للسابقة وهي تفائلية ومبتهجة من دون سبب, والشخصية الوسطية بين هاتين
الشخصيتين(cicloid) وهي غير ثابتة المزاج متنقلة
بين صفاتها وهذه الشخصية الاكثر معاناة من النوعين السابقين.فاحيانا تتنقل في وقت
قصير بين الحزن والفرح, واحيانا تسودها حالة الحزن لفترات طويلة وكذلك الفرح.

فعلى
المجتمع ان يتعامل بحذر ولطف مع صاحب هذه الشخصية خصوصا الكئيبة منها, لانه في حال
تشاؤم دائم واذا ما تفاقمت حالة الالم والحزن والكآبة عنده وسوء معاملة الاخرين له
ونظرتهم اليه, قد يؤدي به الحال الى (الانتحار)وهي خسارة عندها من المسؤول!..ولماذا
لم تتوفر سبل العلاج واسلوب التعامل الصحيح مع هكذا مرضى؟..مع انه بالامكان اخذ
بعض انواع ادوية الاكتئاب في وقت مر بازمة معينة الى حين تجاوزها…

كيف تنشأ
شخصية الانسان؟؟

يولد
الانسان وتولد طباعه وصفاته معه وفقا للضوابط الوراثية والتي لها الدور الاساس في
تحديد تلك الصفات وللمجتمع الذي يعيشه الفرد
الدور في التغيير رقيا او تسافلا..

وهذه
الصفات هي شخصية الانسان التي تكون مغروسة في ذاته وتنمو معه من الطفولة وترسم
تعامله مع الاخرين وبها يقدم ذاته الى المجتمع وعلاقاته مع غيره ويكتسب قدرة
التعامل مع الغير والرضا عن نفسه والآخرين في الحياة. شخصية الانسان بمثابة وصمته
ومن خلالها ياخذ المجتمع انطباعهم عنه ..وقد لوحظ من خلال الارتباط الواضح بين
الوراثة وشخصية الانسان وجد ان الشخصية
الانفصامية,والشخصية الوسواسية لها ارتباط عائلي وثيق ..ولوحظ ان للشخص المصاب
بانفصام الشخصية schizophrenia
عائلة تمتلك شخصية انفصامية أي
تمتلك بعض صفات انفصام الشخصية ولكن لم يصلوا بعد الى درجة ان يكونوا مصابون بها
وقد يصابوا فيما بعد عند ظرف صعب ويطلق على هذه العائلة التي فيها شخص مصاب
بانفصام الشخصية وهم ذو شخصية انفصامية بالمصطلح- تحت مظلة الانفصام(schizophrenia under umbrella)..اي انهم لهم الاستعداد
والقابلية للاصابة بالمرض وتتحكم في ذلك الظروف النفسية والظروف المحيطية..وكما
عرفنا ان لوضع العائلة وتصرف الوالدين اثره في بناء الشخصية وخصوصا الشخصية
العدائية كانفصال الوالدين في الطفولة والتوتر العائلي وكذلك شخصية الوالدين العدائية
للمجتمع لها دور كبير في بناء وتحديد شخصيته وكذلك علاقته بالمجتمع وفي اكثر
الاحيان تكون هذه هي العوامل الرئيسية التي تجعل منه شخصية عدائية للمجتمع..

نقول اخيرا
لعلاج امراض الشخصية ينبغي:

تحليل شخصية المقابل وعلاج الفرد لنفسه,
وعلاج المجتمع, والعلاج يكون تفكيري, ولنعلم ان علاج امراض الشخصية من الامور
الصعبة لصعوبة تقبل المقابل واقعه وصفات ذاته. لكن علينا ان نقف حدا دون سوء حالته
وان نسعى لأبقاءه على وضع مستقر للحيلولة دون تحولها لمرض نفسي اخر له ارتباط
بشخصيته يكن اسوأ حالا.

اذن يمكننا
ان نقول على كل فرد ان يكتشف شخصيته والسلبيات التي عنده وسلوكياته غير الصحيحة
قبل ان تتحول لملكة راسخة عنده وليكتشف شخصية من هو مسؤول عنهم وعن تربيتهم ويضع
لذلك الحلول..والفرد بأمكانه ان يصلح نفسه بنفسه فيحصل بذلك على الشخصية الكاملة
السوية

الخردل

يعتبر الخردل من التوابل المعروفة منذ القدم، وقد ذكر اسمه في الكتب القديمة، وقيل عنه إن الخردل بالنسبة للمعدة مثل السوط بالنسبة للحصان، وقد استخدم الفراعنة بذور الخردل لعلاج الآلام العضلية والذبحة الصدرية، إذ أنها تحتوي على زيت ذي طعم لاذع، ويعتبر مفيداً في تخدير الأعصاب ويستخدم مسحوق الخردل للتخفيف من الاحتقان في بعض أجهزة الجسم، ومن فوائده أنه يقوي القلب ويقي من الإصابة بتصلب الشرايين، وارتفاع ضغط الدم، وهو يساعد على طرد الغازات من المعدة والأمعاء، وينشط حركة الأمعاء.
ويعتبر الخردل من أفضل المواد الفاتحة للشهية، ويفيد الخردل من يعاني من الإرهاق والروماتيزم إذ يستعمل موضعياً، أو يمكن إضافة كمية من مسحوق الخردل إلى ماء الحمام قبل الاستحمام في البانيو، حيث يفيد أيضاً من يعاني من النقرس، وآلام المفاصل والعضلات.
وقد ذكرت كتب الطب القديمة أن الخردل يمنع البلغم، وينقي البشرة، ويفتت الحصى ويدر البول، ويعالج الثعلبة، وعرق النساء والصداع، وبالطبع لا يسمح بالإكثار من استخدامه، خصوصاً بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من عسر الهضم.
الخردل (بالإنجليزية: Mustard) نباتات تنتمي إلى جنسي الكرنب (باللاتينية: Brassica)و(باللاتينية: Sinapis).
دعا اليونانيون القدماء الخردل “سينابي” أي (الذي يزعج العين)، والكلمة (بالإنكليزية: Mustard) مشتقة من اسم أحد المكونات القديمة لهذا التابل وهو Mustum (عصير العنب غير المختمر)، وتشير الكلمة إما إلى نبتة أو إلى بذورها.
و مع أن بذور الخردل غير مؤذية عندما تكون جافة، إلا أنها تطلق مادة مهيجة تَسمي إيزوتيوسيانات الأليل (بالإنجليزية: Allyl Isothiocyanate) عندما تطحن مع الماء. فهذا الزيت العطري الحاد الذي ينتج طعم الخردل، يهيج الأغشية المخاطية مما يدفع عيون متذوق الخردل إلى الإدماع. وهذا يفسر دون شك لماذا صار الإيبرت، وهو سلاح كيميائي استعمل في الحرب العالمية الأولى، يدعى غاز الخردل، مع أنه لا يحتوي علي الخردل مطلقاً.
في القرآن:
1- ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء/47).

2- ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان/16).

ما هو الخردل؟
خردل (Mustard) هي بذور وزيت. مدرة للبول وهاضمة وتنشط التمثيل الغذائي بالجسم. الخرادل هي عدة أنواع نباتية (لها علاقة بالشلجم) تتبع الجنس Brassica. (1)

والخردل وهو نبات حولي عشبي يصل ارتفاعه إلى حوالي متر وهو غزير التفرع وخاصة الأغصان الموجودة في قمة النبات. أوراقه بسيطة متبادلة وهي مفصصة الأزهار صفراء اللون توجد على هيئة عناقيد. أما الثمار فهي اسطوانية وقرنية الشكل حيث توجد على هيئة قرون رفيعة ذات لون أصفر بني، تحتوي بذوراً كروية الشكل صغيرة الحجم. (2)

أنواع الخردل:

1 – البيضاء والمعروفة علمياً باسم Brasica alba يصل ارتفاع هذا النوع الى حوالي 90 سم وبذور هذا النوع أكبر من بذور النوع الأساسي المعروف علمياً باسم Brasica nigna والمعروف بالخردل الأسود.

2 – السوداء أو الخردل الأسود Brasica nigha وهذا أكبر حجماً من الخردل الأبيض ولون البذور في هذا النوع أسود وعليه سمي الخردل الأسود.

3- العينية والمعروفة علمياً بأسم Brasica jumcae وهي تشبه النوع الأسود إلا أن إزهارها صفراء باهتة ولون بذورها بني فاتح.

الجزء المستخدم من الخردل:
من الخردل يتم استخدام البذور وكذلك الأوراق.

المحتويات الكيميائية للخردل:
تحتوي بذور المستردة على جلوكوزيدات ثيوسيانية وتختلف هذه المادة باختلاف نوع الخردل فمثلاً الخردل الأبيض يحتوي على مركب السينالبين (Sinalbin) بينما الخردل الأسود يحتوي على المركب سنجرين (Sinigrin) في حين الزيت الثابت المستخلص من بذور النوع الأول غير سام بينما النوع الثاني يكون ساماً وذا طعم لاذع حريف ويعطي آلاماً حادة عندما يوضع على البشرة.
الخردل في الطب الحديث:
1- يستخدم الخردل أو ما يسمى بالمستردة على نطاق واسع فهو ينبه المعدة حيث يضاف مع الأطعمة كأحد التوابل المشهورة.
2- هو من أفضل المواد لفتح الشهية ومعزق ومنبه للقلب.
3- يدخل الخردل في عمل اللصقات الجلدية الوضعية لعلاج الروماتزم.
4- كما يستخدم في عمل صمامات للأقدام لإزالة الإرهاق الشديد وحالات الروماتيزم المفصلي.
5- لقد أكدت الدراسات أن الخردل مطهر أو معقم جيد حيث تكفي 40 نقطة من الخردل في لتر ماء ليكون مطهراً جيداً للجلد دون أن يؤذيه.
6- والخردل يثير اللعاب.
7- يسهل المضغ ويزيد من إفرازات العصارات الهاضمة وينشط حركات الأمعاء.
8- يفيد الخردل من الناحية الوقائية للشلل المخي وانفجار شرايين الدماغ وتصلب شرايين المخ وضغط الدم.
كيفية استعماله:
1- إن تناول حبتين فقط من بذور الخردل قبل الطعام تساعد في طرد غازات المعدة والأمعاء.

2- يؤخذ لضعف القلب والتهابات الرئة والنقرس حيث يؤخذ 200 ملجرام من مسحوق الخردل ويضاف إلى ماء الحمام قبل الاستحمام.

3- أما التهاب الفم واللوز والحنجرة فيؤخذ ثلاث ملاعق صغيرة من مسحوق بذور الخردل وتضاف إلى ملء كوبا من الماء المغلي ويستعمل على هيئة غرغرة.

4- أما الصداع وآلام قرحة المعدة وضعف الدورة الدموية واحتقانات الرئة فيستخدم الخردل على هيئة لبخات من مسحوق الخردل مع الماء الدافي، حيث يعجن المسحوق بالماء الدافىء يتم تفرد على قطعة قماش سميك ثم توضع فوق الجلد مباشرة لمدة ربع إلى نصف ساعة بحيث توضع في حالات الصداع فوق مؤخرة الرأس وآلام قرحة المعدة فوق أعلى البطن، واحتقان الرئة وعسر التنفس وضعف الدورة الدموية فوق الظهر، والتهابات الحنجرة فوق الرقبة.

الخردل في الطب القديم:
1- لقد استخدم الفراعنة: بذور الخردل حيث جاءت البرديات الطبية القديمة ضمن مشروع مسهل وأخر للذبحة الصدرية ودهاناً لأوجاع العضلات والمفاصل.

2- يقول ابن البيطار في الخردل: “يقطع البلغم وينقي الوجه ويحلل الأورام وينفع مع الجرب ويحل القوابي ووجع المفاصل وعرق النساء، ويستعمل في اكحال الغشاوة مع العيون ويزيل الطحال والعطش، وللخردل قوة تحلل وتسخن وتلطف وتجذب وتقلع البلغم إذا وضع وإذا دق وضرب بالماء وخلط بالشراب السملي أو نومالي وتغرغر وافق الأورام العارضة في جنبتي أصل اللسان والخشونة المزمنة العارضة في قصبة الرئة. وإذا دق وقرب من المنخرين جذب العطاس ونبه المصدوعين والنساء اللواتي يعرض لهن الاختناق من وجع الأرحام وإذا تضمد به نفع من النقرس وإبراء داء الثعلبة وإذا خلط بالتين ووضع على الجلد إلى أن يحمر وافق عرق النسا وورم الطحال، ينقي الوجه إذا خلط بالعسل أو الشحم أو بالموم المذاب بالزيت. قد يخلط بالخل ويلطخ به الجرب المقرح والقوابي الوحشة إذا خلط بالتين ووضع على الأذن نفع من ثقل السمع والدوي العارض لها إذا أكل بعسل نفع من السعال، وإذا بدخانه طرد الحيات طرداً شديداً يسكن وجع الضرس والأذن إذا قطر ماؤه فيها.

3- أما ابن سينا في قانونه فيقول: “يقطع البلغم وينقي الوجه وينفع من داء الثعلبة يحلل الأورام الحارة، ينفع من الجرب والقوابي، ينفع من وجع المفاصل وعرق النسا، ينقي رطوبات الرأس يشهي الباه وينفع من اختناق الهم”.
المعلومات الغذائية
تحتوي كل ملعقة كبيرة من بودرة الخردل (6.3غ)،
السعرات الحرارية: 32
الدهون: 2.28
الدهون المشبعة: 0.12
الكاربوهيدرات: 1.77
الألياف: 0.8
السكر: 0.43
البروتينات: 1.64
صناعة الخردل
تعتمد نكهة الخردل القوية جداً علي طرق صنعه والمكونات الداخلة في صناعته. فبذور الخردل تفرز وتغسل وتجفف، ثم تمزج بنسب معينة، وأحياناً تطحن البذور قبل نقعها مدة 24 ساعة في خل التفاح أو عصير الحصرم، تهرس كل المكونات هرساً خفيفاً، ثم تفصل في منخل لتصفية القشر وزيادة كثافة الزيت.
ويصنف طعم الخردل إذا كان قوياً أو معتدلاً علي مقدار التصفية للمعجون. ينضج بعد ذلك المعجون في 48 ساعة، وهنا تتطور نكهة الخردل التابلية طبيعياً، فيما يفقد مرارته. وتعمل إضافة اللون أو الطحين أو التوابل، علي تخفيف نكهته القوية أو علي زيادتها. ثم يضاف أنواع النكهات العطرية المعروفة مثل الروكفورت والطرخون.
قام قدماء الإغريق والرومان باستخدامه كسلعة للمبادلة التجارية.
الاستعمالات
عرف الخردل بخصائصه في المعالجة من مرض الأسقربوط، فلم تكن أية باخرة هولندية تبحر دون أن تحمل معها بعضاً منه في عنبرها، وكان يستعمل في الحمامات أو على كمادات. كما أن أوراق نبتة الخردل الأبيض تؤكل في السلطة، ولا تزال تستعمل كعلف مطمور. والزيت الصالح للأكل الذي يستخرج من البذور لا يفسد بسهولة، وهو يزود الصناعة في آسيا بوقود للإنارة ويضفي نكهة إلى أطباق عديدة.
وللخردل استعمالات طبية عديدة.

قصة موسى الكليم‏

هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام

قال تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [مريم: 51-53] وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن، وذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة مطولة، وغير مطولة، وقد تكلمنا على ذلك كله في مواضعه من التفسير، وسنورد سيرته ههنا من ابتدائها إلى آخرها من الكتاب والسنة، وما ورد في الآثار المنقولة من الإسرائيليات، التي ذكرها السلف وغيرهم، إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.

قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ }[القصص: 1-6] .

يذكر تعالى ملخص القصة، ثم يبسطها بعد هذا فذكر: أنه يتلو على نبيه خبر موسى، وفرعون بالحق أي: بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له.

{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } أي: تجبر وعتا وطغى، وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الرب الأعلى، وجعل أهلها شيعًا أي: قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع.

{ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } وهم: شعب بني إسرائيل، الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض، وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر، الفاجر، يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف، وأردئها وأدناها.

ومع هذا { يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح: أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام، من أنه سيخرج من ذريته غلام، يكون هلاك ملك مصر على يديه، وذلك والله أعلم حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر، من إرادته إياها على السوء وعصمة الله لها.

وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل، فتحدث بها القبط فيما بينهم، ووصلت إلى فرعون، فذكرها له بعض أمرائه وأساورته، وهم يسمرون عنده، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل، حذرًا من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر.

وذكر السدي، عن أبي صالح، وأبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى في منامه كأن نارًا قد أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط، ولم تضر بني إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة والحزأة، والسحرة، وسألهم عن ذلك فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء، يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان.

ولهذا قال الله تعالى: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ } وهم: بنو إسرائيل.

{ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } أي: الذين يؤل ملك مصر وبلادها إليهم.

{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } أي: سنجعل الضعيف قويًا، والمقهور قادرًا، والذليل عزيزًا، وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل، كما قال تعالى: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا… } الآية [الأعراف: 137] .

وقال تعالى: { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 57-59] . وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله.

والمقصود: أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى، حتى جعل رجالًا وقوابل يدورون على الحبالى، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته.

وعند أهل الكتاب: أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم. وهذا فيه نظر، بل هو باطل، وإنما هذا في الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى كما قال تعالى: { فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم } ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى: { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا }.

فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولًا، حذرًا من وجود موسى. هذا والقدر يقول: يا أيها ذا الملك الجبار، المغرور بكثرة جنوده، وسلطة بأسه، واتساع سلطانه، قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع، ولا يخالف أقداره، أن هذا المولود الذي تحترز منه، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، لا يكون مرباه إلا في دارك، وعلى فراشك، ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك، وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعداه، ولا تطلع على سر معناه.

ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك، على يديه لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين، وتكذيبك ما أوحى إليه، لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السموات والأرض هو الفعال لما يريد، وأنه هو القوي الشديد، ذو البأس العظيم، والحول والقوة والمشيئة، التي لا مرد لها.

وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل، بسبب قتل ولدانهم الذكور، وخشي أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار، فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون، فأمر فرعون بقتل الأبناء عامًا، وأن يتركوا عامًا.

فذكروا أن هارون عليه السلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأبناء، وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم، فضاقت أمه به ذرعًا، واحترزت من أول ما حبلت، ولم يكن يظهر عليها مخائيل الحبل.

فلما وضعت ألهمت، أن اتخذت له تابوتًا، فربطته في حبل، وكانت دارهما متاخمة للنيل، فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت، فأرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا ذهبوا استرجعته إليها به.

قال الله تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } [القصص: 7-9] .

هذا الوحي: وحي إلهام وإرشاد، كما قال تعالى: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا.. } الآية [النحل: 68-69] وليس هو بوحي نبوة، كما زعمه ابن حزم، وغير واحد من المتكلمين؛ بل الصحيح الأول، كما حكاه أبو الحسن الأشعري، عن أهل السنة والجماعة.

قال السهيلي: واسم أم موسى أيارخا، وقيل: أياذخت.

والمقصود: أنها أرشدت إلى هذا الذي ذكرناه، وألقي في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني، فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك، وإن الله سيجعله نبيًا مرسلًا، يعلي كلمته في الدنيا والآخرة، فكانت تصنع ما أمرت به، فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها، فذهب مع النيل فمر على دار فرعون { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ }.

قال الله تعالى: { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } قال بعضهم: هذه لام العاقبة، وهو ظاهر إن كان متعلقًا بقوله: { فَالْتَقَطَهُ } وأما إن جعل متعلقًا بمضمون الكلام، وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، صارت اللام معللة كغيرها، والله أعلم.

ويقوي هذا التقدير الثاني قوله: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } [القصص: 8] وهو الوزير السوء { وَجُنُودَهُمَا } المتابعين لهما { كَانُوا خَاطِئِينَ } أي: كانوا على خلاف الصواب، فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة.

وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرون على فتحه، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون: آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف. وقيل: إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى. وقيل: بل كانت عمته، حكاه السهيلي، فالله أعلم.

وسيأتي مدحها والثناء عليها في قصة مريم بنت عمران، وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلمفي الجنة.

فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب، رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية، والجلالة الموسوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه، أحبته حبًا شديدًا جدًا، فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه. فاستوهبته منه ودفعت عنه { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ } فقال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. أي: لا حاجة لي به والبلاء موكل بالمنطق.

وقولها: { عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا } [القصص: 9] وقد أنالها الله ما رجت من النفع، أما في الدنيا فهداها الله به، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه.

{ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } وذلك أنهما تبنياه؛ لأنه لم يكن يولد لهما ولد.

قال الله تعالى: { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أي: لا يدرون ماذا يريد الله بهم، حين قيضهم لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده، وعند أهل الكتاب: أن التي التقطت موسى دربتة ابنة فرعون، وليس لامرأته ذكر بالكلية، وهذا من غلطهم على كتاب اله عز وجل.

{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [القصص: 10-13] .

قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهم: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا } أي: من كل شيء من أمور الدنيا، إلا من موسى.

{ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي: لتظهر أمره، وتسأل عنه جهرة.

{ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } أي: صبرناها وثبتناها { لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.

{ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ } وهي ابنتها الكبيرة، قصيه أي: اتبعي أثره، واطلبي له خبره { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } قال مجاهد: عن بعد. وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده، ولهذا قال: { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } وذلك لأن موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة، فلم يقبل ثديًا ولا أخذ طعامًا، فحاروا في أمره، واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل.

كما قال تعالى: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ } فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق، لعل يجدون من يوافق رضاعته، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه، إذ بصرت به أخته فلم تظهر أنها تعرفه بل قالت { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ }.

قال ابن عباس: لما قالت ذلك، قالوا لها: ما يدريك بنصحهم وشفقهم عليه؟.

فقالت: رغبة في صهر الملك، ورجاء منفعته، فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها، وأخذ يمتصه ويرتضعه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا.

وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك، فاستدعتها إلى منزلها، وعرضت عليها أن تكون عندها، وأن تحسن إليها، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلًا وأولادًا، ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي، فأرسلته معها، ورتبت لها رواتب، وأجرت عليها النفقات و الكساوي والهبات، فرجعت به تحوزه إلى رحلها، وقد جمع الله شمله بشملها.

قال الله تعالى: { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي: كما وعدناها برده ورسالته، فهذا رده، وهو دليل على صدق البشارة برسالته.

{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وقد امتن الله على موسى بهذا ليلة كلمه، فقال له فيما قال له: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه: 37-39] .

إذ قال قتادة، وغير واحد من السلف أي: تطعم، وترفه، وتغذى بأطيب المآكل، وتلبس أحسن الملابس، بمرأى مني وذلك كله بحفظي وكلائتي لك، فيما صنعت بك لك، وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري.

{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } [طه: 40] وسنورد حديث الفتون في موضعه، بعد هذا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ } [القصص: 14-17] .

لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها، واحسانه بذلك، وامتنانه عليها، شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى، وهو احتكام الخلق والخلق – وهو سن الأربعين – في قول الأكثرين، آتاه الله حكمًا وعلمًا، وهو النبوة والرسالة التي كان بشر بها أمه حين قال: { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }.

ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر، وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك، حتى كمل الأجل وانقضى الأمد، وكان ما كان من كلام الله له وإكرامه بما أكرمه به، كما سيأتي.

قال تعالى: { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا } قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي: وذلك نصف النهار.

وعن ابن عباس: بين العشائين.

{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ } أي: يتضاربان ويتهاوشان.

{ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ } أي: إسرائيلي.

{ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ } أي: قبطي. قاله: ابن عباس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق.

{ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } وذلك أن موسى عليه السلام كانت له بديار مصر صولة، بسبب نسبته إلى تبني فرعون له، وتربيته في بيته، وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاها، وارتفعت رؤوسهم بسبب أنهم أرضعوه، وهم أخواله أي: من الرضاعة.

فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى عليه السلام على ذلك القبطي، أقبل إليه موسى { فَوَكَزَهُ } قال مجاهد أي: طعنه بجمع كفه.

وقال قتادة: بعصا كانت معه.

{ فَقَضَى عَلَيْهِ } أي: فمات منها. وقد كان ذلك القبطي كافرًا مشركًا بالله العظيم، ولم يرد موسى قتله بالكلية، وإنما أراد زجره وردعه ومع هذا { قَالَ } موسى { هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } أي: من العز والجاه { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ }.

{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 18-21] .

يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفًا – أي من فرعون وملائه – أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره، إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم، ويترتب على ذلك أمر عظيم، فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم { خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } أي: يلتفت.

فبينما هو كذلك، إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس يستصرخه أي: يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله، فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته، قال له: { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ }.

ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي، الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي، فيردعه عنه ويخلصه منه، فلما عزم على ذلك، وأقبل على القبطي { قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ }.

قال بعضهم: إنما قال هذا الكلام: الإسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس، وكأنه لما رأى موسى مقبلًا إلى القبطي، اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله: { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } فقال ما قال لموسى، وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس، فذهب القبطي فاستعدى موسى إلى فرعون. وهذا الذي لم يذكر كثير من الناس سواه.

ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي، وأنه لما رآه مقبلًا إليه خافه، ورأى من سجيته انتصارًا جيدًا للإسرائيلي، فقال ما قال من باب الظن والفراسة: إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس، أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي حين استصرخه عليه ما دله على هذا، والله أعلم.

والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس، فأرسل في طلبه، وسبقهم رجل ناصح عن طريق أقرب { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ } ساعيًا إليه مشفقًا عليه فقال: { قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } أي: من هذه البلدة { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } أي: فيما أقوله لك.

قال الله تعالى: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } أي: فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه قائلًا:

{ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }[القصص: 21-24] .

يخبر تعالى عن خروج عبده، ورسوله، وكليمه من مصر خائفًا يترقب، أي: يتلفت خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون، وهو لا يدري أين يتوجه، ولا إلى أين يذهب، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها.

{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ } أي: اتجه له طريق يذهب فيه.

{ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي: عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود. وكذا وقع أو صلته إلى مقصود، وأي مقصود.

{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } وكانت بئرًا يستقون منها. ومدين هي: المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام. وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء.

{ وَلَمَّا وَرَدَ } الماء المذكور.

{ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ } أي: تكفكفان عنهما غنمهما أن تختلط بغنم الناس.

وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات.

وهذا أيضًا من الغلط، وكأنه كنَّ سبعًا ولكن إنما كان تسقي اثنتان منهن، وهذا الجمع ممكن إن كان ذاك محفوظًا، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتان.

{ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي: لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء لضعفنا، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره. قال الله تعالى: { فَسَقَى لَهُمَا }.

قال المفسرون: وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم، وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة، فتجىء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده، ثم استقى لهما وسقى غنمهما، ثم رد الحجر، كما كان.

قال أمير المؤمنين عمر: وكان لا يرفعه إلا عشرة رجال، وإنما استقى ذنوبًا واحدًا فكفاهما.

{ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } قالوا: وكان ظل شجرة من السمر. روى ابن جرير، عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف.

{ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } قال ابن عباس: سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل، وورق الشجر، وكان حافيًا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وأنه لمحتاج إلى شق تمرة.

قال عطاء بن السائب: لما { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أسمع المرأة.

{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [القصص: 25-28] .

لما جلس موسى عليه السلام في الظل، و { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } سمعته المرأتان فيما قيل، فذهبتا إلى أبيهما، فيقال: إنه استنكر سرعة رجوعهما، فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السلام، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } أي: مشي الحراير { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } صرحت له بهذا، لئلا يوهم كلامها ريبة، وهذا من تمام حيائها وصيانتها.

{ فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } وأخبره خبره، وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر، فرارًا من فرعونها، قال له ذلك الشيخ: { لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي: خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم.

وقد اختلفوا في هذا الشيخ من هو؟ فقيل هو: شعيب عليه السلام، وهذا هو المشهور عند كثيرين، وممن نصَّ عليه الحسن البصري، ومالك بن أنس، وجاء مصرحًا به في حديث، ولكن في إسناده نظر.

وصرَّح طائفة بأن شعيبًا عليه السلام عاش عمرًا طويلًا بعد هلاك قومه، حتى أدركه موسى عليه السلام، وتزوج بابنته.

وروى ابن أبي حاتم وغيره، عن الحسن البصري أن صاحب موسى عليه السلام هذا اسمه: شعيب. وكان سيد الماء، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين.

وقيل: إنه ابن أخي شعيب.

وقيل: ابن عمه.

وقيل: رجل مؤمن من قوم شعيب.

وقيل: رجل اسمه يثرون، هكذا هو في كتب أهل الكتاب، يثرون: كاهن مدين، أي: كبيرها، وعالمها.

قال ابن عباس، وأبو عبيدة بن عبد الله: اسمه يثرون، زاد أبو عبيدة وهو ابن أخي شعيب، زاد ابن عباس صاحب مدين.

والمقصود أنه لما أضافه، وأكرم مثواه، وقصَّ عليه ما كان من أمره، بشَّره بأنه قد نجا، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها: { يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } أي: لرعي غنمك، ثم مدحته بأنه قوي أمين.

قال عمرو ابن عباس، وشريح القاضي، وأبو مالك، وقتادة، ومحمد بن إسحاق، وغير واحد: لما قالت ذلك قال لها أبوها: وما علمك بهذا؟

فقالت: إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال: كوني من ورائي، فإذا اختلف الطريق فاقذفي لي بحصاة، أعلم بها كيف الطريق.

قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: صاحب يوسف حين قال لامرأته أكرمي مثواه، وصاحبة موسى حين قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.

{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، على صحة ما إذا باعه أحد هذين العبدين، أو الثوبين، ونحو ذلك أنه يصح لقوله: إحدى ابنتي هاتين، وفي هذا نظر لأن هذه مراوضة لا معاقدة، والله أعلم.

واستدل أصحاب أحمد على صحة الإيجار بالطعمة، والكسوة، كما جرت به العادة، واستأنسوا بالحديث الذي رواه ابن ماجه في (سننه) مترجمًا عليه في كتابه: باب إستئجار الأجير على طعام بطنه.

حدثنا محمد بن الصفي الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن مسلمة بن علي، عن سعيد بن أبي أيوب، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، قال: سمعت عتبة بن الدر يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طس حتى إذا بلغ قصة موسى، قال:

« إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين أو عشرة على عفة فرجه، وطعام بطنه ».

وهذا من هذا الوجه لا يصح، لأن مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي، ضعيف عند الأئمة، لا يحتج بتفرده.

ولكن قد روي من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكر، حدثني ابن لهيعة، وحدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الحار ث بن يزيد الحضرمي، عن علي بن رباح اللخمي، قال:

سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

« إن موسى عليه السلام آجر نفسه لعفة فرجه وطعمة بطنه ».

ثم قال تعالى: { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت، فأيهما قضيت فلا عدوان علي والله على مقالتنا سامع ومشاهد، ووكيل علي وعليك، ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما وهو العشر سنين كوامل تامة.

قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: سألني يهودي من أهل الحيرة، أي الأجلين قضى موسى؟

فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فاسأله.

فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضى أكثرهما، وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل.

تفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد رواه النسائي في حديث الفتون كما سيأتي من طريق القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير.

وقد رواه ابن جرير، عن أحمد بن محمد الطوسي، وابن أبي حاتم، عن أبيه كلاهما، عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

« سألت جبريل أي الأجلين قضى موسى؟

قال: أتمهما وأكملهما ».

وإبراهيم هذا غير معروف، إلا بهذا الحديث.

وقد رواه البزار، عن أحمد بن أبان القرشي، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.

وقد رواه سنيد عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مرسلًا أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل، فسأل جبريل إسرافيل، فسأل إسرافيل الرب عز وجل، فقال: أبرهما وأوفاهما.

وبنحوه رواه ابن أبي حاتم، من حديث يوسف بن سرح مرسلًا، ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل أي الأجلين قضى موسى.

قال: « أوفاهما، وأتمهما ».

وقد رواه البزار، وابن أبي حاتم، من حديث عويد بن أبي عمران الجوني – وهو ضعيف – عن أبيه، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى، قال:

« أوفاهما، وأبرهما ».

قال: « وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل: الصغرى منهما ».

وقد رواه البزار، وابن أبي حاتم، من طريق عبد الله بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن علي بن رباح، عن عتبة بن النذر أن رسول الله قال:

« إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه، وطعام بطنه ».

فلما وفى الأجل، قيل يا رسول الله: أي الأجلين؟

قال: « أبرهما وأوفاهما ».

فلما أراد فراق شعيب، سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت من غنمه، من قالب لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سودًا حسانًا.

فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها، ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها ووقف موسى عليه السلام بإزاء الحوض، فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة، قال: فاتمئت، وآنثت، ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش، ولا ضبوب، ولا عزوز، ولا ثعول، ولا كموش، تفوت الكف.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو اقتحمتم الشام، وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية ».

قال ابن لهيعة: الفشوش: واسعة السخب. والضبوب: طويلة الضرع تجره، والعزوز: ضيقة السخب، والثعول: الصغيرة الضرع، كالحلمتين، والكموش: التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره.

وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، وقد يكون موقوفًا كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، قال:

لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما، قال له صاحبه: كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها، فعمد فوضع خيالًا على الماء، فلما رأت الخيال فزعت، فجالت جولة، فولدن كلهن بلقًا إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام، وهذا إسناد جيد رجاله ثقات، والله أعلم.

وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان، أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقًا ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام، فالله أعلم.

{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [القصص: 29-32] .

تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما، وقد يؤخذ هذا من قوله: { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ } وعن مجاهد أنه أكمل عشرًا وعشرًا بعدها. وقوله: { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } أي: من عند صهره ذاهبًا فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم، أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف، فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم، وغنم قد استفادها مدة مقامه.

قالوا: واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة، وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف، وجعل يوري زناده فلا يرى شيئًا، واشتد الظلام والبرد، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارًا تأجج في جانب الطور، وهو الجبل الغربي منه عن يمينه، فقال لأهله: { امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } وكأنه – والله أعلم – رآها دونهم، لأن هذه النار هي نور في الحقيقة، ولا يصلح رؤيتها لكل أحد.

{ لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أي: لعلي أستعلم من عندها عن الطريق.

{ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة، لقوله في الآية الأخرى: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } [طه: 9-10] .

فدل على وجود الظلام، وكونهم تاهوا عن الطريق، وجمع الكل في سورة النمل في قوله: { قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [النمل: 7] .

وقد أتاهم منها بخبر وأي خبر، ووجد عندها هدى وأي هدى، واقتبس منها نورًا وأي نور. قال الله تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[القصص: 30] .

وقال في النمل: { فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [النمل: 8]أي: سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

{ يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [النمل: 9]

وقال في سورة طه: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [طه: 11-16] .

قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها، فانتهى إليها وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج، وكل ما لتلك النار في اضطرام، وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد، فوقف متعجبًا، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه.

كما قال تعالى: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [القصص: 44] . وكان موسى في واد اسمه: طوى، فكان موسى مستقبل القبلة، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب، فناداه ربه بالواد المقدس طوى، فأمر أولًا بخلع نعليه تعظيمًا وتكريمًا وتوقيرًا لتلك البقعة المباركة، ولا سيما في تلك الليلة المباركة.

وعند أهل الكتاب: أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور، مهابة له وخوفًا على بصره، ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلًا له: { إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [القصص: 30] { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه: 14] .

أي: أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو، الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له، ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما الدار الباقية يوم القيامة التي لا بد من كونها ووجودها { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي: من خير وشر.

وحضه وحثه على العمل لها، ومجانبة من لا يؤمن بها، ممن عصى مولاه واتبع هواه. ثم قال له مخاطبًا ومؤانسًا ومبينًا له أنه القادر على كل شيء، الذي يقول للشيء كن فيكون. { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى } [طه: 17] أي: أما هذه عصاك التي نعرفها منذ صحبتها؟

{ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [طه: 18] أي: بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها.

{ قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } [طه: 19-20] وهذا خارق عظيم، وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كن فيكون، وأنه الفعال بالاختيار.

وعند أهل الكتاب: أنه سأل برهانًا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر فقال له الرب عز وجل: ما هذه التي في يدك؟

قال: عصاي. قال: ألقها إلى الأرض.

{ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } [طه: 20] فهرب موسى من قدامها، فأمره الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده.

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } [النمل: 10] أي: قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة، وأنياب تصك، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان، وهو ضرب من الحيات.

يقال: الجان والجنان، وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب والحركة جدًا. فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة، فلما عاينها موسى عليه السلام { وَلَّى مُدْبِرًَا } أي: هاربًا منها لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك. { وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي: ولم يلتفت، فناداه ربه قائلًا له: { يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } [القصص: 21] .

فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها، { قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } [طه: 21] فيقال: إنه هابها شديدًا فوضع يده في كم مدرعته، ثم وضع يده في وسط فمها.

وعند أهل الكتاب بذنبها، فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين، فسبحان القدير العظيم، رب المشرقين والمغربين.

ثم أمره تعال بإدخال يده في جيبه، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضًا من غير سوء أي: من غير برص ولا بهق، ولهذا قال: { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } قيل: معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك.

وهذا وإن كان خاصًا به، إلا أن بركة الإيمان به حق، بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء.

وقال في سورة النمل: { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [النمل: 12] أي: هاتان الآيتان: وهما العصا واليد، وهما البرهانان المشار إليهما في قوله: { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }.

ومع ذلك سبع آيات أخر، فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان، حيث يقول تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } [الإسراء: 101-102] .

وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [130-133] .

كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه، وهذه التسع آيات غير العشر الكلمات، فإن التسع: من كلمات الله القدرية، والعشر: من كلماته الشرعية. وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة، فظن أن هذه هي هذه، كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل.

والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } [القصص: 33-35] .

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله، وكليمه موسى عليه السلام في جوابه لربه عز وجل، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فرارًا من سطوته وظلمه، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي، ولهذا { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } أي: اجعله معي معينًا، وردءًا ووزيرًا يساعدني، ويعينني على أداء رسالتك إليهم، فإنه أفصح مني لسانًا وأبلغ بيانًا.

قال الله تعالى مجيبًا له إلى سؤاله: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا } أي: برهانًا. { فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } أي: فلا ينالون منكما مكروهًا بسبب قيامكما بآياتنا. وقيل: ببركة آياتنا.

{ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } وقال في سورة طه: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } [طه: 24-28] .

قيل: إنه أصابه في لسانه لثغة بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه التي كان فرعون أراد اختبار عقله، حين أخذ بلحيته وهو صغير، فهم بقتله فخافت عليه آسية وقالت: إنه طفل فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه، فهم بأخذ التمرة، فصرف الملك يده إلى الجمرة فأخذها، فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله، ولم يسأل زوالها بالكلية.

قال الحسن البصري: والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة، ولهذا بقيت في لسانه بقية، ولهذا قال فرعون – قبحه الله – فيما زعم إنه يعيب به الكليم، { وَلَا يَكَادُ يُبِيْنُ } [الزخرف: 52] أي: يفصح عن مراده، ويعبر عما في ضميره وفؤاده.

ثم قال موسى عليه السلام: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى } [طه: 32-36]أي: قد أجبناك إلى جميع ما سألت، وأعطيناك الذي طلبت، وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل، حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه وهذا جاه عظيم. قال الله تعالى: { وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيْهًا } [الأحزاب: 69] .

وقال تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [مريم: 53] .

وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلًا يقول لأناس وهم سائرون طريق الحج: أي أخ أمن على أخيه؟

فسكت القوم، فقالت عائشة لمن حول هودجها: هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هرون.

فأوحى إليه قال الله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا }.

قال تعالى في سورة الشعراء: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الشعراء: 10-19] .

تقدير الكلام: فأتياه فقالا له ذلك، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته، وتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤوا، ويتفرغون لتوحيده ودعائه، والتضرع لديه، فتكبر فرعون في نفسه، وعتا وطغى ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص قائلًا له:

{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } أي: أما أنت الذي ربيناه في منزلنا، وأحسنّا إليه، وأنعمنا عليه مدة من الدهر. وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فرّ منه، خلافًا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فرّ منه مات في مدة مقامه بمدين، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر.

وقوله: { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي: وقتلت الرجل القبطي، وفررت منا وجحدت نعمتنا.

{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } [الشعراء: 20] أي: قبل أن يوحى إلي وينزل علي.

{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء: 21] ثم قال مجيبًا لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 22] أي: وهذه النعمة التي ذكرت، من أنك أحسنت إلي وأنا رجل واحد من بني إسرائيل، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله، واستعبدتهم في أعمالك وخدمك وأشغالك.

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء: 23-28] .

يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم، من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية، وذلك أن فرعون قبحه الله أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى، وزعم أنه الإله { فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [النازعات: 23-24] .

{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص: 38] وهو في هذه المقالة معاند، يعلم أنه عبد مربوب، وأن الله هو الخالق البارىء المصور الإله الحق، كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [النمل: 14] .

ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته، والإظهار أنه ما ثم رب أرسله: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } لأنهما قالا له: { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فكأنه يقول لهما: ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثتكما؟

فأجابه موسى قائلًا: { رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } يعني: رب العالمين، خالق هذه السموات والأرض المشاهدة، وما بينهما من المخلوقات المتعددة من السحاب، والرياح، والمطر، والنبات، والحيوانات، التي يسلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها، ولا بدلها من موجد، ومحدث وخالق، وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين.

قال أي فرعون لمن حوله من أمرائه ومرازبته ووزرائه، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام: { أَلَا تَسْتَمِعُونَ } يعني: كلامه هذا. قال موسى مخاطبًا له ولهم: { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ }.

أي: هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد، والقرون السالفة في الآباد، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه، ولم يحدث من غير محدث، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين، وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: 53] .

ومع هذا كله، لم يستفق فرعون من رقدته، ولا نزع عن ضلالته، بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء: 27-28]

أي: هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة، المسير للأفلاك الدائرة، خالق الظلام والضياء، ورب الأرض والسماء، رب الأولين والآخرين، خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة، والثوابت الحائرة، خالق الليل بظلامه، والنهار بضيائه، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون، وفلك يسبحون، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء.

فلما قامت الحجج على فرعون، وانقطعت شبهه، ولم يبق له قول سوى العناد، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ }[الشعراء: 29-33] .

وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما، وهما: العصا واليد، وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم، الذي بهر به العقول والأبصار، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، أي: عظيم الشكل بديع في الضخامة والهول، والمنظر العظيم الفظيع الباهر.

حتى قيل: إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد، وخوف عظيم، بحيث أنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يومًا إلا مرة واحدة فانعكس عليه الحال.

وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها، أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نورًا يبهر الأبصار، فإذا أعادها إلى جيبه واستخرجها رجعت إلى صفتها الأولى، ومع هذا كله لم ينتفع فرعون – لعنه الله – بشيء من ذلك.

بل استمر على ما هو عليه، وأظهر أن هذا كله سحر، وأراد معارضته بالسحرة، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته، ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه، من إظهار الله الحق المبين، والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملائه، وأهل دولته وملته، ولله الحمد والمنة.

وقال تعالى في سورة طه: { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى* قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه: 40-46] .

يقول تعالى مخاطبًا لموسى فيما كلّمه به ليلة أوحى إليه، وأنعم بالنبوة عليه، وكلمه منه إليه: قد كنت مشاهدًا لك وأنت في دار فرعون، وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين، بمشيئتي وقدرتي وتدبيري، فلبثت فيها سنين.

{ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى } أي: مني لذلك، فوافق ذلك تقديري وتسييري.

{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أي: اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي.

{ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } يعني: ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه، ووفدتما إليه فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته، وإهداء النصيحة إليه، وإقامة الحجة عليه.

وقد جاء في بعض الأحاديث يقول الله تعالى:

« إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه ». وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا….. } الآية [الأنفال: 45] .

ثم قال تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وهذا من حلمه تعالى وكرمه، ورأفته ورحمته بخلقه، مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره، وهو إذ ذاك أردى خلقه، وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق ولين، ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى، كما قال لرسوله: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] .

وقال تعالى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ…. } الآية [العنكبوت: 46] .

قال الحسن البصري: { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا } أعذرا إليه قولًا له إن لك ربًا ولك معادًا، وإن بين يديك جنة ونارًا.

وقال وهب بن منبه: قولا له إني لي العفو والمغفرة، أقرب مني إلى الغضب والعقوبة.

قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه!

{ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } [طه: 45] وذلك أن فرعون كان جبارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض، وجاه وجنود وعساكر وسطوة، فهاباه من حيث البشرية، وخافا أن يسطو عليهما في بادىء الأمر، فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال: { لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه: 46] .

كما قال في الآية الأخرى: { إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } [الشعراء: 15] { فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [طه: 47-48] .

يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون، فيدعواه إلى الله تعالى أن يعبده وحده لا شريك له، وأن يرسل معهم بني إسرائيل، ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم. { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } [طه: 47] وهو البرهان العظيم في العصى واليد.

{ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } تقيد مفيد بليغ عظيم، ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } أي: كذب بالحق بقلبه، وتولى عن العمل بقالبه.

وقد ذكر السدي وغيره: أنه لما قدم من بلاد مدين، دخل على أمه وأخيه هرون وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل – وهو اللفت – فأكل معهما، ثم قال: يا هرون إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته فقم معي، فقاما يقصدان باب فرعون فإذا هو مغلق.

فقال موسى للبوابين والحجبة: أعلموه أن رسول الله بالباب، فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به.

وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل.

وقال محمد بن إسحاق: أذن لهما بعد سنتين؛ لأنه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما، فالله أعلم.

ويقال: إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه، فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما، فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عز وجل كما أمرهما.

وعند أهل الكتاب أن الله قال لموسى عليه السلام: إن هرون اللاوي، يعني من نسل لاوي بن يعقوب، سيخرج ويتلقاك، وأمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى عند فرعون، وأمره أن يظهر ما أتاه من الآيات، وقال له: سأقسي قلبه فلا يرسل الشعب، وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر.

وأوحى الله إلى هرون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب، فلما تلقاه أخبره موسى بما أمره به ربه، فلما دخلا مصر جمعا شيوخ بني إسرائيل، وذهبا إلى فرعون، فلما بلغاه رسالة الله قال: من هو الله لا أعرفه ولا أرسل بني إسرائيل؟

وقال الله مخبرًا عن فرعون: { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه: 49-55] .

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلًا: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي: هو الذي خلق الخلق، وقدَّر لهم أعمالًا وأرزاقًا وآجالًا، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له، فطابق عمله فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه، لكمال علمه وقدرته وقدره، وهذه الآية كقوله تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [الأعلى: 1-3] أي: قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه.

{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } يقول فرعون لموسى: فإذا كان ربك هو الخالق، المقدر، الهادي الخلائق لما قدره، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه، فلم عبد الأولون غيره، وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى؟

{ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } أي: هم وإن عبدوا غيره، فليس ذلك بحجة لك، ولا يدل على خلاف ما أقول، لأنهم جهلة مثلك، كل شيء فعلوه مستطر عليهم في الزبر، من صغير وكبير، وسيجزيهم على ذلك ربي عز وجل، ولا يظلم أحدًا مثقال ذرة.

لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده، في كتاب لا يضل عنه شيء، ولا ينسى ربي شيئًا، ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء، وجعله الأرض مهادًا، والسماء سقفًا محفوظًا، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد، ودوابهم، وأنعامهم، كما قال: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى } [طه: 54]أي: لذوي العقول الصحيحة المستقيمة، والفطر القويمة غير السقيمة، فهو تعالى الخالق الرزاق.

وكما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }[البقرة: 21-22] .

ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر، واهتزازها بإخراج نباتها فيه، نبه به على المعاد، فقال: { مِنْهَا } أي: من الأرض خلقناكم { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }.

كما قال تعالى: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [الأعراف: 29] .

وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الروم: 27] .

ثم قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } [طه: 56-59] .

يخبر تعالى عن شقاء فرعون، وكثرة جهله، وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله، واستكباره عن اتباعها، وقوله لموسى إن هذا الذي جئت به سحر، ونحن نعارضك بمثله، ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم، ومكان معلوم، وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام، أن يظهر آيات الله، وحججه، وبراهينه جهرة، بحضرة الناس، ولهذا قال: { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } وكان يوم عيد من أعيادهم، ومجتمع لهم.

{ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } أي: من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس، فيكون الحق أظهر وأجلى، ولم يطلب أن يكون ذلك ليلًا في ظلام، كيما يروج عليهم محالًا وباطلًا، بل طلب أن يكون نهارًا جهرة، لأنه على بصيرة من ربه ويقين، أن الله سيظهر كلمته ودينه، وإن رغمت أنوف القبط.

قال الله تعالى: { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [طه: 60-64] .

يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده من السحرة، وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء، في فنهم غاية، فجمعوا له من كل بلد، ومن كل مكان، فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير.

فقيل: كانوا ثمانين ألفًا، قاله محمد بن كعب.

وقيل: سبعين ألفًا قاله القاسم بن أبي بردة.

وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفًا.

وعن أبي أمامة: تسعة عشر ألفًا.

وقال محمد بن إسحاق: خمسة عشر ألفًا.

وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفًا، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس: كانوا سبعين رجلًا، وروي عنه أيضًا: أنهم كانوا أربعين غلامًا من بني إسرائيل، أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء، فيتعلموا السحر ولهذا قالوا: وما أكرهتنا عليه من السحر، وفي هذا نظر.

وحضر فرعون وأمراؤه، وأهل دولته، وأهل بلده عن بكرة أبيهم، وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم، فخرجوا وهم يقولون: { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } [الشعراء: 40] .

وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة، فوعظهم وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل، الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه، فقال: { لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ… } [طه: 61-62] قيل: معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم، فقائل يقول: هذا كلام نبي وليس بساحر، وقائل منهم يقول: بل هو ساحر فالله أعلم، وأسروا التناجي بهذا وغيره.

{ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } يقولون: إن هذا وأخاه هرون ساحران، عليمان، مطبقان، متقنان لهذه الصناعة، ومرادهم أن يجتمع الناس عليهما، ويصولا على الملك وحاشيته، ويستأصلاكم عن آخركم، ويستأمرا عليكم بهذه الصناعة.

{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا، ويتواصوا، ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة، والمكر، والخديعة، والسحر، والبهتان، وهيهات كذبت والله الظنون، وأخطأت الآراء أنى يعارض البهتان والسحر والهذيان، خوارق العادات التي أجراها الديان، على يدي عبده الكليم، ورسوله الكريم، المؤيد بالبرهان، الذي يبهر الأبصار، وتحار فيه العقول والأذهان.

وقولهم: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } أي: جميع ما عندكم.

{ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا } أي: جملة واحدة، ثم حضوا بعضهم بعضًا على التقدم في هذا المقام، لأن فرعون كان قد وعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.

{ قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه: 65-69] .

لما اصطف السحرة، ووقف موسى وهرون عليهما السلام تجاههم، قالوا له: إما أن تلقي قبلنا، وإما أن نلقي قبلك، { قَالَ بَلْ أَلْقُوا } أنتم وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي، فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابًا، يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها، وإنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون: { بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } [الشعراء: 44] .

قال الله تعالى: { قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116] .

وقال تعالى: { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } أي: خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم قبل أن يلقي ما في يده، فإنه لا يضع شيئًا قبل أن يؤمر، فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة: { تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال: { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [يونس: 81-82] .

وقال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [الأعراف: 117-122] .

وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف، وعنق عظيم، وشكل هائل مزعج، بحيث أن الناس انحازوا منها، وهربوا سراعًا، وتأخروا عن مكانها، وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي، فجعلت تلقفه واحدًا واحدًا في أسرع ما يكون من الحركة، والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها.

وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم، واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم، ولا يدخل تحت صناعاتهم وأشغالهم، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم، أن هذا ليس بسحر ولا شعبذة، ولا محال، ولا خيال، ولا زور، ولا بهتان، ولا ضلال، بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق.

وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة، وأنارها بما خلق فيها من الهدى، وأزاح عنها القسوة، وأنابوا إلى ربهم، وخروا له ساجدين، وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى: آمنا برب موسى وهرون.

كما قال تعالى: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [طه: 70-76] .

قال سعيد بن جبير، وعكرمة، والقاسم بن أبي بردة، والأوزاعي وغيرهم: لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة، تهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم، ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون، وتهديده، ووعيده.

وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا، وأشهروا ذكروا موسى وهرون في الناس على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك، ورأى أمرًا بهره، وأعمى بصيرته وبصره، وكان فيه كيد ومكر وخداع، وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله فقال مخاطبًا للسحرة بحضرة الناس: { آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } [الأعراف: 123] .

أي: هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي، ثم تهدد وتوعد وابرق وارعد وكذب فأبعد قائلًا: { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ }. وقال في الآية الأخرى: {…إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 123] .

وهذا الذي قاله من البهتان الذي يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان، بل لا يروج مثله على الصبيان، فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يومًا من الدهر، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر.

ثم هو لم يجمعهم، ولا علم باجتماعهم، حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم، واجتباهم من كل فج عميق، وواد سحيق، ومن حواضر بلاد مصر، والأطراف ومن المدن والأرياف.

قال الله تعالى في سورة الأعراف:

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [الأعراف: 103-126] .

وقال تعالى في سورة يونس:

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [يونس: 75-82] .

وقال تعالى في سورة الشعراء: { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 29-51] .

والمقصود أن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر في قوله: { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } وأتى ببهتان يعلمه العالمون، بل العالمون في قوله: { لَكُمْ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }.

وقوله: { لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ }: يعني يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه. { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أي: ليجعلهم مثلة ونكالًا، لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته وأهل ملته، ولهذا قال: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: على جذوع النخل لأنها أعلى وأشهر.

{ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } يعني: في الدنيا.

{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } أي: لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات.

{ وَالَّذِي فَطَرَنَا } قيل: معطوف، وقيل: قسم.

{ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي: فافعل ما قدرت عليه. { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله.

{ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب.

وأبقى أي: وأدوم من هذه الدار الفانية.

وفي الآية الأخرى: { قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا } أي: ما اجترمناه من المآثم والمحارم. { أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: من القبط، بموسى وهرون عليهما السلام.

وقالوا له أيضًا: { وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } أي: ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا.

{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي: ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد، والسلطان الشديد، بل الشيطان المريد. { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }.

وقالوا أيضًا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } يقولون له: فإياك أن تكون منهم فكان منهم.

{ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } أي: المنازل العالية.

{ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } فاحرص أن تكون منهم، فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ولا تمانع، وحكم العلي العظيم بأن فرعون لعنه الله من أهل الجحيم ليباشر العذاب الأليم؛ يصب من فوق رأسه الحميم.

ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ، وهو المقبوح المنبوح، والذميم اللئيم: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }[الدخان: 49] .

والظاهر من هذه السياقات أن فرعون – لعنه الله – صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم.

قال عبد الله بن عباس، وعبيد بن عمير: كانوا من أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة، ويؤيد هذا قولهم: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِيْنَ }

‏فصل

ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم، وهو الغلب الذي غلبته القبط في ذلك الموقف الهائل، وأسلم السحرة الذين استنصروا ربهم، لم يزدهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا وبعدًا عن الحق.

قال الله تعالى بعد قصص ما تقدم في سورة الأعراف:

{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 127-129] .

يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون وهم: الأمراء، والكبراء، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى عليه السلام، ومقابلته بدل التصديق بما جاء به بالكفر والرد والأذى.

قالوا: { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } يعنون – قبحهم الله – أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة ما سواه، فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط – لعنهم الله –

وقرأ بعضهم: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) أي: وعبادتك. ويحتمل شيئين: أحدهما: ويذر دينك وتقويه القراءة الأخرى، الثاني: ويذر أن يعبدك، فإنه كان يزعم أنه إله لعنه الله.

{ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ } أي: لئلا يكثر مقاتلتهم.

{ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي: غالبون.

{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي: إذا هموا همَّ بأذيتكم، والفتك بكم، فاستعينوا أنتم بربكم، واصبروا على بليتكم.

{ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي: فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة.

كما قال في الآية الأخرى: { وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [يونس: 84-86] .

وقولهم: { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي: قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك، وبعد مجيئك إلينا.

{ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 129] .

وقال الله تعالى في سورة حم المؤمن: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [غافر: 23-24] .

وكان فرعون الملك، وهامان الوزير، وكان قارون إسرائيليًا من قوم موسى، إلا أنه كان على دين فرعون وملائه، وكان ذا مال جزيل جدًا كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى.

{ فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [غافر: 25] وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة، والإذلال، والتقليل لملأ بني إسرائيل، لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها ويصولون على القبط بسببها، وكانت القبط منهم يحذرون فلم ينفعهم ذلك، ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء كن فيكون.

{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }[غافر: 26] ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم: صار فرعون مذكرًا، وهذا منه، فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام.

{ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } [غافر: 27] أي: عذت بالله، ولجأت إليه بجنابه، من أن يسطو فرعون وغيره على بسوء.

وقوله: { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } أي: جبار عنيد، لا يرعوي ولا ينتهي ولا يخاف عذاب الله وعقابه، لأنه لا يعتقد معادًا ولا جزاء، ولهذا قال: { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ }.

{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر: 28-29]

وهذا الرجل هو ابن عم فرعون، وكان يكتم إيمانه من قومه، خوفًا منهم على نفسه. وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليًا، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظًا ومعنى، والله أعلم.

قال ابن جريج: قال ابن عباس: لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا، والذي جاء من أقصى المدينة، وامرأة فرعون. رواه ابن أبي حاتم.

قال الدارقطني: لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون. حكاه السهيلي، وفي تاريخ الطبراني أن اسمه خير. فالله أعلم.

والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه، فلما همّ فرعون – لعنه الله – بقتل موسى عليه السلام، وعزم على ذلك وشاور ملائه فيه، خاف هذا المؤمن على موسى، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب، فقال على وجه المشورة والرأي.

وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ».

وهذا من أعلى مراتب هذا المقام، فإن فرعون لأشد جورًا منه، وهذا الكلام لا أعدل منه، لأن فيه عصمة نبي، ويحتمل أنه كاشفهم بإظهار إيمانه وصرح لهم بما كان يكتمه، والأول أظهر. والله أعلم.

{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } أي: من أجل أنه قال ربي الله فمثل هذا لا يقابل بهذا، بل بالإكرام والاحترام والموادعة، وترك الانتقام يعني لأنه { وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: بالخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله.

فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة لأنه { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } ولا يضركم ذلك. { وَإِنْ يَكُ صَادِقًا } وقد تعرضتم له { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } أي: وأنتم تشققون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم.

وهذا الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام.

وقوله: { يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } [غافر: 29] يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرض الدول للدين إلا سلبوا ملكهم، وذلوا بعد عزهم، وكذا وقع لآل فرعون ما زالوا في شك وريب، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه، من الملك والأملاك، والدور والقصور، والنعمة والحبور.

ثم حولوا إلى البحر مهانين، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة، إلى أسفل السافلين، ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق، البار الراشد التابع للحق، الناصح لقومه، الكامل العقل: { يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } أي: عالين على الناس حاكمين عليهم.

{ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا } أي: لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة، والقوة والشدة لما نفعنا ذلك، ولا رد عنا بأس مالك الممالك.

{ قَالَ فِرْعَوْنُ } أي: في جواب هذا كله { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } أي: ما أقول لكم إلا ما عندي، { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } وكذب في كل من هذين القولين، وهاتين المقدمتين، فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه، أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة، وإنما كان يظهر خلافه بغيًا وعدوانًا وعتوًا وكفرانًا.

قال الله تعالى إخبارًا عن موسى:

{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الإسراء: 102-104] .

وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [النمل: 13-14] .

وأما قوله: { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } فقد كذب أيضًا، فإنه لم يكن على رشاد من الأمر، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال، فكان أولًا ممن يعبد الأصنام والأمثال، ثم دعا قومه الجهلة الضلال، إلى أن اتبعوه وطاوعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال، في دعواه أنه رب، تعالى الله ذو الجلال.

قال الله تعالى:

{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } [الزخرف: 51-56] .

وقال تعالى: { فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات: 20-26] .

وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [هود: 96-99] .

والمقصود بيان كذبه في قوله: { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } وفي قوله: { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }.

{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر: 30-35] .

يحذرهم ولي الله إن كذبوا برسول الله موسى، أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم، من النقمات والمثلات مما تواتر عندهم وعند غيرهم، ما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك، مما أقام به الحجج على أهل الأرض قاطبة، في صدق ما جاءت به الأنبياء، لما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء، وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء، وخوفهم يوم القيمة – وهو يوم التناد -.

أي: حين ينادي الناس بعضهم بعضًا حين يولون مدبرين إن قدروا على ذلك ولا إلى ذلك سبيل. { يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [القيامة: 10-12] .

وقال تعالى: { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 33-36] .

وقرأ بعضهم: (يوم التناد) بتشديد الدال، أي: يوم الفرار. ويحتمل أن يكون يوم القيامة، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس فيودون الفرار، ولات حين مناص.

{ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ }[الأنبياء: 12-13] ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر، ما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم، وهذا من سلالته وذريته، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته، وأن لا يشركوا به أحدًا من بريته.

وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان أي: من سجيتهم التكذيب بالحق، ومخالفة الرسل ولهذا قال: { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } [غافر: 34] أي وكذبتم في هذا، ولهذا قال: { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } [غافر: 34-35] .

أي: يريدون حجج الله وبراهينه، ودلائل توحيده بلا حجة ولا دليل عندهم من الله، فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت، أي: يبغض من تلبس به من الناس، ومن اتصف به من الخلق { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } قرىء بالإضافة وبالنعت، وكلاهما متلازم. أي: هكذا إذا خالفت القلوب الحق – ولا تخالفه إلا بلا برهان – فإن الله يطبع عليها أي: يختم عليها بما فيها.

{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [غافر: 36-37] .

كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن الله أرسله، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله لهم: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [القصص: 33] .

وقال ههنا: { لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ… } أي: طرقها ومسالكها. { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } ويحتمل هذا معنيين:

أحدهما: وإني لأظنه كاذبًا في قوله: إن للعالم ربًا غيري.

والثاني: في دعواه أن الله أرسله.

والأول أشبه بظاهر حال فرعون فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع، والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال: فأطلع إلى إله موسى أي: فأسأله هل أرسله أم لا.

{ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } أي: في دعواه ذلك، وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام، وأن يحثهم على تكذيبه.

قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } [غافر: 37] وقرئ: وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب.

قال ابن عباس، ومجاهد يقول: إلا في خسار أي: باطل لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا، أعني السماء الدنيا، فكيف بما بعدها من السموات العلى؟ وما فوق ذلك من الارتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل.

وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له لم يرَ بناء أعلى منه، وإن كان مبنيًا من الآجر المشوي بالنار. ولهذا قال: { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا }[القصص: 38] .

وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه، ويطلب منهم كل يوم قسط معين إن لم يفعلوه، وإلا ضربوا وأهينوا غاية الإهانة، وأوذوا غاية الأذية.

ولهذا قالوا لموسى: { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط، وكذلك وقع، وهذا من دلائل النبوة. ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه.

قال الله تعالى: { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [غافر: 38-40] .

يدعوهم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد والحق، وهي متابعة نبي الله موسى وتصديقه فيما جاء به من ربه، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة، ورغبهم في طلب الثواب عند الله، الذي لا يضيع عمل عامل لديه، القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه، الذي يعطي على القليل كثيرًا، ومن عدله لا يجازي على السيئة إلا مثلها.

وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار، التي من وافاها – مؤمنًا قد عمل الصالحات – فلهم الجنات العاليات، والغرف الآمنات، والخيرات الكثيرة الفائقات، والأرزاق الدائمة التي لا تبيد، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد.

ثم شرع في إبطال ما هم عليه، وتخويفهم مما يصيرون إليه فقال: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 41-46] .

كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والأرض، الذي يقول للشيء كن فيكون، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون.

ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ }.

ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار، فقال: { لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } أي: لا تملك تصرفًا ولا حكمًا في هذه الدار، فكيف تملكه يوم القرار؟

وأما الله عز وجل، فإنه الخالق الرازق للأبرار والفجار، وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم، فيدخل طائعهم الجنة، وعاصيهم إلى النار.

ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله: { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }.

قال الله: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } أي: بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله، ومكرهم في صدهم عن سبيل الله، مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات، التي ألبسوا بها على عوامهم وطغامهم.

ولهذا قال: { وَحَاقَ } أي: أحاط { بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } أي: تعرض أرواحهم في برزخهم صباحًا ومساء على النار. { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في التفسير. ولله الحمد.

والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم، وإرسال الرسول إليهم، وإزاحة الشبه عنهم، وأخذ الحجة عليهم منهم، فبالترهيب تارة، والترغيب أخرى، كما قال تعالى:

{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [الأعراف: 130-133] .

يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون، وهم قومه من القبط بالسنين وهي أعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع، ولا ينتفع بضرع. وقوله: { وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ } وهي: قلة الثمار من الأشجار. { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي: فلم ينتفعوا ولم يرعوا، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم، { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ } والخصب ونحوه { قَالُوا لَنَا هَذِهِ } أي: هذا الذي نستحقه، وهذا الذي يليق بنا.

{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } أي: يقولون هذا بشؤمهم أصابنا هذا، ولا يقولون في الأول أنه بركتهم وحسن مجاورتهم لهم، ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق، إذا جاء الشر أسندوه إليه، وإن رأوا خيرًا ادعوه لأنفسهم.

قال الله تعالى: { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أي: الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }.

{ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي: مهما جئتنا به من الآيات – وهي الخوارق للعادات – فلسنا نؤمن بك، ولا نتبعك ولا نطيعك ولو جئتنا بكل آية.

وهكذا أخبر الله عنهم في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [يونس: 96-97] .

قال الله تعالى: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [الأعراف: 133] .

أما الطوفان فعن ابن عباس: هو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار. وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، والضحاك.

وعن ابن عباس، وعطاء: هو كثرة الموت.

وقال مجاهد: الطوفان الماء، والطاعون على كل حال.

وعن ابن عباس: أمر طاف بهم.

وقد روى ابن جرير، وابن مردويه، من طريق يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن الحجاج، عن الحكم بن مينا، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الطوفان الموت ». وهو غريب.

وأما الجراد: فمعروف.

وقد روى أبو داود، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله عن الجراد فقال:

« أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه ».

وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له، كما ترك أكل الضب، وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث، لما ثبت في (الصحيحين) عن عبد الله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد.

وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الأحاديث والآثار في التفسير.

والمقصود أنه استاق خضراءهم، فلم يترك لهم زرعًا ولا ثمارًا ولا سبدا ولا لبدًا.

وأما القمل: فعن ابن عباس: هو السوس الذي يخرج من الحطنة، وعنه: أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له. وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة.

وقال سعيد بن جبير، والحسن: هو دواب سود صغار.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: القمل: هي البراغيث.

وحكى ابن جرير عن أهل العربية: أنها الحمنان: وهو صغار القردان -فوق القمقامة – فدخل معهم البيوت والفرش، فلم يقر لهم قرار، ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش.

وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف، وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف.

وأما الضفادع فمعروفة لبستهم حتى كانت تسقط في أطعماتهم وأوانيه، حتى إن أحدهم إذا فتح فمه لطعام أو شراب سقطت في فيه ضفدعة من تلك الضفادع.

وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله به، فلا يستقون من النيل شيئًا إلا وجدوه دمًا عبيطًا، ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دمًا في الساعة الراهنة، هذا كله لم ينل بني إسرائيل من ذلك شيء بالكلية، وهذا من تمام المعجزة الباهرة، والحجة القاطعة، أن هذا كله يحصل لهم من فعل موسى عليه السلام، فينالهم عن آخرهم، ولا يحصل هذا لأحد من بني إسرائيل وفي هذا أدل دليل.

قال محمد بن إسحاق: فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبًا مفلولًا، ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر وتابع الله عليه بالآيات، فأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصلات، فأرسل الطوفان: وهو الماء ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يخرجوا ولا أن يعملوا شيئًا، حتى جهدوا جوعًا.

فلما بلغهم ذلك قالوا يا موسى: { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الأعراف: 134] فدعا موسى ربه فكشفه عنهم، فلما لم يفوا له بشيء فأرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر فيما بلغني حتى أن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد، حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل.

فذكر لي أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها فانثال عليهم قملًا حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له، فدعا ربه فكشف عنهم.

فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا، أرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية، فلم يكشف أحد ثوبًا ولا طعامًا إلا وجد فيه الضفادع قد غلب عليه، فلما جهدهم ذلك، قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دمًا لا يستقون من بئر ولا نهر يغترفون من إناء إلا عاد دمًا عبيطًا.

وقال زيد بن أسلم: المراد بالدم الرعاف. رواه ابن أبي حاتم.

قال الله تعالى: { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 134-136] .

يخبر تعالى عن كفرهم، وعتوهم، واستمرارهم على الضلال والجهل، والاستكبار عن إتباع آيات الله، وتصديق رسوله، مع ما أيد به من الآيات العظيمة الباهرة، والحجج البليغة القاهرة، التي أراهم الله إياها عيانًا، وجعلها عليهم دليلًا وبرهانًا.

وكلما شاهدوا آية وعاينوها وجهدهم وأضنكهم، حلفوا وعاهدوا موسى، لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به، وليرسلن معه من هو من حزبه، فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه، وأعرضوا عما جاءهم به من الحق، ولم يلتفتوا إليه، فيرسل الله عليهم آية أخرى، هي أشد مما كانت قبلها وأقوى، فيقولون فيكذبون، ويعدون ولا يفون، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل.

ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل هذا، والعظيم الحليم القدير ينظرهم، ولا يعجل عليهم، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم، ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم، والإنذار إليهم أخذ عزيز مقتدر، فجعلهم عبرة ونكالًا وسلفًا لمن أشبههم من الكافرين، ومثلًا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين، كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين، في سورة حم والكتاب المبين:

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا أسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } [الزخرف: 46-56] .

يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم، إلى فرعون الخسيس اللئيم، وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق، وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر، ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم، فإذا هم منها يضحكون، وبها يستهزئون، وعن سبيل الله يصدون، وعن الحق ينصرفون، فأرسل الله عليهم الآيات تترى، يتبع بعضها بعضًا، وكل آية أكبر من التي تتلوها، لأن التوكيد أبلغ مما قبله:

{ وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصًا ولا عيبًا، لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة، ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه وضراعتهم لديه. قال الله تعالى: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ }.

ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه، وعظمة بلده وحسنها، وتخرق الأنهار فيها، وهي الخلجانات التي يكسرونها أمام زيادة النيل، ثم تبجح بنفسه وحليته، وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليه السلام، ويزدريه بكونه { وَلَا يَكَادُ يُبِينُ } يعني: كلامه، بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة، التي هي شرف له، وكمال، وجمال.

ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه، وتنقصه فرعون – لعنه الله – بكونه لا أساور في بدنه، ولا زينة عليه، وإنما ذلك من حلية النساء، لا يليق بشهامة الرجال، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلًا، وأتم معرفة، وأعلى همة، وأزهد في الدنيا، وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى.

وقوله: { أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } لا يحتاج الأمر إلى ذلك، إن كان المراد أن تعظمه الملائكة، فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليه السلام بكثير، كما جاء في الحديث:

« إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع ».

فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم.

وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة، فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعًا لذوي الألباب، ولمن قصد إلى الحق والصواب، ويعمى عما جاء به من البينات، والحجج الواضحات، من نظر إلى القشور، وترك لب اللباب، وطبع على قلبه رب الأرباب، وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب، كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب.

قال الله تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي: استخف عقولهم، ودرجهم من حال إلى حال، إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية، لعنه الله وقبحهم: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }.

{ فَلَمَّا أسَفُونَا } أي: أغضبونا { انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي: بالغرق، والإهانة، وسلب العز، والتبدل بالذل، وبالعذاب بعد النعمة، والهوان بعد الرفاهية، والنار بعد طيب العيش، عياذًا بالله العظيم، وسلطانه القديم من ذلك.

{ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا } أي: لمن اتبعهم في الصفات { وَمَثَلًا } أي: لمن اتعظ بهم، وخاف من وبيل مصرعهم، ممن بلغه جليه خبرهم، وما كان من أمرهم، كما قال الله تعالى:

{ فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } [القصص: 36-42] .

يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق، وادعى ملكهم الباطل، ووافقوه عليه وأطاعوه فيه، اشتد غضب الرب القدير العزيز الذي لا يغالب، ولا يمانع عليهم، فانتقم منهم أشد الانتقام، وأغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة، فلم يفلت منهم أحد، ولم يبق منهم ديار، بل كل قد غرق فدخل النار، وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين، ويوم القيامة بئس الرفد المرفود، ويوم القيامة هم من المقبوحين.

 

 

 

 

ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل

 

 

 

 

 

ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل

فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل، وقد أنزل الله عز وجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم، ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ، والآداب، والأمر الحكيم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1-3]

قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة، فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم، وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير، ونحن نذكر ههنا نبذاً مما هناك، على وجه الإيجاز والنجاز.

وجملة القول في هذا المقام، أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، بلسان عربي فصيح، بين واضح جلي، يفهمه كل عاقل ذكي زكي.

فهو أشرف كتاب نزل من السماء، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان، بأفصح لغة وأظهر بيان، فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها، وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه، ودمغ الباطل وزيفه ورده.

وإن كان في الأوامر والنواهي، فأعدل الشرائع وأوضح المناهج، وأبين حكماً وأعدل حكماً فهو كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] يعني صدقاً في الأخبار، عدلاً في الأوامر والنواهي.

ولهذا قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] أي: بالنسبة إلى ما أوحي إليك فيه.

كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52-53].

وقال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه: 99-101]. (ج/ص: 1/ 228)

يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد، كما قال في الحديث المروي في المسند، والترمذي، عن أمير المؤمنين على مرفوعاً وموقوفاً:

((من ابتغى الهدى في غيره أضله الله)).

وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشام، أنبأنا خالد، عن الشعبي، عن جابر، أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال فغضب وقال:

((أتتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)).

إسناد صحيح.

ورواه أحمد من وجه آخر، عن عمرو فيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)).

وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف، وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته:

((أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون))، ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفاً حرفاً.

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 4-6].

قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولداً ذكراً، وسميناهم وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره، وباقي إخوته لم يوحَ إليهم، وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.

ومن استدل على نبوتهم بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136] وزعم أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوي لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل، وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء، والله أعلم.

ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة، أنه نص على واحد من إخوته سواه، فدل على ما ذكرناه، ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم)).

انفرد به البخاري، فرواه عن عبد الله بن محمد، وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به. (ج/ص: 1/ 229)

وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة.

قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} وهم إشارة إلى بقية أخوته {وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ} هما عبارة عن أبويه قد سجدوا له، فهاله ذلك.

فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية، ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها، فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه، ويبغوا له الغوائل، ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر.

وهذا يدل على ما ذكرناه، ولهذا جاء في بعض الآثار: استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود.

وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وأخوته معاً، وهو غلط منهم.

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: يخصك بأنواع اللطف والرحمة.

{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أي: يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.

{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بالوحي إليك.

{وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي: بسببك ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة.

{كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي: ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة كما أعطاها أباك يعقوب، وجدك إسحاق، ووالد جدك إبراهيم الخليل.

{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم؟

قال: ((يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)).

وقد روى ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وأبو يعلى، والبزار في (مسنديهما) من حديث الحكم بن ظهير – وقد ضعفه الأئمة – عن السدي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له بستانة اليهودي، فقال:

يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها.

قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها.

قال: فبعث إليه رسول الله فقال: ((هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟)).

قال: نعم.

فقال: ((هي جريان، والطارق، والديال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمردان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، و الضياء، والنور)).

فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها.

وعند أبي يعلى: فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله، والشمس أبوه، والقمر أمه. (ج/ص: 1/ 230)

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 7-10].

ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم، والدلالات والمواعظ والبينات، ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه، يعنون شقيقه لأمه بنيامين أكثر منهم، وهم عصبة أي: جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين.

{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: بتقديمه حبهما علينا. ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف، أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها، ليخلو لهم وجه أبيه أي لتتمحض محبته لهم، وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك، فلما تمالؤا على ذلك، وتوافقوا عليه.

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} قال مجاهد: هو شمعون.

وقال السدي: هو يهودا.

وقال قتادة، ومحمد بن إسحق: هو أكبرهم روبيل.

{تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي: المارة من المسافرين.

{إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالاً من قتله أو نفيه وتغريبه، فأجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك قالوا:

{قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 11-14].

طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم، وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم، فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه

{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} أي: لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة، إنا إذا لخاسرون أي: عاجزون هالكون.

وعند أهل الكتاب أنه أرسله وراءهم يتبعهم، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم. وهذا أيضاً من غلطهم وخطئهم في التعريب، فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم، فكيف يبعثه وحده.

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 15-18]. (ج/ص: 1/ 231)

لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب أي: في قعره على راعوفته، وهي الصخرة التي تكون في وسطه، يقف عليها المائح – وهو الذي ينزل ليملي الدلاء إذا قل الماء – والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح.

فلما ألقوه فيه، أوحى الله إليه أنه لا بدَّ لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا، في حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك، خائفون منك {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.

قال مجاهد وقتادة: وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك.

وعن ابن عباس: وهم لا يشعرون أي: لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها. رواه ابن جرير عنه.

فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه، أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم، ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف: لا يغرنك بكاء المتظلم، فرب ظالم وهو باك.

وذكر بكاء إخوة يوسف، وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون، أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي: في غيبتنا عنه في استباقنا.

وقولهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي: وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له، ولو كنا غير متهمين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في هذا، فإنك خشيت أن يأكله الذئب، وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك، فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه.

{وَجَاؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي: مكذوب مفتعل، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها، فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه، ليوهموا أنه أكله الذئب، قالوا ونسوا أن يخرقوه، وآفة الكذب النسيان.

ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرُج صنيعهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره، لما يريد الله أن يخصه به من نبوته.

ولما راودوه عن أخذه، فبمجرد ما أخذوه أعدموه، وغيبوه عن عينيه، جاؤا وهم يتباكون وعلى ما تمالئوا عليه يتواطئون، ولهذا {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.

وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب، ليأخذه من حيث لا يشعرون، ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل من آخر النار ليُخرج يوسف لم يجده، فصاح وشق ثيابه، وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه، ولطخوا من دمه جبة يوسف، فلما علم يعقوب شق ثيابه، ولبس مئزراً أسود وحزن على ابنه أياماً كثيرة، وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.

و قال تعالى: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 19-22].

يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب:

أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به، فجاءت سيارة أي: مسافرون. (ج/ص: 1/ 232)

قال أهل الكتاب: كانت بضاعتهم من الفستق، والصنوبر، والبطم، قاصدين ديار مصر من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف، فلما رآه ذلك الرجل:

{قَالَ يَابُشْرَى} أي: يا بشارتي

{هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي: أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: هو عالم بما تمالأ عليه أخوته، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم، ومع هذا لا يغيره تعالى لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، والقدر السابق، والرحمة بأهل مصر بما يجري الله على يدي هذا الغلام، الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف.

ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم وقالوا هذا غلامنا أبق منا، فاشتروه منهم بثمن بخس أي: قليل نزر. وقيل: هو الزيف.

{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} قال ابن مسعود، وابن عباس، ونوف اليكالي، والسدي، وقتادة، وعطية العوفي: باعوه بعشرين درهماً، اقتسموها درهمين درهمين.

وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهماً.

وقال عكرمة، ومحمد بن إسحاق: أربعون درهماً فالله أعلم.

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي: أحسني إليه.

{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وهذا من لطف الله به، ورحمته وإحسانه إليه، بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة.

قالوا: وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها، وهو الوزير بها الذي تكون الخزائن مسلمة إليه.

قال ابن إسحاق: واسمه اطفير بن روحيب، قال: وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد، رجل من العماليق، قال: واسم امرأة العزيز: راعيل بنت رعاييل.

وقال غيره: كان اسمها زليخا، والظاهر أنه لقبها. وقيل: فكا بنت ينوس. رواه الثعلبي عن أبي هشام الرفاعي.

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس: كان اسم الذي باعه بمصر يعني الذي جلبه إليها: مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.

وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال:

أفرس الناس ثلاثة:

عزيز مصر حين قال لامرأته: أكرمي مثواه.

والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. (ج/ص: 1/ 233)

ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً.

وقيل: بوزنه مسكاً، ووزنه حريراً، ووزنه ورقاً، فالله أعلم.

وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: وكما قيضنا هذا العزيز، وامرأته يحسنان إليه، ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر

{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أي: فهمها، وتعبير الرؤيا من ذلك.

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: إذا أراد شيئاً، فإنه يقيض له أسباباً وأموراً لا يهتدي إليها العباد، ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد، وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.

وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد:

فقال مالك، وربيعة، وزيد بن أسلم، والشعبي: هو الحلم.

وقال سعيد بن جبير: ثماني عشرة سنة.

وقال الضحاك: عشرون سنة.

وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة.

وقال السدي: ثلاثون سنة.

وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة.

وقال الحسن: أربعون سنة، ويشهد له قوله تعالى: {إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15].

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 23-29].

يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال، والمال، والمنصب، والشباب، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه وتهيأت له، وتصنعت، ولبست أحسن ثيابها، وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير.

قال ابن إسحاق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر، وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا أنه نبي من سلالة الأنبياء، فعصمه ربه عن الفحشاء، وحماه من مكر النساء، فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء، المذكورين في (الصحيحين) عن خاتم الأنبياء في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء:

((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله)).

(ج/ص: 1/ 234)

والمقصود: أنها دعته إليها، وحرصت على ذلك أشد الحرص، فقال:

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} يعني: زوجها صاحب المنزل سيدي

{أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي: أحسن إليَّ، وأكرم مقامي عنده

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وقد تكلمنا على قوله

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.

وأكثر أقوال المفسرين ههنا متلقى من كتب أهل الكتاب، فالإعراض عنه أولى بنا. والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه، وبرأه، ونزهه عن الفاحشة، وحماه عنها، وصانه منها، ولهذا قال تعالى:

{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي: هرب منها طالباً إلى الباب ليخرج منه، فراراً منها، فاتبعته في أثره

{وَأَلْفَيَا} أي: وجدا {سَيِّدَهَا} أي: زوجها لدى الباب، فبدرته بالكلام وحرضته عليه

{قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} اتهمته وهي المتهمة، وبرأت عرضها، ونزهت ساحتها، فلهذا قال يوسف عليه السلام:

{هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة

{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قيل: كان صغيراً في المهد قاله ابن عباس.

وروي عن أبي هريرة، وهلال بن يساف، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والضحاك، واختاره ابن جرير.

وروي فيه حديثاً مرفوعاً عن ابن عباس، ووقفه غيره عنه.

وقيل: كان رجلاً قريباً إلى أطفير بعلها. وقيل: قريباً إليها.

وممن قال إنه كان رجلاً: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وزيد بن أسلم، فقال:

{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي: لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه.

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي: لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته، وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك وكذلك كان.

ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي جرى من مكركن، أنت راودته عن نفسه. ثم اتهمته بالباطل، ثم ضرب بعلها عن هذا صفحاً فقال:

{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي: لا تذكره لأحد، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها، والتوبة إلى ربها، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. (ج/ص: 1/ 235)

وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب، ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك. ولهذا قال لها بعلها، وعذرها من بعض الوجوه، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا أنه عفيف، نزيه، بريء العرض، سليم الناحية، فقال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.

{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 30-34].

يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الأمراء، وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز، وعيبها، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا، لأنه مولى من الموالي وليس مثله أهلاً لهذا، ولهذا قلن:

{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: في وضعها الشيء في غير محله.

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي: بتشنيعهن عليها، والتنقص لها، والإشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها، وعشق فتاها، فأظهرن ذماً، وهي معذورة في نفس الأمر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن.

فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها، واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين، كالأترج ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكيناً، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام، وألبسته أحسن الثياب، وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة

{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي: أعظمنه، وأجللنه وهبنه، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم. (ج/ص: 1/ 236)

وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن، وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين، ولا يشعرن بالجراح: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.

وقد جاء في حديث الإسراء:

((فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن)).

قال السهيلي وغيره من الأئمة: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما أحسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام.

قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه.

وقال غيره: كان في الغالب مبرقعاً لئلا يراه الناس، ولهذا لما قام عذر امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى، من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}.

ثم مدحته بالعصمة التامة فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي: امتنع. {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ}.

وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته، فأبى أشد الإباء، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء، ودعا فقال في دعائه لرب العالمين:

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يعني: إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأنا ضعيف الا ما قويتني، وعصمتني، وحفظتني، وحطني بحولك وقوتك. ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ آرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 35-41]. (ج/ص: 1/ 237)

يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم أي: ظهر لهم من الرأي بعدما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت، ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية، وأخمد لأمرها، وليظهروا أنه راودها عن نفسها، فسجن بسببها، فسجنوه ظلماً وعدواناً، وكان هذا مما قدر الله له.

ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم، ومخالطتهم، ومن ههنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي أن من العصمة أن لا تجد.

قال الله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} قيل: كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل: بنو، والآخر خبازه يعني: الذي يلي طعامه، وهو الذي يقول له الترك: الجاشنكير. واسمه فيما قيل: مجلث، كان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما.

فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته، وهديه، ودله، وطريقته، وقوله، وفعله، وكثرة عبادته ربه، وإحسانه إلى خلقه، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه.

قال أهل التفسير: رأيا في ليلة واحدة:

أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب، فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه.

ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز، وضواري الطيور تأكل من السل الأعلى، فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرهما لهما.

وقالا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها.

و {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} قيل: معناه مهما رأيتما من حلم، فإني أعبره لكم قبل وقوعه، فيكون كما أقول.

وقيل: معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه، حلواً أو حامضاً كما قال عيسى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49].

وقال لهما: إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به، موحد له، متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل، واسحاق، ويعقوب {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} أي: بأن هدانا لهذا.

{وَعَلَى النَّاسِ} أي: بأن أمرنا أن ندعوهم إليه، ونرشدهم، وندلهم عليه، وهو في فطرهم مركوز وفي جبلتهم مغروز. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}.

ثم دعاهم إلى التوحيد، وذم عبادة ما سوى الله عز وجل، وصغر أمر الأوثان، وحقرها، وضعف أمرها، فقال:

{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ آرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي: هو المتصرف في خلقه الفعال لما يريد، الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.

{أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} أي: وحده لا شريك له.

و{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: المستقيم، والصراط القويم.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره، وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال، لأن نفوسهما معظمة له، منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه. (ج/ص: 1/ 238)

ثم لما قام بما وجب عليه، وأرشد إلى ما أرشد إليه، قال: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} قالوا: وهو الساقي.

{وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} قالوا: وهو الخباز.

{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: وقع هذا لا محالة، ووجب كونه على حالة، ولهذا جاء في الحديث:

((الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت)).

وقد روي عن ابن مسعود، ومجاهد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهما قالا: لم نر شيئاً.

فقال لهما: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}

{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42].

يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال للذي ظنه ناجياً منهما، وهو الساقي {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يعني اذكر أمري، وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب.

وقوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي: فأنسى الناجي منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام.

قاله مجاهد، ومحمد بن إسحاق، وغير واحد وهو الصواب، وهو منصوص أهل الكتاب.

(فلبث يوسف في السجن بضع سنين) والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع. وقيل: إلى السبع. وقيل: إلى الخمس. وقيل: ما دون العشرة. حكاها الثعلبي.

ويقال: بضع نسوة، وبضع رجال. ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر، قال: وإنما يقال نيف.

وقال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}

وقال تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2] وهذا رد لقوله.

قال الفراء: ويقال بضعة عشر، وبعضة وعشرون إلى التسعين، ولا يقال بضع ومائة، وبضع وألف، وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر، فمنع أن يقال: بضعة وعشرون إلى تسعين.

وفي الصحيح: ((الإيمان بضع وستون)) – وفي رواية: وسبعون شعبة – أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).

ومن قال إن الضمير في قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} عائد على يوسف، فقد ضعف ما قاله، وإن كان قد روي عن ابن عباس، وعكرمة، والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه. تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك. (ج/ص: 1/ 239)

ومرسل الحسن، وقتادة لا يقبل، ولا ههنا بطريق الأولى والأخرى، والله أعلم.

فأما قول ابن حبان في (صحيحه) عند ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسف في السجن ما لبث، أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا مسدد بن مسرهد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يتبع…)

(تابع… 1): فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل، وقد أنزل الله عز وجل في شأنه وما كان من… …

((رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث.

ورحم الله لوطاً أن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قال: فما بعث الله نبياً بعده إلا في ثروة من قومه)).

فإنه حديث منكر من هذا الوجه، ومحمد بن عمرو بن علقمة، له أشياء ينفرد بها، وفيها نكارة، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها، والذي في (الصحيحين) يشهد بغلطها، والله أعلم.

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 43-49].

هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى هذه الرؤيا.

قال أهل الكتاب: رأى كأنه على حافة نهر، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان، فجعلن يرتعن في روضة هناك، فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن، ثم ملن عليهن، فأكلنهن فاستيقظ مذعوراً.

ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذا سبع أخر دقاق يابسات فأكلنهن، فاستيقظ مذعوراً، فلما قصَّها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أي: أخلاط أحلام من الليل لعلها لا تعبير لها ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك.

ولهذا قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا. وذلك عن تقدير الله عز وجل وله الحكمة في ذلك، فلما سمع رؤيا الملك ورأى عجز الناس عن تعبيرها، تذكر أمر يوسف، وما كان أوصاه به من التذكار.

ولها قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ} أي: تذكر.

{بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد مدة من الزمان، وهو بضع سنين.

وقرأ بعضهم كما حكي عن ابن عباس، وعكرمة، والضحاك {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد نسيان.

وقرأها مجاهد: (بَعْدَ أُمْة) بإسكان الميم، وهو النسيان أيضاً، يقال: أمه الرجل يأمه أمهاً، وأمهاً إذا نسي. (ج/ص: 1/ 240)

قال الشاعر:

أمهت وكنت لا أنسى حديثاً * كذاك الدهر يزري بالعقول

فقال لقومه وللملك: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} أي: فأرسلوني إلى يوسف.

فجاءه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي إستدعاه إلى حضرته، وقصَّ عليه ما رآه، ففسره له، وهذا غلط.

والصواب ما قصَّه الله في كتابه القرآن، لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران، من قراى وربان.

فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر، ولا شرط، ولا طلب الخروج سريعاً، بل أجابهم إلى ما سألوا، وعبر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب، ويعقبها سبع جدب.

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} يعني: يأتيهم الغيث، والخصب، والرفاهية.

{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يعني: ما كانوا يعصرونه من الأقصاب، والأعناب، والزيتون، والسمسم، وغيرها، فعبر لهم، وعلى الخير دلهم، وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم، وجدبهم، وما يفعلونه من ادخار حبوب سني الخصب في السبع الأول في سنبله، إلا ما يرصد بسبب الأكل ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل، وهذا يدل على كمال العلم، وكمال الرأي والفهم.

{وفَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 50-53].

لما أحاط الملك علماً بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام، وتمام عقله، ورأيه السديد وفهمه، أمر بإحضاره إلى حضرته، ليكون من جملة خاصته، فلما جاءه الرسول بذلك، أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلماً وعدواناً، وأنه بريء الساحة مما نسبوه إليه بهتاناً.

قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني: الملك

{فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} قيل: معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي، أي فأمر الملك فليسألهن كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي، وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد.

فلما سئلن عن ذلك، أعترفن بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فعند ذلك {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} وهي: زليخا {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي: ظهر، وتبين، ووضح، والحق أحق أن يتبع {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي: فيما يقوله من أنه بريء، وأنه لم يراودني، وأنه حبس ظلماً، وعدواناً، وزوراً، وبهتاناً. (ج/ص: 1/ 241)

وقوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} قيل: إنه من كلام يوسف، أي: إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب.

وقيل: إنه من تمام كلام زليخا، أي: إنما اعترفت بهذا، ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، وإنما كان مراده لم يقع معها فعل فاحشة، وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قيل: إنه من كلام يوسف. وقيل: من كلام زليخا، وهو مفرع على القولين الأولين. وكونه من تمام كلام زليخا أظهر، وأنسب، وأقوى، والله أعلم.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 54-57].

لما ظهر للملك براءة عرضه، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه، مما نسبوه إليه، قال:

{ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي: أجعله من خاصتي، ومن أكابر دولتي، ومن أعيان حاشيتي، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله

{قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي: ذو مكانة وأمانة

{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالإهراء، لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضى سبع سنى الخصب لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم، والرفق بهم.

وأخبر الملك إنه حفيظ أي: قوي على حفظ ما لديه، أمين عليه، عليم بضبط الأشياء، ومصالح الإهراء، وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة.

وعند أهل الكتاب: أن فرعون عظَّم يوسف عليه السلام جداً، وسلَّطه على جميع أرض مصر، وألبسه خاتمه، وألبسه الحرير، وطوقه الذهب، وحمله على مركبه الثاني، ونودي بين يديه: أنت رب ومسلط، وقال له: لست أعظم منك إلا بالكرسي، قالوا: وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، وزوجه امرأة عظيمة الشأن.

وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته وولاها يوسف. وقيل: إنه لما مات، زوَّجه امرأته زليخا، فوجدها عذراء، لأن زوجها كان لا يأتي النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين وهما: أفرايم ومنشا، قال: واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل، فأحبه الرجال والنساء.

وحكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة، وكل ذلك يجاوبه بكل لغة منها، فأعجبه ذلك مع حداثة سنه فالله أعلم. (ج/ص: 1/ 242)

قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي: بعد السجن، والضيق، والحصر، صار مطلق الركاب بديار مصر.

{يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي: أين شاء حلَّ منها مكرماً محسوداً معظماً.

{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: هذا كله من جزاء الله، وثوابه للمؤمن، مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.

ولهذا قال: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}

ويقال: إن أطفير زوج زليخا كان قد مات، فولاه الملك مكانه، وزوَّجه امرأته زليخا، فكان وزير صدق.

وذكر محمد بن إسحاق أن صاحب مصر – الوليد بن الريان – أسلم على يدي يوسف عليه السلام فالله أعلم.

وقد قال بعضهم:

وراء مضيق الخوف متسع الأمن * وأول مفروح به غاية الحزن

فلا تيأسن فالله ملك يوسفاً * خزائنه بعد الخلاص من السجن

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 58-62].

يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية، يمتارون طعاماً، وذلك بعد إتيان سُني الجدب وعمومها على سائر البلاد والعباد.

وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية، ديناً ودنيا، فلما دخلوا عليه عرفهم، ولم يعرفوه، لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة، فلهذا عرفهم وهم له منكرون.

وعند أهل الكتاب: أنهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم، وأراد أن لا يعرفوه بأغلظ لهم في القول، وقال: أنتم جواسيس جئتم لنا لتأخذوا خير بلادي، فقالوا: معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا، ونحن بنو أب واحد من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلاً، ذهب منا واحد، وصغيرنا عند أبينا.

فقال: لا بد أن أستعلم أمركم، وعندهم أنه حبسهم ثلاثة أيام، ثم أخرجهم، واحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر، وفي بعض هذا نظر.

قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي: أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه. (ج/ص: 1/ 243)

{قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} وكان قد سألهم عن حالهم، وكم هم، فقالوا كنا اثني عشر رجلاً، فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم.

{أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} أي: قد أحسنت نزلكم وقراكم فرغبهم ليأتوه به ثم رهبهم إن لم يأتوه به.

قال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} أي: فلست أعطيكم ميرة ولا أقربكم بالكلية عكس ما أسدى إليهم أولاً، فاجتهد في إحضاره معهم، ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب.

{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي: سنجتهد في مجيئه معنا، وإتيانه إليك بكل ممكن.

{وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي: وإنا لقادرون على تحصيله.

ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاءوا به يتعوضون به عن الميرة في أمتعتهم، من حيث لا يشعرون بها.

{لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قيل: أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم، وقيل: خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية، وقيل: تذمم أن يأخذ منهم عوضاً عن الميرة.

وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها.

وعند أهل الكتاب: أنها كانت صرراً من ورق وهو أشبه والله أعلم.

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 63-68].

يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم، وقولهم له: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أي: بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا.

{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي} أي: أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا.

{وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: نمتار لهم، ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم، ومحلهم

{وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ} بسببه.

{كَيْلَ بَعِيرٍ} قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي: في مقابلة ذهاب ولده الآخر. وكان يعقوب عليه السلام أضن شيء بولده بنيامين لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه، ويتسلى به عنه، ويتعوض بسببه منه.

فلهذا قال: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي: إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به.

{فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أكَّد المواثيق، وقرر العهود، واحتاط لنفسه في ولده، ولن يغني حذر من قدر. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة، لما بعث الولد العزيز، ولكن الأقدار لها أحكام، والرب تعالى يقدر ما يشاء، ويختار ما يريد، ويحكم ما يشاء، وهو الحكيم العليم. (ج/ص: 1/ 244)

ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة، قيل: أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين، وذلك لأنهم كانوا أشكالاً حسنة، وصوراً بديعة، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وقتادة، والسدي، والضحاك.

وقيل: أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبراً ليوسف، أو يحدثون عنه بأثر، قاله إبراهيم النخعي، والأول أظهر. ولهذا قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.

وقال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

وعند أهل الكتاب: أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق، واللوز، والصنوبر، والبطم، والعسل، وأخذوا الدراهم الأولى، وعوضاً آخر

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ * قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} [يوسف: 69-79].

يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف، وإيوائه إليه وإخباره له سراً عنهم بأنه أخوه، وأمره بكتم ذلك عنهم، وسلاه عما كان منهم من الإساءة إليه، (ج/ص: 1/ 245)

ثم احتال على أخذه منهم، وتركه إياه عنده دونهم، فأمر فتيانه بوضع سقايته – وهي التي كان يشرب بها، ويكيل بها للناس الطعام عن غرته -في متاع بنيامين، ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك، ووعدهم جعالة على رده حمل بعير، وضمنه المنادي لهم، فأقبلوا على من اتهمهم بذلك، فأنَّبوه وهجنوه فيما قاله لهم.

و {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يقولون: أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة.

{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه، ولهذا قالوا: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.

قال الله تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} ليكون ذلك أبعد للتهمه وأبلغ في الحيلة.

ثم قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي: لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد في رحله فهو جزاؤه، لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر.

{الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي: في العلم.

{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم، وأتم رأياً، وأقوى عزماً وحزماً، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك، لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك، من قدوم أبيه وقومه عليه، ووفودهم إليه فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون يوسف.

قيل: كان قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره.

وقيل: كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه وهو صغير منطقة كانت لإسحاق ثم استخرجوها من بين ثيابه، وهو لا يشعر بما صنعت، وإنما أرادت أن يكون عندها وفي حضانتها لمحبتها له.

وقيل: كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء.

وقيل: غير ذلك. فلهذا {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} وهي كلمته بعدها، وقوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} أجابهم سراً لا جهراً، حلماً وكرما وصفحاً وعفواً فدخلوا معه في الترقق والتعطف.

فقالوا: {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} أي: إن أطلقنا المتهم، وأخذنا البريء هذا ما لا نفعله ولا نسمح به، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.

وعند أهل الكتاب أن يوسف تعرف إليهم حينئذ، وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جداً. (ج/ص: 1/ 246)

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 80-87].

يقول تعالى مخبراً عنهم أنهم لما استيأسوا من أخذه منه، خلصوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرهم – وهو روبيل – {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله، فلم يبقَ لي وجه أقابله به.

{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أي: لا أزال مقيماً ههنا {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في القدوم عليه، {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: أخبروه بما رأيتم من الأمر في ظاهر المشاهدة، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: فإن هذا الذي أخبرناك به من أخذهم أخانا لأنه سرق أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: ليس الأمر كما ذكرتم، لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا هو خلقه، وإنما سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل.

قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتباً على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال، وهذا كما قال بعض السلف: إن من جزاء السيئة السيئة بعدها، ثم قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} يعني: يوسف وبنيامين وروبيل.

{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} أي: بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة.

{الْحَكِيمُ} فيما يقدره ويفعله، وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي: أعرض عن بنيه

{وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} ذكّره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرك ما كان كامناً كما قال بعضهم:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الأول

وقال آخر: (ج/ص: 1/ 247)

لقد لامني عند القبور على البكا * رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت له إن الأسى يبعث الأسى * فدعني فهذا كله قبر مالك

وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} أي: من كثرة البكاء.

{فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف، فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق

{قَالُوا} له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه

{تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} يقولون: لا تزال تتذكره حتى تنحل جسدك، وتضعف قوتك، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله عز وجل وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجاً ومخرجاً، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى.

ولهذا قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ثم قال لهم محرضاً على تطلب يوسف وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} أي: لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون.

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 88-93].

يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه، وقدومهم عليه، ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم رد أخيهم بنيامين إليهم {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال.

{وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي: ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنا، قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل: حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عباس: كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك.

{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}. قيل: بقبولها قاله السدي. وقيل: برد أخينا إلينا قاله ابن جريج. وقال سفيان بن عيينة: إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية. رواه ابن جرير.

فلما رأى ما هم فيه من الحال، وما جاؤوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال، تعرف إليهم وعطف عليهم قائلاً لهم عن أمر ربه وربهم. (ج/ص: 1/ 248)

وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال فيه الذي يعرفون {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}.

{قَالُوا} وتعجبوا كل العجب، وقد ترددوا إليه مراراً عديدة وهم لا يعرفون أنه هو.

{أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} يعني: أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم. وقوله {وَهَذَا أَخِي} تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال.

ولهذا قال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي: بإحسانه إلينا، وصدقته علينا وإيوائه لنا، وشده معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا وصبرنا على ما كان منكم إلينا، وطاعتنا وبرنا لأبينا ومحبته الشديدة لنا، وشفقته علينا.

{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي: فضلك وأعطاك ما لم يعطنا.

{وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي: فيما أسدينا إليك وها نحن بين يديك.

{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لست أعاقبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادهم على ذلك فقال: {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

ومن زعم أن الوقف على قوله: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} وابتدأ بقوله اليوم يغفر الله لكم، فقوله ضعيف والصحيح الأول. ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه وهو الذي يلي جسده، فيضعوه على عيني أبيه فإنه يرجع إليه بصره بعد ما كان ذهب بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات، وأكبر المعجزات.

ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 94-98].

قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل سمعت ابن عباس يقول: فلما فصلت العير قال: لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، وكذا رواه الثوري، وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به. (ج/ص: 1/ 249)

وقال الحسن البصري، وابن جريج المكي: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخاً، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة.

وقوله: {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي: تقولون إنما قلت هذا من الفند وهو الخرف وكبر السن.

قال ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة: تفندون: تسفهون.

وقال مجاهد أيضاً، والحسن: تهرمون.

{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} قال قتادة، والسدي: قالوا له كلمة غليظة. قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً} أي: بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيراً بعد ما كان ضريراً، وقال لبنيه عند ذلك: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف، وستقر عيني به وسيريني فيه ومنه ما يسرني.

فعند ذلك {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا، ونالوا منه ومن ابنه وما كانوا عزموا عليه، ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل، وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم، فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وما عليه عولوا قائلاً: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

قال ابن مسعود، وإبراهيم التيمي، وعمرو بن قيس، وابن جريج وغيرهم: أرجأهم إلى وقت السحر.

قال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال: كان عمر يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول: اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت وهذا السحر فاغفر لي، قال: فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسأل عبد الله عن ذلك فقال: إن يعقوب أخرّ بنيه إلى السحر بقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}

وقد قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِيْنَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] وثبت في الصحيحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له)).

وقد ورد في حديث أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة.

قال ابن جرير، حدثني المثنى، ثنا سليمان بن عبد الرحمن بن أيوب الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جريج، عن عطاء وعكرمة، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(({سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة، وهو قول أخي يعقوب لبنيه)).

وهذا غريب من هذا الوجه. (ج/ص: 1/ 250)

وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه.

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 99-101].

هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة، التي قيل أنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاثة وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال محمد بن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة. قال وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة.

وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريباً فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد فامتنع، فكان في السجن بضع سنين، وهي سبع عند عكرمة وغيره، ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي جاء إخوتهم يمتارون في السنة الأولى وحدهم، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاءوا كلهم.

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} اجتمع بها خصوصاً وحدهما دون إخوته. {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} قيل هذا من المقدم والمؤخر تقديره: ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير وهو معذور.

قيل: تلقاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} قاله السدي. ولو قيل إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضاً، وأنه ضمن قوله ادخلوا معنى اسكنوا مصر أو أقيموا بها، {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} لكان صحيحاً مليحاً أيضاً.

وعند أهل الكتاب: أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر، وهي أرض بلبيس، خرج يوسف لتلقيه وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشراً بقدومه، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم.

وقد ذكر جماعة من المفسرين أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب، وهو إسرائيل، أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف، وتعظيماً لنبي الله إسرائيل، وأنه دعا للملك وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم، فالله أعلم. (ج/ص: 1/ 251)

وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم، فيما قاله أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ثلاثة وستين إنساناً.

وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنساناً.

وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلاثمائة وتسعون إنساناً.

قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل. وفي نص أهل الكتاب أنهم كانوا سبعين نفساً وسموهم.

قال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قيل: كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة.

وقال بعض المفسرين: فأحياها الله تعالى. وقال آخرون: بل كانت خالته ليا، والخالة بمنزلة الأم.

وقال ابن جرير وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ، فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه، وهذا قوي والله أعلم.

ورفعهما على العرش أي: أجلسهما معه على سريره.

{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أي: سجده له الأبوان، والاخوة الأحد عشر، تعظيماً وتكريماً وكان هذا مشروعاً لهم، ولم يزل ذلك معمولاً به في سائر الشرائع، حتى حرم في ملتنا.

{وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} أي: هذا تعبير ما كنت قصصته عليك من رؤيتي الأحد عشر كوكباً، والشمس والقمر حين رأيتهم لي ساجدين، وأمرتني بكتمانها، ووعدتني ما وعدتني عند ذلك.

{قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} أي: بعد الهم والضيق جعلني حاكماً نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت.

{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أي: البادية، وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخليل.

{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي: فيما كان منهم إلي من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره.

ثم قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أي: إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه ويسرها، وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد، بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه، وعظيم قدرته.

{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} أي: بجميع الأمور.

{الْحَكِيمُ} في خلقه وشرعه وقدره. (ج/ص: 1/ 252)

وعند أهل الكتاب: أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده بأموالهم كلها من الذهب، والفضة، والعقار، والأثاث، وما يملكونه كله حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء، ثم أطلق لهم أرضهم، وأعتق رقابهم، على أن يعملوا ويكون خمس ما يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك، فصارت سنة أهل مصر بعده.

وحكى الثعلبي: أنه كان لا يشبع في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان، وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار، قال: فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك. قلت: وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة، حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.

قال الشافعي: قال رجل من الأعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة: لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة.

ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت، وشمله قد اجتمع، عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار، وأن كل شيء فيها ومن عليها فان، وما بعد التمام إلا النقصان، فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله، وسأل منه – وهو خير المسؤولين – أن يتوفاه، أي: حين يتوفاه على الإسلام، وأن يلحقه بعباده الصالحين، وهكذا كما يقال في الدعاء: اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، أي: حين تتوفانا.

ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى، والرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين، كما قال:

((اللهم في الرفيق الأعلى))، ثلاثاً ثم قضى.

ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزاً في صحة بدنه وسلامته، وأن ذلك كان سائغاً في ملتهم وشرعتهم، كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف.

فأما في شريعتنا: فقد نهي عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن، كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد:

((وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين)).

وفي الحديث الآخر: ((ابن آدم الموت خير لك من الفتنة)). وقالت مريم عليها السلام: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم: 23]. (ج/ص: 1/ 253)

وتمنى الموت علي بن أبي طالب لما تفاقمت الأمور، وعظمت الفتن، واشتد القتال، وكثر القيل والقال، وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح لما اشتد عليه الحال، ولقي من مخالفيه الأهوال.

فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، إما محسناً فيزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)).

والمراد بالضر ههنا: ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه، لا في دينه، والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره، أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.

وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب: أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة، ثم توفي عليه السلام وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق.

قال السدي: فصبر وسيره إلى بلاد الشام، فدفنه بالمنارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل عليهم السلام.

وعند أهل الكتاب: أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة، وعندهم: أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة، ومع هذا قالوا فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة. هذا نص كتابهم وهو غلط، إما في النسخة أو منهم، أو قد أسقطوا الكسر، وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا، فكيف يستعملون هذه الطريقة ههنا.

وقد قال تعالى في كتابه العزيز: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] يوصي بنيه بالإخلاص، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام.

وقد ذكر أهل الكتاب: أنه أوصى بنيه واحداً واحداً وأخبرهم بما يكون من أمرهم، وبشَّر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله، تطيعه الشعوب، وهو عيسى بن مريم، والله أعلم.

وذكروا: أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوماً، وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوماً، ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه، ليدفنه عند أهله فأذن له، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها، فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي، وعملوا له عزاء سبعة أيام.

قالوا: ثم رجعوا إلى بلادهم، وعزَّى إخوة يوسف ليوسف في أبيهم، وترققوا له، فأكرمهم وأحسن منقلبهم، فأقاموا ببلاد مصر. (ج/ص: 1/ 354)

ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة، فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه، فحنطوه ووضعوه في تابوت، فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام فدفنه عند آبائه كما سيأتي.

قالوا: فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين، هذا نصهم فيما رأيته، وفيما حكاه ابن جرير أيضاً.

وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة. وقال غيره: أوصى إلى أخيه يهوذا صلوات الله عليه وسلامه.

 

<photo id=”1″ />

المناعه

يعد الضد (الجسم المضاد) antibody واحدا من العناصر الحاسمة التي تساعد الجهاز المناعي على مواجهة ذلك التحدي. والضد هو جزىء بروتيني كبير اكتشفه ڤون بيهرنگ و <Sh.كيتاساتو> في عام 1890. وتتثبت الأضداد على الغزاة الدخلاء مثل البكتيريا والڤيروسات فتحيّدها neutralize، كما أنها تطوق الميكروبات بأسلوب يجعلها سائغة للخلايا القمَّامة (الكانسة) scavenger cells مثل البلعميات (البلاعم) macrophages. ولا يفعل كل نمط من الأضداد فعله إلا في جزىء مستهدَف بالغ النوعية يعرف باسم المستضد antigen. وهكذا، فإن الأضداد التي تهاجم عصيات مرض الجمرة anthrax ليس لها تأثير ضد التيفوئيد (الحمّى التيفية). وعلى مدى عشرات من السنين تصور البيولوجيون المستضد كنوع من المِرْصاف template يقولب جزىء الضد نفسه حوله متخذا شكلا متمما له. وهذه النظرية التي كان <F.هاوروڤيتس>أول من أوضحها بجلاء في الثلاثينات ومن ثم ناصرها<L.پاولنگ>، بقيت مسيطرة حتى نحو عام 1960.

وفي نحو منتصف الستينات من القرن الحالي وقع نموذج المرصاف هذا في مأزق؛ إذ بينتُ مع <L.G.آدا> (من معهد هول) أن الخلايا الصانعة للضد لا تحوي أي مستضد يصلح لأن يتشكل حوله ضد. وقد أظهرت دراسة الإنزيمات أن بنية البروتين تعتمد فقط على التتالي sequence الخاص لوحداته الفرعية (الجزئية) من الحموض الأمينية. وعلاوة على ذلك، استنتج <F. كريك> أنه في المنظومات البيولوجية تتدفق المعلومات من الدنا DNAإلى الرنا RNA ثم إلى بروتين. ولهذا السبب لا تستطيع بروتينات المستضد أن تحدد البروتينات الضديةantibody proteins الجديدة: فالمعلومات اللازمة للبنى الضدية يجب أن تتكود (تترمز) encoded في الجينات. وقد أثارت تلك المكتشفات السؤال المحير التالي: إذا كانت الجينات تملي صناعة الأضداد، فكيف يمكن أن يكون هناك جينات نوعية specific لكل واحد من ملايين الأضداد المختلفة التي يستطيع الجسم أن يصنعها؟

لقد اهتدى <K.N.جيرن> (حين كان يعمل في معهد كاليفورنيا للتقانة في عام 1955) إلى تفسير ممكن لذلك التنوع الذي لا يصدَّق في الأضداد. فاقترح أن الاستجابة المناعية هي استجابة انتقائية (اصطفائية)selective أكثر منها توجيهية (إرشادية) instructive. أي إن للثدييات مقدرة موروثة على اصطناع البلايين من الأضداد المختلفة، وأن وصول أحد المستضدات إنما يسرع فقط تشكيل الضد الأنسب تطابقا.

وبعد ذلك بعامين افترض بورنيت و<W.D.تالماج> (من جامعة كولورادو)، كل على حدة، أن الأضداد تتوضع على سطح اللمفاويات وأن كل لمفاوية لا تحمل إلا نوعا واحدا من الأضداد. فعندما يدخل أحد المستضدات الغريبة إلى الجسم سيصادف في نهاية المطاف لمفاوية تحمل مستقبلا recoptor يشاكله، فيحرضه كيميائيا على الانقسام وعلى إنتاج المزيد من كميات الضد ذي الصلة. وفي عام 1958 أثبتُّ مع <J. ليدربيرگ> (أثناء زيارته معهد هول) أنه حينما يتم تمنيع immunization حيوان ما بمستضديْن مختلفين، فإن كل واحدة من الخلايا المعنية لا تصنع في الحقيقة إلا نوعا واحدا من الأضداد.

وبعدها سرعان ما اكتشف <G.إديلمان> (من جامعة روكفلر) و <R.پورتر> (من جامعة أوكسفورد) أن الأضداد تتألف من أربعة بروتينات صغيرة تدعى سلاسل chains. ويملك كل ضد سلسلتين ثقيلتين متماثلتين وأخريين خفيفتين متماثلتين أيضا. وتشكل كل من السلسلتين الخفيفتين والثقيلتين أثناء تشابكهما الواحدة مع الأخرى موضعا فعالا active site يقدر على تعرف أحد المستضدات، وبذلك يكون لكل جزيء ضدي موضعين متماثلين للتعرف. فإذا عرفنا أن الموضع الرابط تسهم فيه سلسلتان، فإن ذلك يساعدنا على تفسير التنوع الكبير للأضداد من جراء العدد الكبير من الاتحادات الزوجية الممكنة.

يتطابق المستضد والضد في القَدّ والشكل بإحكام مثل تطابق اليدين المتصافحتين (في اليسار). ويبين هذا التشبيه الحاسوبي المبني على بيانات التصوير البلوري بالأشعة السينية صورة لمستضد من ڤيروس الإنفلونزا (في الشكل الأيسر) وهو يتفاعل مع ضد (في الشكل الأيمن) على شاكلة ما يحدث على سطح إحدى اللمفاويات البائية. وإن فصل الجزيئين مسافة ثمانية أنغسترومات يكشف سطحيهما المتتامين (في اليمين). ويبدو هنا الجزء المتبدل لسلسلة البروتين الثقيلة باللون الأحمر في حين يبدو الجزء المقابل للسلسلة الخفيفة باللون الأزرق.

لقد أفْضت مجموعة تجارب أجراها <S.تانيگاوا> (من معهد بازل لعلم المناعة) إلى وصفٍ محدَّدٍ للكيفية التي يستطيع بها جهاز المناعة إنتاج ذلك العدد الكبير من أنواع الضد المختلفة. فقد وجد أنه خلافا لما هي الحال عليه في جميع الجينات الأخرى بالجسم تقريبا، فإن الجينات التي تحتوي6 على كود (مرمِّز) code السلاسل الثقيلة لا تكون مسبقة الوجود في البيضة الملقحة، بل يستقر الكود في أربع مجموعات من جينات مصغَّرة mini-genes تقع منفصلة في أجزاء متباعدة من النواة. ويتأتى تنوع الأضداد من كمية فصائل الجينات المصغرة: إذ يوجد ما ينوف على مئة نوع من جينات V (المتغيرة) V variable genes واثني عشر جين D (التنوعية) D diversity genes، وأربعة جينات J (الوصلية) J joining genes. أما الجينات C أو الثابتة constant، فإنها تختلف في طرق تأثيرها في وظيفة الضد فقط وليس في إلفة affinity الضد بالمستضد.

طريقة دفاع الجهاز المناعي عن الجسم

يقوم بحماية الجسم جيش متنوع من خلايا وجزيئات تعمل بشكل متناغم. ويتمثل الهدف الأخير للاستجابات المناعية كلها في مستضد، يكون في العادة جزيئا غريبا تابعا لبكتيرة (جرثوم) ما أو لغيرها من الغزاة. فهناك خلايا متخصصة عارضة للمستضدantigen – presenting مثل البلعميات (البلاعم) تجوب الجسم لتبتلع المستضدات في طريقها مُجزِّئة إياها إلى پپتيدات مستضدية. وتتصل قطع من هذه الپپتيدات بجزيئات معقد التوافق النسيجي الكبير (MHC) فيجري إظهارها على سطح الخلية. وهناك كريات بيض أخرى تدعى اللمفاويات التائية تمتلك جزيئات مستقبلة تمكن كلا منها من تعرف تركيبة (تجميعة) combination مختلفة لمعقد التوافق النسيجي الكبير والپپتيد. وتبادر الخلايا التائية التي نشَّطها ذلك التعرف إلى التقسم وإفراز اللمفوكينات (أي الإشارات الكيميائية) التي تعبِّئ جهود مكونات أخرى للجهاز المناعي. ويضم أحد أطقم الخلايا التي تستجيب لهذه الإشارات اللمفاويات البائية التي تمتلك كذلك جزيئات مستقبلة ذات نوعية وحيدة على سطحها. ولكن خلافا لمستقبلات الخلايا التائية، فإن مستقبلات الخلايا البائية يمكنها أن تتعرف الأجزاء المستضدية الحرة في المحلول من دون جزيئات معقد التوافق النسيجي الكبير. ولدى تنشيط الخلايا البائية فإنها تنقسم وتتمايز إلى خلايا پَلَزْمِيّة تفرز البروتينات الضدية التي هي أشكال منحلة (ذؤوبة) من مستقبلاتها. وبارتباط الأضداد بالمستضدات التي تعثر عليها فإنها (أي الأضداد) تستطيع تحييد هذه المستضدات أو تسبب تدميرها بفعل إنزيمات متمِّمة أو بوساطة خلايا قَمّامة (كانسة). وتصبح بعض الخلايا التائية والخلايا البائية خلايا ذاكرة memory cells تمكث في الدورة الدموية وتعزز جاهزية الجهاز المناعي لاستئصال شأفة المستضد نفسه إذا ما عاد للظهور مستقبلا. ولما كانت الجينات الصانعة لهذه الأضداد في الخلايا البائية تَطْفُر mutate بكثرة، فإن استجابة الضد تتحسن بعد التمنيعات immunizations المتكررة.

 الدفاعات اللامركزية للمناعة

لما كانت العوامل الخامجة infectious تستطيع الدخول إلى الجسم من أي نقطة فيه، فإن أنسجة الجهاز اللمفي وأعضاءه، التي هي ينبوع الدفاع المناعي، تنتشر مبعثرة بشكل واسع. فاللمفاويات المسؤولة عن المناعة النوعية تنشأ في الأعضاء اللمفاوية الأولية: فالتوتة (الغدة السَّعْترية) thymus تصنع الخلايا التائية ويصنع نقي العظام الخلايا البائية. وبعد أن تغادر هذه الخلايا تلك الأعضاء تجول في الدم إلى أن تصل أحد الأعضاء اللمفاوية الثانوية العديدة، مثل العقد اللمفية والطحال ولوزتي الحلق، ومن ثم تغادر مجرى الدم عبر أوعية دموية متخصصة تدعى الوُرَيْدات البطانية العالية high endothelial venules. ومع أن اللمفاويات تصبح هنا مكتنزة نوعا ما (إذ يحوي الغرام من العقدة اللمفاوية بليونا منها) فإنها تبقى قادرة على التحرك بحرية. وهكذا تُعَدّ العقد أمكنة ممتازة لتنشيط اللمفاويات بفعل المستضدات والخلايا العارضة (المقدمة) للمستضد التي تدخل عبر الأوعية اللمفية الواردة (الجابذة) afferent. وعلى العموم، تتنشط الخلايا التائية بفعل المستضد في جُنَيب (نظير) القشرة paracortex، وتغدو الخلايا البائية المُنَشَّطة خلايا پلزمية مولدة للضد في مناطق مثل المراكز المُنْشِئة (المنتشة) التابعة للجُرَيْبات اللمفاوية. وتتدفق اللمفاويات المنشَّطة إلى خارج العقد عبر الأوعية اللمفية الصادرة (النابذة)efferent لترحل عبر السائل الموجود في هذه الأوعية وصولا إلى الدورة الدموية ولتنشر تأثيرها الوقائي في أرجاء الجسم. وأخيرا تدخل اللمفاويات عقدا لمفية أخرى وتبدأ الدورة من جديد.

يُمكِّن الانتقاءُ النسيلي جهازَ المناعة من الارتكاس react لآلاف العوامل المُمْرِضة الممكنة. فاللمفاويات التي تحمل أي واحد من ملايين الأضداد السطحية المختلفة، تجوب الجسم باستمرار. وعندما يلاقي المستضد الموجود على سطح كيان غريب لمفاوية تحمل ضدا يضاهيها (في الأعلى)، فإن هذه اللمفاوية تتورم وتبدأ بالتقسم سريعا (في اليمين). وما إن تبلغ الخلايا التائية نضجها حتى تفرز أضدادا تهاجم العامل الغازي (في الأسفل). أما الخلايا التائية فإنها تولد اللمفوكينات التي هي كيماويات تستحث فعالية الخلايا الأخرى في الجهاز المناعي.

وفي أثناء تشكل إحدى الخلايا المكونة للضد، يقفز واحد من الجينات المصغرة من كل من المجموعتين إلى خارج موقعه الأصلي ويرتبط بالجينات القافزة الأخرى من المجموعة الثانية ليشكل جين V-D-J-C كاملا. وتسمح إعادة الترتيب الجيني هذه بقيام (100X 12 X 4 X 1= 4800) نوع مختلف من السلاسل الثقيلة. وتحدث العملية نفسها في تجميع جينات السلاسل الخفيفة، باستثناء أن هذه الأخيرة لا تحوي إلا قطع segments V وJوC، بحيث يتكون لدينا منها نحو 400 تركيبة (تضامية) أساسية. ويسمح تنوع السلاسل الثقيلة والخفيفة بوجود

(4800X400 = 1920 000) جين ضدي. وعلاوة على ذلك، تستطيع إنزيمات خاصة إدخال وحدات تكويد (ترميز) إضافية قليلة وذلك في المَواصل (المفاصل) الواقعة بين القطعتين V و D وبين القطعتين D و J عندما يجري ترابطهما، الأمر الذي يزيد من عدد التراكيب الضدية الممكنة.

وعلى الرغم من التعدد الهائل لبراعات الأضداد، فإنها لا تستطيع وحدها أن تؤمِّن الحماية الكاملة من الغزو الخمجي (الإنتاني). فبعض الأمراض من أمثال السل (التدرن) tuberculosis ينسل إلى داخل خلايا العائل (الثوي) سريعا، بحيث يتمكن من التواري عن الجزيئات الضدية. وفي هذه الحالات يأتي دور نوع ثان من الاستجابة المناعية. فعندما تلتهب inflamed الخلايا المخموجة تقوم اللمفاويات بمهاجمتها كيما تحاصر الخمجinfection. وتعرف هذه الآلية الدفاعية باسم المناعة ذات التوسط الخلوي (خلوية الوساطة) cell-mediatedimmunity، في مقابل ما يعرف باسم المناعة الخِلْطية humoral immunity التي تتوسطها الأضداد.

وفي أوائل الستينات من القرن الحالي أقر <J.ميلّر> الذي كان يومذاك في معهد البحوث Chester Beattyبلندن و< N .وارنر>و <A.زنبرگ> (من معهد هول) بأن اللمفاويات تندرج في صنفين (صفين) مختلفين يتحكم كل واحد منهما في واحد من نَوْعي الاستجابة  المناعية. فالمناعة ذات التوسط الخلوي تتضمن نوعا من اللمفاويات ينشأ في التوتة thymus ويسمى الخلية التائية T Cell. أما المناعة الخلطية فإنها تحدث من خلال فعل الأضداد التي تنتجها اللمفاويات المعروفة باسم الخلايا البائية B Cells والتي تتكون في نقي العظام bone marrow.

وتختلف الخلايا التائية عن الخلايا البائية ليس في الوظيفة فحسب بل وكذلك في طريقة ملاقاة المُغير الغريب. وحسبما يفترض كل من تالماج وبورنيت فإن الخلايا البائية تستطيع تعرُّف المستضدات لكونها تحمل أضدادا على سطحها. كما أن كل خلية تائية تمتلك مستقبلا receptor وحيدا، ولكنها خلافا للخلايا البائية لا تستطيع «رؤية» المستضد بأكمله. وبدلا من ذلك، فإن المستقبلات الموجودة على الخلايا التائية تتعرف القطع البروتينية للمستضدات، أو الپپتيدات peptides المؤلفة من تتاليات خطية ذات 8 إلى 15 حمضا أمينيا. وتتعرف الخلايا التائية تتاليات الپپتيد الغريب الموجودة على سطوح خلايا الجسم، بما في ذلك الشقف bits الڤيروسية أو الجزيئات الطافرة في الخلايا السرطانية أو حتى قطع الأجزاء الداخلية لأحد الميكروبات. ويعمل جزيء يُعرف باسم بروتين معقد التوافق النسيجي الكبير Major Histocompatibility Complex Protein MHC على جلب الپپتيد إلى سطح الخلية حيث تستطيع الخلية التائية الارتباط به.

تشكل الخلايا التائية مع الأضداد شراكة تامة. فالأضداد تستجيب بسرعة لجزيئات الذيفان (السم) وللسطوح الخارجية للميكروبات، في حين تكتشف الخلايا التائية مستضدات العوامل المُمْرضة pathogens الداخلية المختبئة التي تجعلها، بدورها فعالة بشكل خاص في تعقب العوامل الخمجية. فمثلا، قد يستطيع أحد الڤيروسات من خلال التطفر mutation أن يغيِّر غلافه الخارجي بسرعة وبذلك يحبط تحييده (تعديله) من قبل الأضداد. ويمكن لهذا الڤيروس نفسه أن يحتوي بداخل لبه على بضعة بروتينات تعد أساسية لحياته ولا يسمح لها بالتطفر. وعندما يتنسخ (يتضاعف) replicate ذلك الڤيروس داخل الخلايا تفر سلاسل پپتيدية قصيرة من تلك البروتينات الڤيروسية وتذهب إلى سطح الخلية. وهنا تفيد تلك السلاسل كأهداف ملائمة للخلية التائية التي تستطيع، بدورها، أن تهاجم الخلية المخموجة وتكبح انتشار الڤيروس.

إلى هذا الحد أكون قد وصفت الخلايا التائية والخلايا البائية وكأنها تعمل بشكل مستقل عن بعضها. ولكن الحقيقة تكمن في أن هذين النوعين من الخلايا يشكلان منظومة (جملة) محبوكة بإحكام. فالخلايا التائية تقيم اتصالا وثيقا مع الخلايا البائية وتستحث فيها حالة فعالة بحيث تفرز اللمفوكينات lymphokines التي هي جزيئات تشجع تكوين الضد. وكذلك تستطيع الخلايا التائية كبت تكوين الضد عن طريق إطلاقها لمفوكينات تثبيطية.

أما الخلايا البائية فإنها تهيئ بدورها المستضدات على نحو يجعل هذه الأخيرة سهلة الاستجابة للخلايا التائية، إذ تربط المستضدات بجزيئات معقد التوافق النسيجي الكبير MHC وتعرضها (تظهرها) على سطح الخلية. وبهذه الطريقة تساعد الخلايا البائية على بعث الحالة الفعالة في الخلايا التائية. وقد لاحظ الباحثون أن الخلايا البائية تستطيع أيضا أن تثبط استجابات الخلية التائية في الشروط التجريبية. وتعد مثل هذه العرى loops العالية التنظيم للتلقيم الراجع (التغذية المرتدة) الإيجابي والسلبي، علامة مميزة لبنيان الجهاز المناعي.

هذا ولا ينتهي تخصص الجهاز المناعي عند حدود انقسامه إلى خلايا بائية وخلايا تائية. فالخلايا التائية نفسها تضم فئتين فرعيتين هما: الخلايا التائية المساعدة CD4 helper والخلايا التائية القاتلة CD8 killer. أما الخلاياCD4، فإنها تتعرف الپپتيدات من البروتينات التي سبق أن تناولتها البلعميات macrophages والخلايا المتخصصة الأخرى في الاستيلاء على المستضدات. أما الخلايا CD8، فإنها ترتكس react لعينات الپپتيدات الناشئة داخل الخلية نفسها، مثل قطعة من ڤيروس في خلية مخموجة أو بروتينات طافرة في خلية سرطانية. وكل نوع من أنواع الخلايا التائية يستخدم الشكل الذي يخصه من المعقد MHC لجعل الپپتيدات قابلة للملاحظة.

وعندما تصادف الخلايا التائية CD4 الإشارة الكيميائية المناسبة، تقوم بإنتاج كميات كبيرة من اللمفوكينات من أجل تسريع انقسام خلايا تائية أخرى بغية تعزيز الالتهاب. وتتخصص بعض الخلايا CD4 في مساعدة الخلايا البائية في حين يساعد البعض الآخر في إحداث الالتهاب. أما الخلايا CD8 المنشَّطة، فإنها تنتج كميات من اللمفوكينات تقل كثيرا عن سابقتها، ولكنها تكتسب القدرة على فتح ثقوب في الخلايا المستهدفة وعلى إفراز كيماويات تقتل الخلايا المخموجة، وبذلك تحد من انتشار الڤيروس، وبفضل تأثيرها القاتل فإن الخلايا التائية CD8 توصف كذلك بأنها تائيات مسمِّمة للخلايا cytotoxic T cells.

لا تعدو الخلية البائية (أثناء راحتها) أكثر من نواة محاطة بطوق نحيل من السيتوپلازم (في اليسار). وما إن تقابل خلية بائية مستضدا يضاهيها حتى تؤلف جسما متمددا (في الوسط) يحوي جسيمات ريبية متعددة تصنع أضدادا، كما تؤلف جهازا قنويا متطورا لاستكشاف تلك الأضداد. أما اللمفاويات التائية فتستطيع تنظيم سلوك الخلايا البائية عن طريق تقديمها لمفوكينات عبر مَوْصِلٍ (مفصل) وثيق يشبه نوعا ما المشبك العصبي (في اليمين). وفي غضون هذه التآثرات (التفاعلات) تستطيع الخلية البائية كذلك التأثير في فعالية الخلية التائية.

ينتاب الخلايا البائية تحول مذهل جدا حالما يتم تنشيطها. فقبل أن تلاقي المستضد تكون الخلية البائية مزودة بنواة متماسكة مع كمية قليلة جدا من السيتوپلازم (الهيولى) cytoplasm، (وينطبق عليها في هذه المرحلة قول القائل: أكل ومرعى وقلة صنعة). ولكن ما إن تنبري إلى العمل حتى ينتابها انقسام متكرر وتؤسس آلافا من نقاط التجميع داخل سيتوپلازماها من أجل صناعة الأضداد. كما تؤسس جملة من القنوات الغزيرة من أجل رَزْمpackaging الأضداد وتصديرها. فالخلية البائية الواحدة يمكنها أن تقذف أكثر من عشرة ملايين جزيء ضدي في الساعة.

بالاشتراك مع العاملين معي، قمت بعمل روتيني نزرع فيه خلية بائية منفردة من أجل إنماء «نسيلة» clone تضم مئات الخلايا الوليدة. وبعد أسبوع واحد تستطيع هذه النسائل أن تولد مئة بليون جزيء ضدي متماثل جاهز للدراسة. وقد مكنتنا مثل هذه المزارع (المستنبتات) النسيلية clonal cultures من أن نشهد موهبة أخرى من مواهب الخلايا البائية الرائعة. ذلك أن الخلايا البائية تستطيع أن تتحول من صناعة نمط متماثل واحد، أو تشكيلة وظيفية من الأضداد، إلى صناعة ضد آخر غيره من دون تغيير المستضد الذي يرتبط به الضد. فكل نمط متماثل (إسويّ) isotype لأحد الأضداد يشتق من شكل مختلف من الجين المصغَّر C.

ولكل نمط متماثل ضدي ميزة فريدة خاصة به. فهناك نمط متماثل يخدم كخط دفاع أول، في حين يتخصص نمط متماثل آخر غيره في تحييد (تعديل) الذيفان toxins، ويفيض نمط ثالث بالمخاط، فيساعد في صنع حاجز يواجه العوامل الخمجية التي تحاول الدخول عن طريق الأنف والحلق والأمعاء. وفي ردها على اللمفوكينات الصادرة عن الخلايا التائية، يمكن للخلايا البائية أن تتحول من نمط ضدي متماثل إلى نمط آخر خلال يوم أو نحو ذلك.

هذا وتتلقى كل من اللمفاويات البائية والتائية مساعدة من خلال جزيئات أخرى مختلفة. فعندما تعلق الأضداد بواحدة من البكتيريا، فإنها تستطيع تنشيط المتممة complement التي هي صنف من الإنزيمات يقتل البكتيريا عن طريق إتلاف أغشيتها الخارجية. ويبعث بعض اللمفوكينات نداء كيميائيا إلى البلعميات والمحبَّبات granulocytesوالكريات الدموية البيض الأخرى التي تزيل (تكنس) الأوساخ في الموضع المخموج عن طريق ابتلاع البكتيريا والخلايا الميتة. وتُعَدّ مثل هذه النظافة أمرا بالغ الأهمية، إذ إن المريض الذي يخلو من المحببات يواجه خطر موت جديٍّا من قبل البكتيريا الخمجية التي تتغذى بالأشلاء الخلوية. ومن الواضح أن جميع الكريات الدموية البيض تعمل معا كفريق في غاية الانسجام.

ومع كل الإجراءات المعقدة للدفاعات المناعية يكون من المهم قطعيا أن تبقى اللمفاويات على الدوام حميدة السلوك تجاه خلايا الجسم الذي تنتمي إليه والذي يشار إليه عادة بالذّات self، في حين ترتكس بشكل عدوانيٍّ تجاه الخلايا التي تتعرّفها غريبةً عنه، أو ما يعرف باسم الغير (اللاّذات) nonself. وقد افترض بورنيت أنّ تعرُّفَ الذات لا يتحدد جينيًّا، بل بالأحرى يتعلمها الجهاز المناعي في أثناء المرحلة الجنينية للكائن الحي (للمتعضية الحية). فقد اقتَرَح أن المستضد الغريب الذي يدخل الجنين قبل تشكُّل جهازه المناعي سيخدع اللمفاويات في أن تعتبر الجزيء الغريب عنصرًا من الذات. ولكن محاولات بورنيت لإثبات نظريته عن طريق حقن لقاح الإنفلونزا (النزلة الوافدة) داخل أجنة الدجاج لم تُعطِ الاستجابة الباطلةَ null response المتوقعة.

وفي عام 1953 حقق كل من <R.بيلينگهام> و<L.برينت> والسير <P.ميداوار> (أثناء عملهم في جامعة لندن) نجاحا فيما أخفق به بورنيت. فقد كان ثلاثتهم يبحثون عن طرقٍ لاغتراس transplant الجلد نَقْلا من فرد إلى فرد آخر من أجل معالجة أحد ضحايا الحرق مثلا. وكان ميداوار قد اكتشف سابقا أن الجسم يرفض مثل هذه الطعوم grafts الجلدية بسبب الاستجابة المناعية. فعندما اطلع على كتابات بورنيت النظرية شرع مع زملائه بحقن أجنةِ فئران مستولدة استيلادًا داخليًّا inbred بخلايا مأخوذةٍ من طحال سلالةٍ أخرى مختلفة من الفئران. وهنا ماتت بعض الأجنة نتيجة هذا الأذى، ولكن الأجنة التي بقيت على قيد الحياة واستمرت حتى الكهولة، تقبَّلتْ الطعومَ الجلدية من السلالة المُعْطِية (المانحة) donor. وإن بقعة من الفراء الأسود تنمو على الفأر الأبيض عرضت بشكل مثير اكتشاف حالة تحمُّل مناعي مكتسب فعال. فلأول مرة تم تضليل اللمفاويات في تعرفها الذات من الغير (اللاذات). وقد تقاسم كل من بورنيت وميداوار جائزة نوبل عن أعمالهما في هذا المجال.

لقد أوضحت البحوث اللاحقة سبب الإخفاق الذي آلت إليه تجارب بورنيت، إذ استخدم فريق ميداوار خلايا حية كمصدر للمستضد (وبالأخص خلايا تستطيع التحرك إلى مواقع حدّية مثل التوتة ونقي العظام). وطالما بقيت هذه الخلايا المُعْطِيَة حية، استمرت في صنع المستضدات التي استثارت اللمفاويات الناشئة. أما لقاح الإنفلونزا الذي استخدمه بورنيت فإنه بالمقابل قد استُهلِك بسرعة وأَعْطَبَتْه الخلايا القمَّامة، فلم يصل إلى الجهاز المناعي من المستضد ما يكفي لتحريض درجة من التحمُّل ذات شأن.

هذا وإنّ التحقُّق من كَوْن الاستجابة المناعية تعتمد بشدة على التنوُّع الكبير للأضداد الموجودة على الخلايا البائية ذات العدد الهائل في الجسم، قد أوحى بالآلية التي تتعلم بوساطتها اللمفاويات تَجاهُل خلايا الذات. فالتفاعل المناعي يُمثِّل تنشيطَ لمفاوياتٍ نوعيةً (معيَّنةً) يتمُّ انتقاؤها من تشكيلة العَرْض المتنوعة في الجسم. وبدا من المنطقي أنه يمكن النظر إلى تحمُّل الذات tolerance of self كصورةٍ مرآتيةٍ للمناعة: إنه مَحْوٌ مُنَظَّمٌ لتلك الخلايا التي تستجيب لمستضد الذات self-antigen.

قد تتسبَّب التأثيراتُ الجينيةُ والمثيرات البيئية بتعطيل القواعد المناعية المعتادة. وفي تلك الحالات قد تستجيب الخلايا البائية أو الخلايا التائية أو كلتاهما لمستضدات الذات فتهاجم خلايا الجسمِ نفسِه الذي تنتمي إليه، وتؤدي إلى مرضٍ مناعيٍّ ذاتيٍّ مدمِّر. وتنجم بعض مثل هذه الاضطرابات عن أضدادٍ أُسيء توجيهُها: ففي فقر الدم الانحلاليhemolytic anemia تهاجم الأضداد كريات الدم الحمر، وفي مرض الوَهن العضلي الوبيل myasthenia gravis تَنْقَضُّ الأضدادُ على البروتين الحيوي في الخلايا العضلية الذي يستقبل الإشارات من الأعصاب. هذا وتؤدي الخلايا التائية دور الوصيف في أمراضٍ مناعيةٍ ذاتيةٍ أخرى: ففي مرض السكري المعتمد (المنوط) على الأنسولين تُخَرِّب اللمفاويات التائية الخلايا المولِّدةَ للأنسولين في البنكرياس، وفي مرض التصلب المتعددmultiple sclerosis تُوَجِّه اللمفاويات التائية ضراوتها fury ضد الطبقة العازلة التي تطوِّق الألياف العصبية في الدماغ والنخاع الشوكي.

تُحَتِّم أمراضُ المناعة الذاتية ضرورةَ إلغاء الجهاز المناعي أو تقييده على الأقل. وتستطيع العقاقير الكابتة للمناعة والمضادة للالتهاب أن تحقق التأثير المطلوب، ولكن مثل هذا الأسلوب الكثير الأخطاء لا يكبت الاستجابة السيئة المضادة للذات فقط، بل يكبت كذلك التفاعلات المناعية المرغوب فيها. ولحسن الحظ يحرز الباحثون الآن بعض التقدم في اتجاه الهدف المثالي لإعادة تأسيس التحمل المناعي النوعي لمستضد الذات المُحاصَر.

ويتضمن أحدُ أنواع المعالجة تغذيةَ المريض بكميات كبيرة من مستضد الذات المعتدى عليه، ومن المدهش تمامًا أن مثل هذا الأسلوب يستطيع تقييد (كبح) الاستجابات المتوقعة تجاه ذلك المستضد بشكل انتقائي. وقد حقق الباحثون نتائج مشابهة عن طريق إعطاء المستضدات داخل الوريد في حين يجري تضليل الخلايا التائية بشكل مؤقتٍ بوساطة الأضدادِ الوحيدةِ النَّسيلةِ التي تَحْصُر (تسدّ) block مستقبلاتها المستضدية. وقد وصلت بعض معالجات الأمراض المناعية الذاتية المعتمدة على هذه الأساليب إلى مرحلة التجارب السريرية.

وكذلك يتطلَّب اغتراسُ الأعضاء الناجح إيقافَ مَظهَرٍ غيرِ مرغوب فيه في الاستجابة المناعية. فمن حيث المبدأ، يستطيع الجراح أن يشرع في إعطاء العقاقير الكابتة للمناعة في أثناء العملية الجراحية مُستبِقًا الهجوم اللمفاوي. ويستثير معظم اغتراسات الأعضاء استجابةً خلوية قوية كهذه، بحيث إن جرعات العقاقير اللازمة لمنع رفض العضو تكون أكبر حتى من الجرعات المستخدمة لمعالجة الأمراض المناعية الذاتية. ولحسن الحظ فإنه يمكن تقليل تلك الجرعات بعد أشهر قليلة. وهناك عقاقير كابتة للمناعة أحدث وأشد قوة وتؤدي معدلات نجاحٍ جيدة في اغتراس الكِلْية والقلب والكبد ونقي العظام ومجموعة القلب والرئة وكذلك البنكرياس. وتمّ مؤخرا أخذ غرسات قليلة من المِعَى الدقيقة. والآن يسعى الباحثون حثيثا لتطوير عقاقير هادفة تُضْعِفُ استجابةَ رَفْضِ الأعضاء في الوقت نفسه الذي تسمح فيه للجسم بالارتكاس والرد على الأمراض الخمجية.

تستطيع الخلايا السرطانية مراوغة هجوم اللمفاويات حتى لو كانت تحمل مستضدات متميزة. وقد يحدث ذلك الغياب للاستجابة المناعية بسبب افتقار الخلايا السرطانية للجزيئات التنشيطية المناسبة (في اليسار). ويحاول الباحثون تحريض الجسم على محاربة الأورام عن طريق إدخالهم الجزيء (B7) في عمق الخلايا السرطانية (في الوسط). وعندما تلتحم (B7) مع (CD28) التي هي جزيء متمم على سطح الخلايا التائية، فإنها تولد إشارة تثير هجوما على الخلايا السرطانية (في اليمين).

لقد غدا الاغتراس ناجحا إلى الحد الذي جعل الأطباء يواجهون نقصا في تأمين حاجتهم من الأعضاء المأخوذة حديثًا من المانحين المصابين بالمرض. لذا أخذ الباحثون يجدِّدون جهودَهم لإنجاز ما يسمى الاغتراس الغريبxeno – transplantation الذي يعني اغتراس أعضاء مأخوذة من الحيوانات. ويمكن زراعة أنسجة من الغدد الصماء بحيث تفقد بعض قوتها المستضدية، فتزيد من إمكانية التوصل في يوم ما إلى إدخال طُعْمٍ من الخلايا المفرزة للأنسولين في جسم المصابين بالداء السكري. وقد تستطيع المعالجات الكيميائية «أَنْسَنَةَ»humanization جزيئاتٍ حاسمةٍ في أعضاء الحيوان بحيث تلطف من ضراوتها في الرفض المناعي. وعلى الرغم من ذلك، يواجه الاغتراس الغريب عقباتٍ فنية وأخلاقية هائلة.

وليس بالضرورة أن تكون الهجماتُ المناعية على أنسجة الجسم مُرْعِبَةً، فقد تكون في الواقع مفيدة إذا ما أمكن توجيهها ضد السرطانات. وفي الحقيقة، فإن نظرية الإشراف المناعي immune surveillance theory، التي كان <L.ثوماس> أول من بَيَّنَها يوم كان في جامعة نيويورك، ترى أن استئصال الخلايا قبل السرطانية precancerousيُعَدُّ واحدًا من الواجبات الرئيسة للمفاويات الجوابة الراصدة باستمرار.

إن الناس الذين كُبتت أجهزتهم المناعية باستخدام العقاقير (والذين هم المستقبلون لغرائس الأعضاء على الأغلب) يكونون أكثر إصابة باللوكيميا (ابيضاض الدم) واللِّمفوما (الورم اللمفاوي) وسرطانات الجلد من الأفراد المشابهين لهم في المجموع السكاني العام. وقد وجد الأطباء بعد ثلاثة عقود من مراقبتهم مَرْضى غرائس الكلية أن أولئك الأفراد يصبحون إلى حد ما أكثر استعدادا لعدة سرطانات شائعة مثل سرطانات الرئة والثدي والقولون والرحم والپُرُسْتاة (الموثة). وتنوِّه هذه الاكتشافات إلى أن الإشراف المناعي يمكن أن ينبري لمراقبة بعض السرطانات على الأقل. وبالمقابل، فإن السرطانات المرتبطة بالعقاقير قد تكون نتيجة لآليةٍ ما غير الكَبْت المناعي.

هذا ويأتي المزيد من الأدلة على دور الجهاز المناعي في الحيلولة دون السرطان من دراسات على سرطاناتِ الفأر التي يتم إحداثها بفعل ڤيروسات أو مواد مُسَرطِنة كيميائية. وتثير تلك السرطانات استجابات مناعية قوية حينما يتم اغتراسها في الفئران المتماثلة جينيا والتي يثبت فيها أن الخلايا السرطانية تحمل مستضدات تَسِمُها بأنها شاذةabnormal. أما السرطانات الناشئة تلقائيا في الفئران والتي تكون أكثر شبها بسرطان الإنسان، فإنها لا تثير إلا القليل من الاستجابة المناعية أو لا تثير شيئا منها.

درس <A.E.ڤون بيهرنگ> (في اليمين) تأثيرات الترياقاتantitoxins التي تظهر في الدورة الدموية بعد الخمج، وقد صك مصطلح «الضد (الجسم المضاد)» كتسمية لها. وقادت تجارب ڤون بيهرنگ على تحريض المناعة لدى حيوانات المختبر إلى إيجاد مصل ضدي يمنع الدفتيريا (الخناق). وفي عام 1901 أحرز هذا العالم عن بحثه أول جائزة نوبل في الطب.

ومع ذلك، فحتى السرطانات التلقائية يمكن أن تحمل بعض المستضدات النوعية الورمية التي يمكن أن تبعث ارتكاسا للجهاز المناعي في حال وجود إشارات كيميائية أخرى. ويعتبر الجزيء المسمى (B7) مثيرا بالغ القوة في هذا الصدد. فعندما يتم إدخاله في خلايا أحد الأورام، يستطيع هذا الجزيء (B7) أن يحول الخلايا السرطانية المُهلِكة والمتعذر التحكم فيها إلى خلايا تهاجمها التائيات T cells وتبيدها. ونذكر هنا أن الجزيء (B7) ليس بحد ذاته مستضدًا ولكنه يساعد بوضوح الجزيئات المستضدية في الخلية الورمية على تنشيط (تفعيل) التائيات.

لقد جدَّد اكتشاف الجزيئات المحفِّزة للمناعة (مثل B7) الاهتمام بإمكانية إيجاد لقاحات مضادة للسرطان. ومثل هذه المعالجات يمكن أن تكون مجديةً ضد الورم القتامي melanoma الخبيث الذي هو سرطان ينشأ عن الجزيئات المصبوغة. وتحتوي هذه السرطانات على فصيلة من البروتينات يطلق على مجموعها اسم ماج MAGE. وقد قام <Th. بون> (في معهد لودفيك لبحوث السرطان في بروكسل) بدراسة واسعة على هذه البروتينات. ففي التجارب المختبرية يستطيع پپتيد مشتق من الماج (MAGE) أن يثير هجوما قويا لدى التائيات المُسمِّمة للخلايا. وإذا استطاع الباحثون أن يعرفوا كيف ينابلون manipulate هذا المستضد بشكل ناجح – ربما عن طريق حقن مريض ما بالماج (أو الپپتيدات المكونة لها) جنبا إلى جنب مع جزيئات مصمَّمة لتقوية المناعة – فإنهم قد يصبحون قادرين على إيجاد علاج فعّال للورم القتامي.

أما الطريقة الأخرى الممكنة لمحاربة السرطانات فتتضمن تشجيع الاستجابة المناعية لأشكال شاذة لصنف من البروتينات يسمى المخاطينات mucins. فالمخاطينات العادية تتألف من لب بروتيني يكاد أن يكون مغطى تماما بقشرة من الجزيئات السكرية. ويحتوي على العديد من الخلايا السرطانية (لاسيما تلك المصاحبة لأورام الأنبوب الهضمي والرئة والمبيض) على أنواع متغيرة من المخاط يكون اللب فيها مكشوفا. وقد حدد الباحثون پپتيدات من بروتينات اللب في المخاط تستجيب لها التائيات بقوة. وقد تستطيع لقاحات مؤلَّفة من تلك الپپتيدات أن تُحرِّض التائيات المسممة للخلايا على مهاجمة بروتينات اللب المكشوفة وبذلك تقتل الخلايا السرطانية.

يبدي ابتكارُ لقاحاتٍ للسرطان تحديا صعبا. فالخلايا الورمية ذات قدرة كبيرة على التطفر mutate، الأمر الذي يسمح لها أن تتفادى الإبادة عن طريق طرح أو تبديل مستضداتها المميزة. ولن يكون من السهل قتل كل خلية ورمية منفردة في الحالات السرطانية المتقدمة، وهو ما يجب عمله لمعالجة السرطان. ولكن مع ذلك، فقد أظهرت اللقاحات التجريبية إشارات واعدة. ففي تجارب على مرضى مصابين بعدة أشكال من السرطانات الشائعة (مثل الورم القتامي وسرطان الكلية وبعض أشكال اللوكيميا) حدث تراجع مثير للأورام لدى ما يقرب من خُمْس هؤلاء المرضى بنتيجة الاستجابة لهذه اللقاحات. ولكننا لا نعرف لماذا استجاب هؤلاء الاشخاص ولم يستجب الآخرون.

يعتقد كثير من الباحثين أن لقاحات السرطان ستغدو بحد ذاتها أسلحة ضد الخلايا الطافرة القليلة التي تكمن في الجسم بعد جراحة السرطان أو المعالجة الكيميائية أو المعالجة الشعاعية. فهذه الخلايا الباقية على قيد الحياة يمكن أن تسبب عودة السرطان حتى بعد المعالجة الأولية الناجحة ظاهريا. ومن حيث المبدأ، فإن قتل الملايين القليلة من الخلايا السرطانية التي تبقى بعد المعالجة الأولية يجب أن تكون أسهل من استئصال مئات البلايين التي كانت موجودة قبل المعالجة.

وعلى الرغم من بشائر النجاح لمثل هذه التقنيات المبتكرة، تبقى اللقاحات الجديدة والمحسَّنة ضد الأمراض الخمجية تشكل الاهتمام الملح والفوري المطلوب من البحوث المناعية. وفي حلبة الصراع هذه برز البرنامج الموسَّع للتمنيع Expanded Program on Immunization EPI التابع لمنظمة الصحة العالمية كإنجاز مشهود له على مسرح الصحة العامة الدولية الذي يعاني المتاعب. فبالاعتماد على المعونة الرائعة لليونيسيف (UNICEF) والبنك الدولي ونادي الروتاري العالمي والسلطات الصحية في البلدان النامية يقدم هذا البرنامج (EPI) الوقاية اللازمة من ستة أمراض رئيسية (هي الدفتريا والسعال الديكي والتيتانوس وشلل الأطفال والحصبة والسل) لما ينوف على 80 في المئة من الأطفال الذين يزيد عددهم على مئة مليون طفل يولدون سنويا في العالم الثالث.

وفي العام 1992، أضاف البرنامج (EPI) إلى قائمته لقاحات التهاب الكبد B، وإن كانت اعتبارات الكلفة قد حَدَّتْ من عدد الجُرْعات المتاحة. ففي عدة أقطار آسيوية وإفريقية غدا 5إلى 10 في المئة من السكان حَمَلَة مُزْمِنين chronic carriers لڤيروس التهاب الكبد B. ونشير هنا إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء تعاني مرضا كبديا شديدا، وسرطان الكبد في النهاية. أما الطفل الذي يتلقى اللقاح حين الولادة، فإنه لا يصبح من حملة الڤيروس ويتزود بالوقاية منه. ويستحق التلقيح الجماعي ضد التهاب الكبد B كل الاهتمام حتى في الدول الغربية، لا بسبب الخطر الذي يواجهه الرجال الجنوسيون (اللواطيون) فحسب، بل كذلك بسبب كون كثير من هذه الأقطار يضم اليوم أعدادا كبيرة من ذوي الأصول الآسيوية أو الإفريقية.

تعتبر مجريات الأمور على هذا النحو مشجعة، وإن كان هناك القدر الكبير مما يجب عمله في حقل التمنيع. فمازالت اللقاحات الناجعة ضد عدة أشكال من التهاب السحايا غير واسعة الاستخدام. كما لاتزال اللقاحات المتاحة ضد التيفوئيد والكوليرا والسل والإنفلونزا جزئية الجدوى. وهناك العديد من الأمراض الشائعة لا يوجد لها لقاح متاح بشكل عام، مثل ذات الرئة والإسهال والملاريا والسرطانات التي يسببها ڤيروس الورم الحليميpapillomavirus وڤيروس الحمى الغدية glandular. وعلاوة على ذلك، تواجه الأقطار الغنية والفقيرة على حد سواء مشكلات عملية في إرسال اللقاح إلى من يحتاج إليه وفي التأكد من استخدامه. هذا وإن منظمة الصحة العالمية في أمس الحاجة إلى أموال إضافية لدعم زخمها الرائع في البحوث والتعبئة.

يشكل ابتكار لقاح ضد الإيدز إحدى أكثر الواجبات المهمة إلحاحًا بين تلك التي تواجه الباحثين في علم المناعة. فهناك في العالم اليوم ما لا يقل عن عشرة ملايين مصاب بڤيروس عوز المناعة البشري humanimmunodeficiency virus HIV الذي يسبب مرض الإيدز، ويعيش أكثر هؤلاء الناس في الأقطار النامية. ويبدي هذا الڤيروس قدرة مذهلة على التطفر كما يستطيع التواري عن جهاز المناعة مختبئا داخل اللمفاويات والخلايا القمَّامة. ومع ذلك فهناك بعض الإشارات المشجعة بإمكانية التغلب على ذلك الڤيروس. فهذا الأخير غالبا ما يقبع هاجعا داخل البشر سنوات طوالا، الأمر الذي يوحي بأن عمليات المناعة تضع هذا الڤيروس تحت سيطرتها لفترات طويلة. وتستطيع الأضداد أن تحيّد ڤيروس عوز المناعة البشري (HIV) مثلما تستطيع التائيات المسمِّمة للخلايا قتل بعض الخلايا الحاملة للڤيروس على الأقل. ولئن كانت اللقاحات قد منعت الأخماج الشبيهة بالإيدز لدى النسانيس، فإن الأمر سيتطلب بضع سنوات لتقرير ما إذا كانت أي من التجارب السريرية الحالية على البشر تحمل بشائر نجاح حقيقي في هذا الصدد.

وهكذا عززت أزمة الإيدز الإلمام الشعبي بعلم المناعة إلى درجة أنني حينما أَحْضُر مناسبات اجتماعية أو أرتاد مواقع عمل، ويكتشف الناس أنني مختص بعلم المناعة، فإنهم يخاطبونني بقولهم: «آه، لابد أنك تعمل في مجال الإيدز» وكثيرا ما يتملكهم الاستغراب أن يسمعوا أن علم المناعة هو علم واسع يسبق في تاريخه معرفتَنا بالإيدز بعدة عشرات من السنين.

وفوق ذلك، فإن الطبيعة العلائقية (متعددة التخصصات) interdisciplinary لعلم المناعة ذات تأثير مفيد ومهم على جميع العلوم البيولوجية حسب ظني. فعندما كنت شابا كان العديد من الباحثين يخشون أنه بازدهار التخصصات وفروعها سيكتشف العلماء أكثر فأكثر عما هو أقل فأقل، بحيث تتشظى مشاريع البحوث إلى أجزاء يكون كل منها متألقا مشرقا بحد ذاته ولكنه قليل الصلة بالأجزاء الأخرى.

وهنا ظهرت بيولوجيا متكاملة جديدة نوعا ما، ترتكز على البيولوجيا الجزيئية وكيمياء البروتينات والبيولوجيا الخلوية، وتشمل ميادين مثل البيولوجيا العصبية وبيولوجيا التشكل والنمو وعلم الغدد الصم وبحوث السرطان والفزيولوجيا القلبية الوعائية. فإذا ظهرت نتيجة أساسية في أحد هذه الفروع العلمية انتشرت كالنار في الهشيم صوب الفروع الأخرى.

أما علم المناعة فإنه يتربع في مركز الحدث؛ إذ إن خلايا الجهاز المناعي تؤلف أدوات مثالية للبحوث البيولوجية، فهي تنمو سريعا في أنبوب الاختبار وتعرض تشكيلة غنية التنوع من المستقبلات الكيميائية وجزيئات الصناعة ذات النوعية المتخصصة والقوة الكبيرة. وتبعا لذلك، فلربما كانت اللمفاويات أحسن ما فهمناه عن الخلايا الحية. وعلاوة على ذلك فإن علم المناعة يشمل عدة منظومات خلوية وجزيئية ذات صلات متبادلة فيما بينها ويدرس كيفية تأثير هذه المنظومات في الكائن الحي بمجموعته. ونتيجة لذلك، فقد غدا جهاز المناعة نموذج إيضاح للعملية الحياتية. صحيح أنه تم الكشف عن قدر كاف من الخطة الإجرائية لهذا الجهاز بحيث يؤمن نقطة انطلاق ثابتة للبحوث المستقبلية إلا أنه مازال هناك الكثير مما هو خافٍ يتحدى المُستكشِف الجَسور.


 المؤلف

Sir Gustav J.V. Nossal

مدير معهد والتر وإليزا هول للبحوث الطبية، وأستاذ البيولوجيا الطبية في جامعة ملبورن بأستراليا. حصل على درجته الطبية من جامعة سيدني في عام 1954 والدكتوراه بعلم المناعة من جامعة ملبورن في عام 1960. عمل في جامعة ستانفورد ومعهد باستور ومنظمة الصحة العالمية. وشغل منصبه الحالي منذ عام 1965. إنه مشارك أجنبي لأكاديمية العلوم الوطنية الأمريكية، وزميل في الجمعية الملكية البريطانية، ورئيس سابق للاتحاد العالمي لجمعيات المناعة. أما إسهاماته في علم المناعة الخلوية ولاسيما قاعدة «الخلية الواحدة والضد الواحد» وكذلك اكتشافه آليات الأَسْر المُسْتَضِدّيantigen – capturing، فقد حظيت بتقدير الشرف من اثنتي عشرة دولة.


مراجع للاستزادة

A HISTORY OF IMMUNOLOGY. Arthur M. Sffverstein. Academic Press, 1989.

IMMUNOLOGIC TOLERANCE: COLLABORATION BETWEEN ANTIGEN AND LYMPHOKINES. G. J. V. Nossal in Science, Vol. 245, pages 147-153; July 14, 1989.

ESSENTIAL IMMUNOLOGY. Seventh edition. I. M. Roitt. Blackwell Scientific Publications, 1991.

THE AUTOIMMUNE DISEASES. Noel R. Rose and Ian R. Mackay. Academic Press, 1992.


(1) schobert  1828 – 1797 مؤلف موسيقي نمساوي. يعتبر أحد أعظم الموسيقيين الرومانتيكيين.

(2)Keats 1821 – 1795 شاعر بريطاني.

(3)(Barrett – Browning (1861 – 1806 كاتبة بريطانية.

(4) خمجي (خامج) infectious، معدي contagious. (التحرير)

الانسان الاول فى الشرق

لقد تغيرت الحضارة المادية في غربي أوراسيا ما بين 40000 و 45000 سنة مضت أكثر مما تغيرت أثناء المليون سنة الماضية. إن هذا الازدهار في مجال الإبداع الفني والتقاني يدل، في نظر بعض الملاحظين في الوقت الحاضر، على ظهور أول حضارة بشرية مؤكدة تميزت باكتشافات متواصلة متنوعة.

وأثناء تلك الفترة القصيرة من الزمن التي بلغت 5000 سنة أو نحو ذلك تنوعت الأدوات الحجرية، التي ظلت على مر العصور محافظة على أشكالها الأساسية، تنوعا كثيرا من قرن إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى.

وبتعبير علمي أدق حدّد هذا التغير الحضاري الانتقال من العهد الباليوليتي الأوسط Middle paleolithicage إلى العهد الباليوليتي الأعلى. لماذا حدث هذا التغير؟ ولماذا حدث في هذه الفترة بالذات؟ سؤالان يشكلان اثنتين من أكثر المشكلات بروزا في الباليوأنثروبولوجيا (علم البشر القديم) paleoanthropology. إن الأجوبة عن هاتين المشكلتين قد تفسر الكثير من الغموض المتعلق بطبيعة وظهور الإنسان العاقل Homo sapiens ذي البنية الحديثة.

لقد ظُن لبضع سنوات أن علم البيولوجيا (الأحياء) قد يقدم تفسيرا دقيقا للتغير الحضاري. فقد كان هناك نمطان من البشر: الأول هو إنسان نياندرتال Neanderthal، الذي كان أقدم (كما كان يُظن) وأقوى من الثاني المسمى إنسان كرومانيون Cro-Magnon. وكان على الباحثين، لصياغة فرضية بيولوجية، أن يقيموا ترابطا بين الجسم ذي النمط القوي robust (القديم archaic) وبين حضارة الباليوليتي الأوسط، وترابطا آخر بين الجسم ذي النمط النحيل gracile (الحديث) وبين حضارة الباليوليتي الأعلى. ويبدو أن هذا التفسير يمكن تطبيقه في أوروبا حيث بدأت الأبحاث المتعلقة بعلم الباليوأنثروبولوجيا. فقد ترافقت هناك حضارة الموستيري Mousterian الأقدم غير المتطورة ـ بصورة عامة ـ مع النياندرتاليين الأقوياء، في حين ترافقت حضارة الأورينياسي Aurignacian الأحداث ـ بأدواتها المتجددة والمتغيرة باستمرار ـ مع أفراد إنسان كورمانيون من ذوي الأجسام الطويلة النحيلة، الذين ظهروا في سجل المستحاثات (الأحافير) منذ 30000 سنة. (تُنسب التسميتان موستيري وأورينياسي إلى موقعين في فرنسا حيث عثر أول مرة على أدوات حجرية صنعها الإنسان).

إن هذا الترابط بين البيولوجيا والحضارة يصعب تطبيقه في بلاد المشرق Levant. فقد وجد علماء المستحاثات الذين ينقّبون في مواقع هذه المنطقة مجموعات من المستحاثات تشتمل على عينات يبدو أنها أقدم من مثيلاتها التي في أوروبا. وقد ظهر أن بعض العينات تشبه إنسان نياندرتال وتشبه عينات أخرى إنسان كرومانيون. ومع ذلك يبدو أن كلتا المجموعتين من البشر لهما حضارة بدائية واحدة. فكيف يمكن إجراء توافق بين ما تمت مشاهدته في هذه المنطقة من مستحاثات وأدوات مصنعة artifacts وبين ما تمت ملاحظته في أوروبا؟

إن الجواب الحاسم يتطلب ترتيب مستحاثات الشرق الأوسط ترتيبا زمنيا. ولكن هذه العملية يتعذر تنفيذها؛ لأن العينات كانت قديمة لدرجة لا يمكن تأريخها بطريقة الكربون المشع التي لا يتجاوز مدى فعاليتها 40000 سنة. أما اللجوء إلى طريقة اليورانيوم ـ الثوريوم فيتطلب وجود مستحاثات مترافقة مع رواسب كربوناتية carbonatesediments وأما طريقة البوتاسيوم ـ الأرگون فهي أكثر ملاءمة لتحديد عمر أو تأريخ ما ينتج من البراكين لابة (حمم)lava وطَفّ (رماد) tuffs، وهي لا توجد إلا في طبقات أقدم بكثير. وقد ارتأى علماء الأنثروبولوجيا (النوع البشري)، في حالة غياب ترتيب زمني موثوق، أنه من المعقول الاحتفاظ بالتصور الأوروبي، أي الافتراض أن الأنماط النياندرتالية الشرق أوسطية القوية هي الأقدم وتمثل أسلاف الأنماط النحيلة.

دفن مزدوج من مغارة قفزة (في اليمين) يدل على شعور ديني قبل ما ينوف على 100000 سنة. فقد وجد الهيكل العظمي للطفل عند قدمي الهيكل العظمي لامرأة شابة، ربما تكون أمه. يظهر هذان الهيكلان بمظهر الإنسان الحديث ولكن حضارتهما تشابه حضارة الإنسان النياندرتالي الشرق أوسطي الأكثر قوة. أما في أوروبا ـ وبعد مرور 60000 سنة ـ فقد أقام الأفراد ذوو المظهر الحديث وكذلك النياندرتاليون حضارات مختلفة.

لقد شكّلنا، لاختبار هذه الفرضية فريقا متعدد الاختصاصات لوضع ترتيب زمني انطلاقا من مختلف الأدلة المتوفرة. وقد زعزعت النتائج التي حصلنا عليها التسلسل التطوري المعروف، وأثارت أسئلة أكثر من الحصول على أجوبة، وهذا ما قد يعبر عن وجود خلاف، ولكن بهذه الطريقة يتقدم العلم.

بدأنا عملنا بإقامة ترابط طبقي (استراتيگرافي) بين المستحاثات البشرية في مغارات الشرق الأوسط. ثم قمنا بالمشاركة مع <E. تشيرنوف> (من الجامعة العبرية بالقدس) بربط هذه المعلومات بمعطيات تتعلق بالأحوال المناخية القديمة وبمعطيات أخرى، وذلك لاستنتاج ما إذا كان الإنسان العاقل بمظهره الحديث قد عاش في إحدى هذه المغارات منذ نحو 80000 إلى 100000 سنة، أقدم بكثير من التاريخ الذي ظُن فيه بوجود مثل هؤلاء الناس في أي مكان آخر. وقد رُفضت هذه الفكرة في بداية الثمانينات ولكن أثبتتها فيما بعد طريقتان من طرائق القياس الإشعاعي تم تحسينهما، وهما: التألق الحراري thermoluminescense والتجاوب الإلكتروني السپينيelectron spin resonance.

لقد دحضتْ هذه الاكتشافات العلاقة السلالية التي افترض، منذ زمن طويل، أنها صحيحة. فالهياكل العظمية القوية لم تكن أسلاف الهياكل النحيلة. وأصبح من غير الممكن، في الوقت نفسه، ربط ظهور أفراد الإنسان ذي المظهر الحديث مع التغير الحضاري الذي حل في الباليوليتي الأعلى.

فعندما ظهرت الأفراد الأولى من الإنسان الحديث في سجل المستحاثات في بلاد المشرق كان نمط معيشتهم لا يتميز عن نمط معيشة الجماعات البشرية القديمة؛ فأدواتهم المصنعة تنتمي بوضوح إلى حضارة الموستيري.

أثارت مكتشفاتنا أيضا تساؤلا مهمًا آخر حول المكان الذي ظهر فيه النوع البشري. لقد برهنا على أن المستحاثات النحيلة هي قديمة جدا وأمكننا ربطها ببقايا البشر في مغارات “كلاسيس ريڤر ماوث” ومغارة “بوردر” في جنوب أفريقيا. وتبدو أيضا مستحاثات جنوب أفريقيا قديمة فعلا ولكنها تنتمي إلى الإنسان الحديث أكثر من انتمائها إلى الأفراد القديمة.

فهل يا ترى تنتمي هاتان المجموعتان إلى جماعة بشرية واحدة تفرقت فيما بعد؟ لقد أجاب بعض علماء الأنثروبولوجيا بالإيجاب واستنتجوا أن الإنسان الحديث قد ظهر في أفريقيا ثم بدأ يحل محل الجماعات الأقدم في بقاع أخرى من العالم [انظر:

“The Emergence of Modern Humans”  by Christopher B. Stringer

Scientific American, December 1990].

وفي الوقت نفسه تقريبا حين تم قبول الترتيب الزمني الجديد، توصل متخصصون في البيولوجيا الجزيئية ـ بشكل غير متوقع ـ إلى استنتاجات متماثلة فيما يتعلق بالموطن الأصلي لأفراد الإنسان الحديث. لم يعتمد هؤلاء العلماء على العظام المستحاثة وإنما على المستحاثة الحية للدنا living fossil of DNA، حيث تدل أشكاله الكثيرة المتنوعة على جزء من التاريخ التطوري. فقد استنتج بعض هؤلاء الباحثين، بعد مقارنتهم لعدد كبير من عينات مأخوذة من جماعات بشرية إقليمية تقطن في بقاع مختلفة من العالم، أن أفراد الإنسان الحديث قد نشأت في مناطق شبه صحراوية في أفريقيا منذ أكثر من 100000 سنة

[انظر: The Recent African Genesis of Humans by A. C. Wilson-R.L. Cann; Scientific American, April 1992].

ترشد شبكة ثلاثية الأبعاد (في الأعلى) في مغارة كيبارا علماء الآثار الذين يسجلون موقع كل عظم وكل أداة مصنعة، وأيضا يفحصونشرائح رقيقة للرواسب تحت المجهر. إن مثل هذه التقانة مكنت الباحثين من تحديد زمن هذه الأشياء وتمييز الفترات التي كان أفراد البشر يسكنون خلالها المغارة بشكل مستمر. ويبين مقطع عرضاني (في الصفحة المقابلة) الحفريات المستمرة التي يجريها المؤلفان وزملاؤهما في مدخل المغارة وفي الحجرة المسقوفة. إن بعض أقسام المغارة قد تُركت لعلماء آثار المستقبل وهو أسلوب اتبعه <M. ستكيليس> في الخمسينيات ولكن لم يتبنّه <F. نورڤيل ـ بيتر> في الثلاثينات.

ويعترض باحثون آخرون على مظاهر هذا التحليل الجيني genetic أو شجرة النسب ويدعمون تفسيرا آخر يدعى نمط تعدّد المناطق multiregional، ويعني أن الإنسان ذا المظهر الحديث ظهر في آن واحد تقريبا ولكن في مناطق كثيرة مختلفة، وأن عملية التهجين حافظت على وحدة النوع البشري

[انظر:

 ;The Multiregional Evolution of Humans,”  by A.G. thorne-M.H. Wolpoff”

Scientific American, april 1992].

بدأت دراسة أفراد البشر في بلاد المشرق سنة 1929 عندما بدأت <E .A. گارود> (عالمة الآثار في جامعة كامبردج) مشروعا نُفّذ خلال خمس سنوات للتنقيب في ثلاث مغارات تقع عند مصب وادي المغارة (وادي نخال هاميعاروت) وهي: سخول وتابون والواد [انظر الخريطة في الصفحة 31]. لقد وضعت گارود، أثناء عمليات التنقيب. أساس التسلسل الطبقي للبليستوسين الأعلى Upper Pleistocene في بلاد المشرق، وهو عصر من عصور ما قبل التاريخ. إن أكبر عمق وصل إليه الحفريات في تابون بلغ 23 مترا. ومن الطبقات التي صنّفتْها گارود من الأسفل إلى الأعلى حسب أدواتها الصوانية النموذجية إلى: الأشولي الأعلى (يضم الطبقتين G و F) والأشولي ـ اليبرودي Acheuleo-Yabrudian (يضم الطبقة E) والموستيري من الباليوليتي الأوسط (يضم الطبقات D و C وB، إضافة إلى ردميات المدخنة chimney).

كما اكتشفت گارود بقايا لامرأة بالغة صنفتْها حينذاك على أنها امرأة نياندرتالية وحدّدت تأريخها بنحو 60000 سنة تقريبا.
ولكن هذه الباحثة لم تتمكن من تحديد ما إذا كانت تنتمي إلى الطبقة B أو إلى الطبقة C، بيد أن الفك الذي وُجد تحتها مباشرة ينتمي دون شك إلى الطبقة C. ويبدو أن هذا الفك، وهو لشاب بالغ، أقرب إلى فك الإنسان النحيل (الحديث) من جماعة مغارة قفزة أكثر من قربه إلى النمط القوي (القديم) من النياندرتالين.

لقد عثر في مغارة سخول على مجموعة مدهشة من مواد هيكلية تنتمي إلى الباليوليتي الأوسط وتتضمن عدة مدافن ما زالت في حالة جيدة. ونعتقد أن وضعية هيكل المرأة العظمي تدل على دفن مقصود، وهو أقدم عملية دفن عثر عليها حتى الآن.

ونظرا لأن مثل هذا السلوك المعقد لا يمكن أن يكون إلا تعبيرا عن سلوك بشري فإن هذا الاكتشاف يزودنا بدليل غير مباشر على وجود هذا الأسلوب. وفضلا عن ذلك فإننا سنرى أن عادات النياندرتاليين الجنائزية ـ وكذلك أدواتهم الحجرية ـ هي أدنى في كل الأحوال من عادات وأدوات أفراد الإنسان النحيل الذين سبقوهم في المنطقة.

أُجريت أول دراسة لهذه المواد بإشراف <A. كيث> (من كلية الجراحة الملكية في لندن) و <D.T. ماكون> (الذي كان يدرّس مؤخرا في جامعة كاليفورنيا ببركلي). وقد توصلا، بعد معاملة كامل الهياكل في مغارتي سخول وتابون، إلى أنها تمثل شكلا متوسطا بين النياندرتاليين وأفراد الإنسان الحديث. لقد عدّ بعض علماء الأنثروبولوجيا هذه العينات أنها تمثل أفرادا هجينة محتملة في حين اعتبرها بعضهم الآخر تمثل جماعة بشرية تطورت محليا.

وفي الفترة نفسها تمت أيضا مكتشفات مدهشة في مغارة قفزة قرب الناصرة على بعد 35 كيلو مترا على خط مستقيم من جبل الكرمل. فقد أشرف. بين عامي 1933 و 1935م، <R. نوڤي> (الذي كان قنصل فرنسا في القدس وعضوا في معهد علم المتسحاثات البشرية في باريس) بالاشتراك مع <M. ستكيليس> (من الجامعة العبرية) على عمليات التنقيب في تلك المغارة. وقد اكتشفا، خارج الحجرة الرئيسية في المصطبة terrace، أمام المغارة وقرب مدخلها، عدة مستحاثات بشرية في طبقات من الحطام الصخري تبلغ ثخانتها أكثر من أربعة أمتار وتنتمي إلى الباليوليتي الأوسط.

هذا وعلى الرغم من أن أي وصف مفصّل لهذه المستحاثات لم ينشر فقد جازف <H. ڤالوا> (من معهد المستحاثات البشرية) بتصنيفها على أنها تنتمي إلى جماعة النياندرتاليين البدائيين أو إلى جماعة غير نموذجية من النياندرتاليين. وقد اقترح، في الخمسينات، <C. هويل> (من بيركلي) أن الهياكل القريبة في مظهرها من مظهر الإنسان الحديث بجماجمها المكورة ووجوهها المسطحة كانت ـ على الأرجح ـ لأسلاف إنسان كرومانيون الأوروبي، لذلك أطلق عليها كثير من علماء الأنثروبولوجيا اسم طلائع إنسان كرومانيوم Proto-Cro-Magnon.

وفي الخمسينات وبداية الستينات أعطت مواقع أخرى في الشرق الأوسط مستحاثات أخرى تنتمي إلى الباليوليتي الأعلى. فقد اكتشف <S.R. سوليكي> (في الخمسينات عندما كان في جامعة كولومبيا) مجموعتين من الهياكل في مغارة شانيدار في سفوح جبال زاگروس في العراق، وكانت كلها من النياندرتاليين وتبدي ما يدل على سلوك بشري. وتشتمل إحدى المجموعتين على هيكل لرجل فقد إحدى ذراعيه، وهذا ما يدل على العناية التي تلقاها ذلك الرجل عندما كان على قيد الحياة. أما المجموعة الأخرى من الهياكل فتبدي أدلة واضحة على الدفن المقصود، وهذا ما يشهد أيضا على سلوك بشري. وقد وجد <H. سوزوكي> (من جامعة طوكيو) في مغارة عمود بالقرب من بحيرة طبرية، دفنا مقصودا مماثلا لدى النياندرتاليين.

وهكذا، وبحلول السبعينات، أصبح مسلسل تطور المستحاثات البشرية التي تنتمي إلى البليستوسين الأعلى في الشرق الأدنى واضحا نسبيا. فالنياندرتاليون من غربي آسيا كانوا ممثَّلين بالبقايا الهيكلية التي عثر عليها في مغارات تابون وعمود وشانيدار. وهذه الجماعة تطورت فيما بعد، كما افترض، إلى طلائع إنسان كرومانيون المحلية التي عاشت في مغارتي سخول وقفزة.

ولتفسير المرحلة اللاحقة التي بدأت منذ نحو 40000 ستة تجابهت فكرتان: تفترض الفكرة الأولى أن جماعات الإنسان الحديث في بلاد المشرق انتقلت أو انتشرت في أوروبا وذلك بعد أن حلّوا محل النياندرتاليين المحليين أو نتيجة لعمليات التكاثر فيما بينهم. أما الفكرة الثانية فتفترض أن أفراد جماعة النياندرتاليين المحليين في أوراسيا قد تطوروا في الأمكنة نفسها التي كانوا يعيشون فيها إلى أشكال حديثة. وقد أطلق <w.w. هويلز> (من جامعة هارفارد) على هاتين الفكرتين (النظريتين): “سفينة نوح” و “مرحلة النياندرتال” وهما فكرتان ما زالتا رائجتين حتى اليوم مع تعديلات أخذت بالحسبان نتائج التأريخ الجديد التي توصلنا إليها باسم فرضية “الخروج من أفريقيا” وفرضية “تعدد المناطق”.

لقد أدرك، تدريجيا، علماء المستحاثات وباحثون آخرون في الستينات أن دراسة الطبقات الجيولوجية في المغارات كانت أكثر تعقيدا مما كان قد بدا لهم، لذلك فقد استخدمنا في دراسة طبقات مغارات جبل الكرمل كل تقانات التنقيب الحديثة، حيث تم تحديد موقع كل قطعة من المستحاثات وكل أداة مصنعة بالنسبة إلى شبكة ثلاثية الأبعاد [انظر الشكل في الصفحة 32]. وقام الجيولوجيون ومحللو الأشكال المجهرية (المِكْرَوِيّة)micromophological analysts بفحص الرواسب لأجل معرفة ما إذا تعرضت إلى أي تخريب من قبل الحيوانات أو من أفراد البشر خلال الفترات اللاحقة لعمليات الترسيب. وأجريت دراسات على حبوب اللقاحPOLLEN وعلى شواهد مجهرية أخرى، ثم تم ربط بعضها ببعض، وذلك لإعادة تصور الظروف المناخية التي كانت سائدة.

بدأت مثل هذه التحريات المنهجية من جديد في مغارة تابون حيث زودتنا ثخانة الرواسب بسجل ممتاز طويل الأمد عن التغير الحضاري. لقد أشرف على حفريات هذه المغارة <J.A. جليتك> (من جامعة أريزونا ) بين عامي 1967 و 1972، وحديثا تابع العمل <A. رونين> (من جامعة حيفا).

أما المغارة الثانية (مغارة قفزة) فقد أشرف أحدنا (ڤاندرميرش) على حفرياتها خلال الفترة الممتدة من عام 1965 حتى 1979، وشارك المؤلف الآخر للمقال في هذا المشروع خلال فصلي التنقيب الأخيرين.

كشفت التحريات في مغارة تابون النقاب عن الكثير من المعلومات الجيولوجية، كما عثر فيها على عدد كبير من الأدوات الحجرية في حالة جيدة، في حين لم يُعثر إلا على عدد قليل من مستحاثات القوارض. إن مصدر مثل هذه البقايا الأخيرة هو البراز المُتفسِّخ لبوم الصوامع barn owls، وهي طيور لا ترتاد المغارات عندما يقطنها أفراد البشر، لذلك يستخدم علماء المستحاثات بقايا القوارض لغايات تتعلق بالبيئة القديمة ولوضع الطبقات حسب ترتيبها الزمني.

لاحظ جلينك أثناء دراسته المفصَّلة للأدوات الحجرية أن حجم بقايا هذه الأدوات يتناقص عند الانتقال من الموستيري( الطبقتين C و D) إلى الأشولي ـ اليبرودي (الطبقة E) ثم إلى الأشولي الأعلى (الطبقة F). وقد بيّن أنه عندما يتم رسم قيم هذا الحجم بدلالة مقياس الزمن المقترح لمغارة تابون فإن المنحنى الناتج يبدي انحرافا (زاوية) يرتفع عنده المنحنى ارتفاعا مفاجئا. وهذا يعكس ـ حسب رأي جلينك ـ انتقالا تطوريا من النياندرتاليين إلى أفراد الإنسان الحديث.

النحيل والقوي: إن جمجمة الإنسان النحيل (في اليسار) التي عُثر عليها في مغارة قفزة ذات مظهر حديث وتتصف بقحف عال وقصير وبذقن متميز. أما جمجمة الإنسان القوي (في اليمين) التي عُثر عليها في مغارة تابون فتتصف بقسمات إنسان نياندرتال النموذجية المتمثلة ببروز المنطقة المتوسطة من الوجه و “نتوء” Bun من الخلف. إن لكلتا الجماعتين أدمغة كبيرة، على الأقل مثل أدمغة البشر المعاصرين.

لقد وضع <W. فاراند> (من جامعة ميتشيغان) جدولا زمنيا لمغارة تابون اعتمادا على دراسة الرواسب التي تراكمت فيها.

فقد فسر وجود الرمال الثخينة ـ التي تراكمت في أسفل التسلسل الطبقي، والتي تضمن الطبقات الثلاث E و Fو G ـ على أنها بقايا لكثبان رملية تقدمت إلى مدخل المغارة بتأثير طغيان البحر وارتفاع سويته نتيجة ذوبان القلنسوات الجليدية القطبية polar ice caps أثناء الفترة البينجليدية الأخيرة، أي منذ نحو 100000 سنة. كما فسر وجود تربة اللوس loess في الطبقة D كدليل على بداية حدوث فترة باردة منذ 75000 مضت وهي فترة الموستيري. أما راسب القسم الأعلى من التسلسل الطبقي الذي يشمل الطبقتين B و C وردميات المدخنة (المدخل العمودي للمغارة) فيبدو أنها تراكمت في الفترة اللاحقة الواقعة بين 55000 و 40000 سنة مضت، حين تمكنت الأمطار من الدخول عبر فوهة المدخنة مع ما حملته من التربة الحمراء التي تميز تربة منطقة البحر المتوسط.

ولكن تبين أن ما تم الوصل إليه من نتائج يتعارض مع تحليل الدليل الفوني faunal evidence (أي يتعارض مع كامل المستحاثات) التي عثر عليها في مغارتي تابون وقفزة. فقد وجد تشيونوف، الذي أجرى هذا التحليل، أن الطبقات الحاوية على هياكل أفراد البشر في مغارة قفزة تحتوي على عدة أنواع قديمة من القوارض وهي غير موجودة في الطبقة C في تابون. إن هذا الاختلاف في محتوى الطبقات من المستحاثات يدل ضمنا على أن المجموعتين من أفراد البشر قد عاشتا في زمنين مختلفين. وهذا التعليل جعلنا نعيد النظر في دراسة الطبقات الجيولوجية في المغارات وما تحوي هذه الطبقات من هياكل بشرية.

تضم مغارة قفزة، على الأقل ثلاثة مدافن لأفراد من البشر من ذوي المظهر الحديث وتدل مواقعها في الرواسب على أعمارها. وأحد هذه المدافن كان لرجل بالغ ركبتاه مثنيّتان جزئيا وجسمه ممدد على الجنب الأيمن في كُوّة طبيعية في جدار كلسي. أما المدفن الثاني فهو قبر مزدوج، وهو الوحيد الذي اكتشف في الباليوليتي الأوسط، ويضم هيكلا عظميا لامرأة عمرها يتراوح من 18 إلى 20 سنة ممدّدة على جنبها الأيمن ويداها فوق بطنها، ورجلاها نصف مثنيتين، وعند قدميها هيكل عظمي لطفل في سن السادسة تقريبا في وضعية عمودية على جسمها. ونظرا لأن الهيكلين كانا ممددين بشكل أفقي في حفرة مستطيلة الشكل وجدرانها مقطوعة في طبقات الموقع فإن ذلك قد يدل على أن الدفن المزدوج قد تم في قبر واحد.

أما المدفن الثالث فهو لصبي عمره نحو 13 سنة، عثر عليه في تجويف حُفر في الصخر اللين، وقد مُدِّد جسمه على ظهره، وجمجمته مستندة إلى جدار المدفن، ويداه متجهتان إلى الأعلى. وقد وُضع فوق اليدين قرن كبير للأيّل الأسمر بشكل مستعرض على الجزء الأعلى من الصدر. ويدل وجود هذا القرن على دفنه أيضا بشكل مقصود بعد أن تركته الضباع المفترسة. لا يمكن أن نستنتج من هذه الممارسات ومن دراسة أدوات هؤلاء البشر من الجماعات الأولى من الإنسان الحديث أنهم يختلفون اختلافا واضحا عن الأقوام القوية الذين أتوا فيما بعد إلى المنطقة.

إن غزارة بقايا القوارض في الطبقات السفلى تدل على أن أفراد البشر لم يقطنوا المغارة إلا بشكل متقطع فقط، وربما أثناء فصول محدّدة خلال هذه الفترة. ومهما يكن من أمر يبدو أن جولتهم السنوية للبحث عن الطعام وصلت شرقا إلى وادي الأردن وغربا إلى شاطئ البحر المتوسط، أي على بعد 40 كيلو مترا. ويبدو أن ما كان يحصلون عليه من البحر ظهر على شكل أصداف مثقبة للرخوي كليسيمريس Glycymeris وجدت في الطبقات السفلى. يمكن أن تستخدم ثقوب الأصداف لأي وظيفة فيما عدا استخدامها لتمرير خيط لعقد أو تميمة. إن مثل هذه الاستعمالات تنمّ عن وجود سلوك بشري.

وأخيرا وجدنا كومة من المغرة ocher الحمراء، محززة بخدوش فاتحة. وقد أظهر الفحص المجهري للأدوات الحجرية، الذي قام به <J.J. شب> (عندما كان في جامعة هارفارد)، وجود مغرة حمراء على الأطراف القاطعة لعدد من هذه الأدوات. وفي أزمنة لاحقة استخدمت المغرة الحمراء صباغًا ومادةً كتيمة بعد خلطها بالزيت.

لقد حاولنا أثناء فصل الحفريات الأخير من العام 1979 تعرف التغيرات المناخية القديمة. استخدمنا في البداية طبقات مغارة قفزة المحتوية على مستحاثات القوارض وذلك لمعايرة التسلسل المناخي القديم في مغارة تابون، ومن ثم طبقنا هذا التسلسل على طبقات قفزة الحاوية على مستحاثات البشر. وأخيرا أقمنا ترابطا بين هذا التسلسل والتسلسل المعتمد على النظائر المشعة التي في القُوارات cores المستخرجة من الحفر العميق في البحار. ويبدو أن هذه الطريقة من المقارنة تجعلنا نقترح أن البشر في مغارة قفزة قد عاشوا قبل نحو 80000 إلى 100000 سنة.

بقايا لموقد عثر عليها في وسط مغارة كيبارا في حين جمعت النفايات بالقرب من الجدار، وهذا ما يدل على سلوك بشري وهو النظافة.

إن الانتقادات الكثيرة التي تعرضنا لها دفعتنا إلى أن نحاول حل المشكلة بأسلوبين: فقد نطبّق طرائق تحديد التأريخ التي تطورت حديثا أو ننتخب موقعا حيث تسمح حالة حفظ المستحاثات فيه من تصوّر أكمل للأنماط السلوكية. وهذه الأنماط السلوكية تتضمن استخدام النار ومواقع تجميع النفايات في المغارة ونوع الأغذية النباتية التي تم جمعها ونوع الحيوانات التي تم اصطيادها أو أسرها أو جمعها. ونعتقد أنه بالحصول على مثل هذه الصورة الكاملة (عوضا عن الاعتماد فقط على الأدوات الحجرية) يمكننا أن نعرف ما إذا كانت طلائع إنسان كرومانيون ونياندرتاليّو الشرق الأوسط تمثل بالحقيقة جماعتين مختلفتين لنوع واحد أو نوعين مختلفين.

لقد كان اختيار مغارة كيبارا، التي تقع على الجرف الغربي لجبل الكرمل، اختيارا موفقا نظرا لسجلها الرسوبي الكامل. تقع كيبارا على ارتفاع 60 مترا تقريبا فوق سطح البحر ولم يتعرض مدخلها المعقود arched، الذي يواجه الشمال ـ الشمال الغربي، إلى تخريب خلال العهد الباليوليتي على الرغم من أن انهيارا صخريا لاحقا كون مصطبة صغيرة أمام المغارة. وقد شرعنا في الحفريات عام 1982.

إن معظم الطبقات، التي يرجع تأريخها إلى الباليوليتي الأعلى، قد أزيل خلال الثلاثينات أثناء الحفريات التي أشرف عليها <F. فرانسيس ـ بيتر>، وهو باحث مستقل تعاون فيما بعد مع المدرسة البريطانية لعلم الآثار في القدس. وفي عام 1951 تابع <M. ستكيليس> الحفريات، وخلال أكثر من أربع عشرة سنة اكتشف فريقه طبقات من الباليوليتي الأوسط ووجد فيها طفلا نياندرتاليا.

لقد درسنا هذه الطبقات دراسة مفصلة ولا سيما الطبقات التي تزامنت مع الفترات المتعاقبة من سكن البشر. وقد أظهرت الأدوات الحجرية وجود تشابه بينها وبين الأدوات التي عثر عليها في الطبقة B في مغارتي تابون وعمود، ولكن ليس من حيث الشكل (حيث بقيت دون تغيير خلال الموستيري) بل في طرائق التصنيع.

هيكل لرجل نياندرتالي، لافت للنظر، عثر عليه في كيبارا استؤصل منه الرأس بعد أن تفسخ اللحم ولكن أبقي على الفك السفلي وعلى العظم اللامي (أو عظم اللسان tongue bone) في مكانيهما. إن شكل العظم يوحي بأن أفراد البشر الأوليين تمكنوا من إصدار أصوات الإنسان الحديث.

والاكتشاف الأغرب، الذي تم سنة 1983، كان العثور على هيكل ذكر بالغ دفن في قبر حفر لهذه الغاية قبل نحو 60000 سنة، ولكن لم يعثر على جمجمة هذا البالغ ولا على ساقه أو قدمه اليمنى. أما القدم اليسرى فقد أتلفها تسرب المياه عبر الرواسب. ويبدو أن الجمجمة قد نزعت بشكل مُتعمَّد بعد أن تفسَّخ اللحم وربما بعد موت الرجل بعدة شهور، ولا يمكن أن يعلِّل ذلك أي تفسير آخر نظرا لبقاء العظام الأخرى في وضعيتها دون تغيير ولا سيما عظم الفك السفلي. وهل يمكن أن نتصور أي سبب غير السبب الديني لتفسير هذه الممارسة الجنائزية؟

ويكوّن هذا الفك أهم المكتشفات، فهو ـ بشكله ـ يشابه فك إنسان نياندرتال ولكنه يختلف عن أي فك آخر عثر عليه نظرا لاحتفاظه بالعظم اللامي hyoid (وهو عظم منفصل يتحكم في اللسان) لقد توصل <B. أرنسبورگ> (من جامعة تل أبيب) ومساعدوه ـ بدءا من شكل العظم ـ إلى أن جهاز التصويت لدى هذا الإنسان يشبه ما لدى الإنسان الحديث ويحتمل أنه كان قادرا على إصدار الأصوات الضرورية لكلام مقطَّع. واعتمادا على عظم آخر هو عظم الغفل inominate bone رأى <Y. راك> (من جامعة تل أبيب) أن حوض هذا الإنسان هو أقرب إلى حوض النياندرتاليين منه إلى حوض الإنسان الحديث.

إن الاستدلال على إمكانية الكلام ووجود تصرفات سلوكية بشرية أخرى يتطلب أكثر مما تقدمه العظام لوحدها من معلومات.

ويمكننا استخلاص أشياء مهمة من الموجودات التي تدل عليها وهي الأدوات الآثارية. إن بعض هذه الأدوات التي عثر عليها في الموستيري تفي تماما بهذا الغرض. إن غالبية العظام ومواقع النفايات مثلا وجدت بالقرب من جدار المغارة في حين كان وسط المغارة مغطى ببقايا المواقد. إن هذا الترتيب يدل على النظافة، أي يدل على أسلوب متميز وحديث من السلوك البشري.

إن الوجود الواضح لأفراد الإنسان بأشكال حديثة في بلاد المشرق منذ نحو 100000 سنة يقدم حقائق جديدة لتفسير وجود مستحاثات أخرى غربي آسيا. فقد يكون لأفراد الإنسان الحديث سلسلة نسب (سلالة)genelogy محلية واسعة الامتداد إلى حد ما. فبقايا الجمجمة التي وجدها تورنڤيل ـ بيتر في مغارة زوتّيّة بالقرب من مغارة عمود، مثلا، تثبت أن تأريخها يراوح بين 200000 و 250000 سنة مضت وقد يكون صاحب هذه الجمجمة أحد أفراد الجماعة التي انحدرت منها جماعة الإنسان النحيل (الحديث) في كل من سخول وقفزة.

ومع ذلك يبدو أن النياندرتاليين لم يكن لهم أسلاف محليون، والسجل الوحيد لأسلافهم طلائع النياندرتاليين موجود في أوروبا، حيث يرجع تأريخه إلى ما قبل 150000 سنة. وعندما يتعذر الحصول على معطيات من مستحاثات أخرى لا بد وأن نستنتج، بصورة نظرية، أن أفراد إنسان نياندرتال في كيبارا قد انحدرت من أصل أوروبي. فالجماعة الموجودة إما قد هاجرت من أوروبا إلى بلاد المشرق أثناء فترة جيل واحد، وإما ـ وهو الأرجح ـ قد انتشرت بشكل تدريجي أثناء عدة أجيال. وتدعى العملية الأخيرة بالانتشار الاستيطاني endemic diffusion، وهو انتشار لا بد أن يكون قد تضمن، إلى حد ما، تزاوجا متبادلا بين هذه الجماعة وبين الجماعات التي تعايشت معها على طول طريق انتشارهم.

ما الذي سبب مثل هذا الانتشار خارج أوروبا؟ لقد تكيف النياندرتاليون مع المناخ البارد كما تشهد على ذلك بنية أجسامهم القوية ولكنهم لم يتحملوا الظروف المناخية القطبية الشمالية التي حدثت على شكل موجات مفاجئة من البرد أثناء الفترة الممتدة بين 115000 و 65000 سنة مضت. وقد أجبرهم البرد الشديد على الرحيل نحو الجنوب. ولدعم هذا الافتراض نذكر التشابه بين النياندرتاليين في الشرق الأوسط وجمجمة قديمة عثر عليها في ساكو باستور بإيطاليا. ويفترض هذا التشابه أن الانتشار من أوروبا قد سلك مسارا محاذيا لحوض البحر المتوسط ربما مرورا عبر تركيا الحالية أو عبر بلاد البلقان.

مَنْ وجد النياندرتاليون عند وصولهم إلى الشرق الأوسط؟ للجواب عن هذا السؤال وُضعت فرضيات متعددة لا بد من اختبارها.

لقد ظن أن المناخ البارد هو الذي دفع الإنسان النحيل (الحديث) نحو أفريقيا كما دفع جماعة الإنسان القوي (القديم) نحو بلاد المشرق، وهذا ما أدى إلى عدم اختلاط الجماعتين إحداهما بالأخرى. أما لو بقي أحفاد الإنسان النحيل في أماكنهم في الشرق الأوسط لكانوا قد تعايشوا مع النياندرتاليين أو حتى تناسلوا معهم. إن بعض العلماء يعتبرون أن مثل هذا التهجين غير محتمل ويفضلون النظر إلى هاتين الجماعتين على أنهما تمثلان نوعين متميزين:

وعادة ما يحاول علماء الباليوأنثروبولجيا الاستدلال على السلوك البشري، عند ندرة المستحاثات، من اختلاف أنماط تصنيع الأدوات وجمع الغذاء وتحضيره ومن وجود المواقد أو فقدانها وأخيرا من الأدلة التي تقدمها النشاطات الفنية، إلا أن البقايا الآثارية المتعلقة بكل ما ذكر هي بعيدة أيضا من أن تكون حاسمة.

تكون الأدوات الحجرية المنحوتة والصخور الأصلية، التي قطعت منها، من أغزر المخلفات الآثارية في المواقع الباليوليتية. وقد صنف العالم الفرنسي الراحل <H.F. بورد> أدوات الباليوليتي الأوسط، كما فسر الاختلافات الملاحظة على مجموعاتها بوجود عدة قبائل بشرية في عصور ما قبل التاريخ. وقد عارض <R.L. بينفورد> الاستنتاج الذي توصل إليه بورد وبيّن أن أفراد البشر في الباليوليتي الأوسط كانوا يؤلفون ـ على الأرجح ـ جماعة واحدة، ولكنهم كانوا يستخدمون أدوات حجرية مختلفة لإنجاز مهام مختلفة.

أدى هذا النقاش إلى إجراء أبحاث مجهرية دامت عقدين من الزمن صُنعت خلالها أدوات واستخدمت لإنجاز أعمال مختلفة ثم قارن الباحثون بعد ذلك شكل التآكل الناتج مع شكله الملاحظ على الأدوات القديمة. ومع ذلك فقد أخفقت هذه الدراسة في الكشف عن الأهداف التي صنعت من أجلها أدوات الموستيري. وفي معظم الحالات لم يعثر على علاقة بين شكل الأداة والعمل الذي صُنعت من أجله. وعلى الرغم من وجود استثناءات من هذه القاعدة فمن الواضح أن المحكّات scrapers، وهي الأدوات التي كانت سائدة، قد أنجزت الكثير من المهام المختلفة.

إن أحد الاستدلالات السلوكية الذي يمكن استنباطه من دراسة بقايا الأدوات هو استنتاج أن هؤلاء البشر كانوا يخططون مقدما لأعمالهم. فقد بينت الدراسات أنهم كانوا يميزون الأحجار الجيدة من غيرها ويقطعون المسافات البعيدة للحصول عليها.

وكانوا لا يستغنون عن الأدوات الحجرية الجيدة إلا بعد استعمال طويل، بينما كانوا لا يترددون ـ في الكثير من الأحيان ـ في الاستغناء عن الأدوات الرديئة مباشرة على الرغم من الجهود التي بذلوها في العثور عليها وتصنيعها واستعمالها.

ونظرا لأن بلاد المشرق غنية ـ بصورة عامة ـ بصخر الصوان flint، لم تكن شعوب الباليوليتي الأوسط في هذه المنطقة تقطع سوى بضعة كيلو مترات للحصول على قطع صوانية عالية الجودة. وكانوا يصنعون منها أدواتهم في الموقع نفسه أحيانا، وغالبا ما كانوا يحملونها إلى مغاراتهم. وفي كلتا الحالتين كانوا ينجزون الشكل المرغوب، بمتابعة تشظية القطع الصوانية لجعلها حادة وقاطعة. وبعد استخدام الأدوات المصنعة كانوا يعيدون شحذها بين حين وآخر. إن هذه السلسلة الكاملة من العمليات تكون دليلا على تخطيط طويل الأمد وهذا من مزايا البشر.

إن الدلائل الواضحة على عمليات الدفن المقصود في مغارات قفزة وسخول وعمود وكيبارا، ووجود الأصداف البحرية مثقوبة في مغارتي سخول وقفزة، وكذلك وجود المغرة الحمراء المستخدمة في هاتين المغارتين وفي مغارة هايونيم، كلها تؤكد وجود سلوك بشري. كما أن العظم اللامي بمظهره الحديث في إنسان نياندرتال الذي عثر عليه في مغارة كيبارا يوحي بأن اللغة المنطوقة قد تطورت.

كما أنه كان لدى البشر في الباليوليتي الأوسط مقوِّمات التحديث modernity ولكن سرعة الابتكار كانت بطيئة جدا.

هذا ولا بد في آخر الأمر، لحل المسألة المتعلقة بالنشوء النوعي phylogenetic للبشر من دراسة الدنا المستخلص من عظام بشرية جيدة الحفظ. غير أن دراسة النشوء النوعي لا تفسر سبب التغير الحضاري الذي حدث في العهد الباليوليتي الأعلى. ولحل هذه المشكلة يتعين على الباحثين أن يستدلوا على التغيرات في سلوك البشر من اقتفاء الآثار القليلة الموجودة في السجل الصخري.

ولا بد للجيولوجيين والمتخصصين في علم الأشكال المجهرية والخبراء الآخرين أن يوحدوا جهودهم من أجل تمييز آثار النشاطات البشرية من الآثار التي تركتها الحيوانات والعوامل الطبيعية الأخرى. ولا بد بعد ذلك لعلماء الآثار من أن يصفوا أدوات مواقع سكن البالوليتي الأوسط والأعلى وأن يبحثوا في الفروق عن بعض العلامات للتغيرات التي قادت إلى توالي الابتكارات بسرعة. إن عالم الآثار لما قبل التاريخ، (شأنه في ذلك شأن المؤرخ الذي لا يستطيع تفسير الثورة الصناعية دون الرجوع إلى القرن الثامن عشر) لا يمكنه أن يعلل التقدم التقاني المفاجئ الذي حدث قبل 40000 سنة قبل أن يحل أولا لغز “الحياة في الموستيري”.


 المؤلفان

Bernard Vandermeersch – Ofer Bar – Yosef

يشرفان معا على مشروع التنقيب متعدد الاختصاصات في مغارات قفزة وكيبارا وهايونيم في فلسطين. بار ـ يوسف هو أستاذ علم الآثار لما قبل التاريخ في متحف پيبدي بجامعة هارفارد. لقد تدرب في جامعة القدس وأشرف على العديد من الحفريات في مواقع باليوليتية ونيوليتية. وتتركز اهتماماته حول أصل الإنسان الحديث وانتقاله إلى مرحلة الزراعة. أما فاندرميرش فهو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة بوردو الأولى. لقد درّس سابقا عدة سنوات في جامعة بيير وماري كوري في باريس. تتركز أبحاثه حول بيولوجية البشر والتغير الحضاري أثناء البليستوسين الأعلى.


مراجع للاستزادة

PALEOANTHROPOLOGY. M. H. Wolpoff. Alfred A. Knopf, 1980.

THE SHANIDAR NEANDERTALS. E. Trinlcaus. Academic Press, 1983.

WESTERN ASIA. E. Trinkaus in The Origins of Modern Humans: A World Survey of the Fossil Evidence. Edited by F. H. Smith and F. Spencer. Alan R. Liss, 1984.

THERMOLUMWESCENCE DATING OF MOUSTERIAN ‘PROTO-CRO-MAGNON’ REMAINS FROM ISRAEL AND THE ORIGIN OF MODERN MAN. H. Valladas, J. L. Reyss, J. L. Joron, G. Valladas, O. Bar-Yosef and B. Vandermeersch in Nature, Vol. 331, No. 6157, pages 614-616; February 18, 1988.

ELECTRON SPIN RESONANCE DATING AND THE EVOLUTION OF MODERN HUMANS. R. Grim and C. B. Stringer in Archaeometry, Vol. 33, Part 2, pages 153-199; August 1991.

Scientific American, April 1993

تحميل القران الكريم بطرق مختلف لمختلف القراء نسالكم الدعاء لروح امى..د/اسامه فؤاد شعلان

نسألكم الفاتحه لروح امى ولكل امهات المسلمين والمؤمنين اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والاموات انك قريب سميع مجيب الدعوات يا رب العالمين
 صدقه جاريه على روح امى
د/اسامه فؤاد شعلان
بارك الله قيمن أنشاها وفيمن نشرها 
يمكن تحميل المصاحف التالية كاملة بواسطة تقنية التورنت. إضغط هنا لشرح تحميل المصاحف عن طريق التورنت
م اسم القارئ رابط التحميل جودة الملفات حجم المصحف كاملا
1 عبدالباسط عبدالصمد ( مرتل) اضغط هنا 192 بت 2.51 GB
2 عبدالباسط عبدالصمد ( مجود ) اضغط هنا 24 بت (الصوت صافي جدا) 526.05 MB
3 أحمد العجمي اضغط هنا 160 بت 1.78 GB
4 سعد الغامدي اضغط هنا 256 بت 2.66 GB
5 مشاري العفاسي اضغط هنا 128 بت 1.61 GB
6 سعود الشريم اضغط هنا 128 بت 0.98 GB
7 شيخ أبو بكر الشاطري اضغط هنا 128 بت 1.39 GB
8 عبدالعزيز الأحمد اضغط هنا 192 بت 1.58 GB
9 عبدالله بصفر اضغط هنا 128 بت 1.37 GB
10 العيون الكوشي اضغط هنا 128 بت 1.43 GB
11 محمد الطبلاوي اضغط هنا 128 بت 1.59 GB
12 صلاح البدير اضغط هنا 192 بت 1.66 GB
13 القارئ ياسين اضغط هنا 64 بت (الصوت صافي جدا) 678.64 MB
14 ابراهيم الاخضر اضغط هنا 48 بت (الصوت صافي جدا) 691.68 MB
15 نبيل الرفاعي اضغط هنا 224 بت 1.57 GB
16 توفيق الصايغ اضغط هنا 128 بت 1.34 GB
17 صلاح بو خاطر اضغط هنا 128 بت 1.27 GB
18 سهل ياسين اضغط هنا 128 بت 1.30 GB
19 فارس عباد اضغط هنا 254 بت 1.43 GB
20 عماد زهير حافظ اضغط هنا 48 بت (الصوت صافي جدا) 596.24 MB
21 أحمد صابر اضغط هنا 32 بت (الصوت صافي جدا) 360.20 MB
22 عبدالرشيد صوفي ( حمزة عن خلف) اضغط هنا 128 بت 1.42 GB
23 عبدالرشيد صوفي ( السوسي عن أبي عمرو ) اضغط هنا 128 بت 1.88 GB
24 عبدالودود حنيف اضغط هنا 128 بت 0.98 GB
25 عبدالله خياط اضغط هنا 128 بت 1.05 GB
26 عبدالباسط عبدالصمد (ورش عن نافع) اضغط هنا 128 بت 1.86 GB
27 عبدالبارئ الثبيتي اضغط هنا 192 بت 1.59 GB
28 ماهر المعيقلي اضغط هنا 128 بت 1.2 GB
29 محمد أيوب اضغط هنا 48 بت (الصوت صافي جدا) 669.50 MB
30 علي الحذيفي اضغط هنا 48 بت (الصوت صافي جدا) 620.76 MB
31 محمود علي البنا اضغط هنا 128 بت 1.45 GB
32 محمود علي البنا ( مجود ) اضغط هنا 128 بت 3.64 GB
33 مصطفى رعد العزاوي اضغط هنا 128 بت 1.36 GB
34 محمد صديق المنشاوي ( مجود) اضغط هنا 128 بت 4.75 GB
35 محمود خليل الحصري اضغط هنا 128 بت 2.29 GB
36 عبدالرحمن السديس اضغط هنا 128 بت 1.14 GB
37 محمد جبريل اضغط هنا 128 بت 1.33 GB
38 عادل الكلباني اضغط هنا 64 بت 632 MB
30 عبدالمحسن القاسم اضغط هنا 128 بت 868 MB
40 خالد القحطاني اضغط هنا 128 بت 1.48 GB
41 محمد المحيسني اضغط هنا 128 بت 1.63 GB
42 زكي داغستاني اضغط هنا 192 بت 2.03 GB
43 جمال شاكر عبدالله اضغط هنا 64 بت 618 MB
44 محمود خليل الحصري ( مجود ) اضغط هنا 40 بت 1.04 GB
45 محمود خليل الحصري ( ورش ) اضغط هنا 16 بت 306 MB
46 محمد صديق المنشاوي ( مرتل ) اضغط هنا 128 بت 1.55 GB
47 محمد عبدالكريم اضغط هنا 128 بت 1.23 GB
48 القراء الماليزيون ( 14 قارئ من دولة ماليزيا) اضغط هنا 128 بت 683.51 MB
49 علي جابر اضغط هنا 128 بت 558.26 MB
50 مصطفى اللاهوني اضغط هنا 48 بت 558.26 MB
51 مصطفى اسماعيل اضغط هنا 48 بت 621.26 MB
ويستعمل هذا البرنامج فى التحميل وهذا هو رابط البرنامج ينصب على الكمبيوتر اولا ثم يضغط على الرابط فى الجدول للقارىء المختار يقوم برنامج
 bitcomet
بتحميل المصحف المسموع تلقائيا
والفاتحه والثواب لروح امى الطاهره
اللهم تقبل واغمدها برحمتك الواسعه

 
المصحف الالكترونى
http://t.co/Tb0GRLAQ
ف اللهم اجعلها صدقه جاريه على روح امى والى الفقير الى الله

اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

 

د/اسامه شعلان
___________________________________

القراء حسب الترتيب الابجدى
 اضغط على الحرف لاختيار القارىء
 للوصول السريع إلى القارئ أختر الحرف المناسب من الجهة المقابلة أو يمكنك تصفح جميع القراء بالأسفل
اضغط على اسم القارىء للحصول على التلاوه او تحميلها
أ
أبو بكر الشاطري : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
أحمد الحواشي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
أحمد بن علي العجمي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
أحمد سعود : 30 سورة
[ حفص عن عاصم ]
أحمد صابر : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
أحمد نعينع : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
أخيل عبدالحي روا (من ماليزيا) : 4 السور
[ حفص عن عاصم ]
أكرم العلاقمي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
إبراهيم الأخضر : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
إدريس أبكر : 83 سورة
[ حفص عن عاصم ]
ابراهيم الجبرين : 41 سورة
[ حفص عن عاصم ]
ابراهيم الجرمي : سورتان
[ حفص عن عاصم ]
ابراهيم الدوسري : المصحف كاملا
[ ورش عن نافع ]
ابراهيم العسيري : 3 السور
[ حفص عن عاصم ]
استاذ زامري (من ماليزيا) : 7 السور
[ حفص عن عاصم ]
الحسيني العزازي : 57 سورة
[ المصحف المعلم ]
الزين محمد أحمد : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
العشري عمران : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
العيون الكوشي : المصحف كاملا
[ ورش عن نافع ]
القارئ ياسين : المصحف كاملا
[ ورش عن نافع ]

ت
توفيق الصايغ : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

ج
جمال شاكر عبدالله : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
جمعان العصيمي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

ح
حاتم فريد الواعر : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
حسين آل الشيخ : 15 سورة
[ حفص عن عاصم ]
حمد الدغريري : 3 السور
[ حفص عن عاصم ]

خ
خالد الجليل : 6 السور
[ حفص عن عاصم ]
خالد القحطاني : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
خالد المهنا : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
خالد الوهيبي : 3 السور
[ حفص عن عاصم ]
خالد عبدالكافي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
خليفة الطنيجي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

د
داود حمزة : 87 سورة
[ حفص عن عاصم ]

ر
رشيد إفراد : 15 سورة
[ ورش عن نافع ]
رشيد بلعالية : 5 السور
[ حفص عن عاصم ]

ز
زكريا حمامة : 7 السور
[ حفص عن عاصم ]
زكي داغستاني : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

س
سامي الحسن : 12 سورة
[ حفص عن عاصم ]
سامي الدوسري : 41 سورة
[ حفص عن عاصم ]
سعد الغامدي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
سعود الشريم : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
سهل ياسين : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
سيد رمضان : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

ش
شعبان الصياد : سورتان
[ حفص عن عاصم ]
شيرزاد عبدالرحمن طاهر : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

ص
صابر عبدالحكم : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
صالح آل طالب : 32 سورة
[ حفص عن عاصم ]
صالح الصاهود : 111 سورة
[ حفص عن عاصم ]
صالح الهبدان : سورتان
[ حفص عن عاصم ]
صلاح البدير : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
صلاح الهاشم : 7 السور
[ قالون عن نافع ]
صلاح الهاشم : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
صلاح بو خاطر : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

ع
عادل الكلباني : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عادل ريان : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالبارئ الثبيتي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالبارئ محمد : 91 سورة
[ المصحف المعلم ]
عبدالبارئ محمد : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالباسط عبدالصمد : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالباسط عبدالصمد : المصحف كاملا
[ ورش عن نافع ]
عبدالباسط عبدالصمد : المصحف كاملا
[ المصحف المجود ]
عبدالرحمن السديس : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالرشيد صوفي : المصحف كاملا
[ السوسي عن أبي عمرو ]
عبدالرشيد صوفي : المصحف كاملا
[ خلف عن حمزة ]
عبدالعزيز الأحمد : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالعزيز الزهراني : 3 السور
[ حفص عن عاصم ]
عبدالله البريمي : 41 سورة
[ حفص عن عاصم ]
عبدالله البعيجان : 6 السور
[ حفص عن عاصم ]
عبدالله المطرود : 65 سورة
[ حفص عن عاصم ]
عبدالله بصفر : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالله خياط : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالله عواد الجهني : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالله غيلان : سورتان
[ حفص عن عاصم ]
عبدالمحسن الحارثي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالمحسن العبيكان : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالمحسن العسكر : 4 السور
[ حفص عن عاصم ]
عبدالمحسن القاسم : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالهادي أحمد كناكري : 37 سورة
[ حفص عن عاصم ]
عبدالودود حنيف : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عبدالولي الأركاني : 30 سورة
[ حفص عن عاصم ]
علي أبو هاشم : 8 السور
[ حفص عن عاصم ]
علي الحذيفي : المصحف كاملا
[ قالون عن نافع ]
علي بن عبدالرحمن الحذيفي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
علي جابر : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
علي حجاج السويسي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عماد زهير حافظ : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
عمر القزابري : المصحف كاملا
[ ورش عن نافع ]

ف
فارس عباد : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
فهد العتيبي : 4 السور
[ حفص عن عاصم ]
فهد الكندري : 42 سورة
[ حفص عن عاصم ]
فواز الكعبي : 3 السور
[ حفص عن عاصم ]

ل
لافي العوني : 52 سورة
[ حفص عن عاصم ]

م
ماجد الزامل : 27 سورة
[ حفص عن عاصم ]
ماجد العنزي : 6 السور
[ حفص عن عاصم ]
مالك شيبة الحمد : 37 سورة
[ حفص عن عاصم ]
ماهر المعيقلي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
ماهر المعيقلي : 37 سورة
[ المصحف المعلم ]
ماهر شخاشيرو : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمد أيوب : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمد الأيراوي : 5 السور
[ ورش عن نافع من طريق أبي بكر الأصبهاني ]
محمد البراك : 62 سورة
[ حفص عن عاصم ]
محمد الطبلاوي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمد اللحيدان : 113 سورة
[ حفص عن عاصم ]
محمد المحيسني : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمد المنشد : 110 السور
[ حفص عن عاصم ]
محمد جبريل : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمد صالح عالم شاه : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمد صديق المنشاوي : 64 سورة
[ المصحف المعلم ]
محمد صديق المنشاوي : المصحف كاملا
[ المصحف المجود ]
محمد صديق المنشاوي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمد عبدالحكيم سعيد العبدالله : المصحف كاملا
[ الدوري عن الكسائي ]
محمد عبدالحكيم سعيد العبدالله : المصحف كاملا
[ البزي وقنبل عن ابن كثير ]
محمد عبدالكريم : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمود الرفاعي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمود الشيمي : المصحف كاملا
[ الدوري عن الكسائي ]
محمود خليل الحصري : المصحف كاملا
[ ورش عن نافع ]
محمود خليل الحصري : المصحف كاملا
[ المصحف المجود ]
محمود خليل الحصري : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمود علي البنا : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
محمود علي البنا : المصحف كاملا
[ المصحف المجود ]
مشاري العفاسي : 5 السور
[ الدوري عن الكسائي ]
مشاري العفاسي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
مصطفى إسماعيل : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
مصطفى اللاهوني : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
مصطفى رعد العزاوي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
معمر الأندونيسي : 8 السور
[ حفص عن عاصم ]
مفتاح السلطني : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
مفتاح السلطني : المصحف كاملا
[ الدوري عن أبي عمرو ]
مفتاح السلطني : المصحف كاملا
[ الدوري عن الكسائي ]
موسى بلال : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

ن
ناصر العبيد : 8 السور
[ حفص عن عاصم ]
ناصر القطامي : 73 سورة
[ حفص عن عاصم ]
نبيل الرفاعي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
نعمة الحسان : 6 السور
[ حفص عن عاصم ]

ه
هاني الرفاعي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]

و
واصل المذن : سورتان
[ حفص عن عاصم ]
وليد الدليمي : 50 سورة
[ حفص عن عاصم ]
وليد النائحي : المصحف كاملا
[ قالون عن نافع من طريق أبي نشيط ]

ي
ياسر الدوسري : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
ياسر الفيلكاوي : 52 سورة
[ حفص عن عاصم ]
ياسر القرشي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
ياسر المزروعي : المصحف كاملا
[ قراءة يعقوب الحضرمي بروايتي رويس وروح ]
ياسر سلامة : سورة واحدة
[ حفص عن عاصم ]
يحيى حوا : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
يوسف الشويعي : المصحف كاملا
[ حفص عن عاصم ]
_________________________________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
اجمل واضخم برنامج لتلاوه القرأن الكريم
برنامج حجمه حوالى28 ك ب فقط؟؟؟؟؟
والأجمل انه بصوووت 50 قارىء
به مميزات عده منها:
1- اعاده تلاوه السوره باستمرار لتيسير الحفظ
2- اعاده تلاوه السوره وتغيير المقرىء
3- تلاوه القرأن الكريم بالترتيب لقارىء واحد
4- تلاوه القرأن الكريم بالترتيب وتغيير المقرىء كل سوره
5- تحميل القرأن الكريم بالكامل على جهازك
بصوت حوالى 50 مقرىء
الرابطhttp://sites.google.com/site/z3im4ev…attredirects=0عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ”من دعا إلى هدىً، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالةٍ، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئاً“ رواه مسلم

تحميل القران الكريم بطريقه التورينت والدعاء للمتوفى والقران الكريم مسموع بعديد من القراء مقدمه من الدكتور اسامه شعلان رحمه وثواب على روح امه الطاهره

  صدقه جاريه على روح راجيا من الله عزل وجل ان يتقبلها  متقينين من القبول برحمته
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً
 فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي
بقلوب مؤمنة بقضاء الله و قدرته
توفيت والده الدكتور/اسامه شعلان .. حرم اللواء فؤاد شعلان
 25/10/2011صباح يوم الثلاثاء
_______________________
نسأل الله ان يتغمدها برحمته ويتجاوز عن سيئاتها
ويجعل ميزان حسانتها اثقل الى جنه النعيم برحمه الله
_____
اﻟﻠﻬﻢ ﻳﺎﺭﺣﻤﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﻵﺧﺮﺓ
ﻭﺭﺣﻴﻤﻬﻤﺎ.. ﺍﺭﺣﻤﻨﺎ ﻭﺍﺭﺣﻢ ﺃﻣﺔ ﻣﺤﻤﺪ
ﺭﺣﻤﺔ ﻛﺎﻓﺔ ﺗﻐﻨﻴﻨﺎ ﻋﻦ ﺭﺣﻤﺔ ﺳﻮﺍﻙ..
ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺍﻏﻔﺮ ﻟﺤﻴﻨﺎ ﻭﻣﻴﺘﻨﺎ.. ﻭﺻﻐﻴﺮﻧﺎ
ﻭﻛﺒﻴﺮﻧﺎ .. ﻭﺫﻛﺮﻧﺎ ﻭﺃﻧﺜﺎﻧﺎ.. ﻭﺷﺎﻫﺪﻧﺎ
ﻭﻏﺎﺋﺒﻨﺎ..ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻣﻦ أحييته ﻣﻨﺎ ﻓﺄحيه ﻋﻠﻰ
ﺍﻹﺳﻼﻡ.. ﻭﻣﻦ ﺗﻮﻓﻴﺘﻪ ﻣﻨﺎ ﻓﺘﻮﻓﻪ ﻋﻠﻰ
ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ..
ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻳﺎﺣﻨﺎﻥ ﻳﺎﻣﻨﺎﻥ ﻳﺎﺑﺪﻳﻊ ﺍﻟﺴﻤﻮﺍﺕ
ﻭاﻷﺭﺽ ﻳﺎﺫﺍ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻭﺍﻹﻛﺮﺍﻡ ﻳﺎﺣﻲ
ﻳﺎﻗﻴﻮﻡ..
ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺍﺭحم( أمى) فقيدتنا الغالية رحمة
ﻭﺍسعة ﻭﺗﻐﻤﺪها ﺑﺮﺣﻤﺘﻚ.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺃﺭحمها
ﻓﻮﻕ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﺗﺤﺖ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﻳﻮﻡ
ﺍﻟﻌﺮﺽ ﻋﻠﻴﻚ.. ﺍﻟﻠﻬﻢ قها ﻋﺬﺍﺑﻚ ﻳﻮﻡ
ﺗﺒﻌﺚ ﻋﺒﺎﺩﻙ.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺃﻧﺰﻝ ﻧﻮﺭﺍ ﻣﻦ ﻧﻮﺭﻙ
عليها.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻧﻮﺭ لها ﻗﺒﺮها ﻭﻭﺳﻊ ﻣﺪخلها
ﻭﺃﻧﺲ ﻭحشتها.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺃﺭﺣﻢ ﻏﺮبتها
ﻭشيبتها.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺃﺟﻌﻞ ﻗﺒﺮها ﺭﻭﺿﻪ ﻣﻦ
ﺭﻳﺎﺽ ﺍﻟﺠﻨﻪ.. ﻻﺣﻔﺮﻩ ﻣﻦ ﺣﻔﺮ ﺍﻟﻨﺎﺭ..
ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺍﻏﻔﺮ لها ﻭﺍﺭحمها.. ﻭﺍﻋﻒ عنها
ﻭﺃﻛﺮﻡ ﻧﺰلها
ﻭﻋﺎفها
ﻭﺍﻋﻒ عنها..
ﻭﺍغسلها ﺑﺎﻟﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺜﻠﺞ ﻭﺍﻟﺒﺮﺩ ﻭنقها ﻣﻦ
ﺍﻟﺬﻧﻮﺏ ﻭﺍﻟﺨﻄﺎﻳﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﻘﻰ ﺍﻟﺜﻮﺏ
ﺍﻷﺑﻴﺾ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﺲ.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺟﺎﺯها
ﺑﺎﻟﺤﺴﻨﺎﺕ ﺇﺣﺴﺎﻧﺎ ﻭﺑﺎﻟﺴﻴﺌﺎﺕ ﻋﻔﻮﺍ
ﻭﻏﻔﺮﺍﻧﺎ.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺍﻓﺘﺢ
ﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻟﺮﻭحها ﻭﺃﺑﻮﺍﺏ ﺭﺣﻤﺘﻚ..
ﻭﺃﺑﻮﺍﺏ ﺟﻨﺘﻚ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ ﺑﺮﺣﻤﺘﻚ ﻳﺎﺃﺭﺣﻢ
ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻫﺬه أمتك الصالحة ﺧﺮجت منها
ﺭﻭﺡ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺳﻌﺘﻬﺎ.. ﻭﻣﺤﺒﻮها ﻭﺃﺣﺒﺎﺅها
ﻓﻴﻬﺎ ﺇﻟﻲ ﻇﻠﻤﺔ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻭﻣﺎﻫﻮ ﻻﻗﻴﻪ.. كانت
تشهد ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺃﻥ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺒﺪﻙ
ﻭﺭﺳﻮﻟﻚ ﻭﺃﻧﺖ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﻪ.. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻳﻤﻦ
ﻛﺘﺎبها.. ﻭﻫﻮﻥ ﺣﺴﺎبها ﻭﻟﻴﻦ ﺗﺮﺍبها..
ﻭﺃلهمها ﺣﺴﻦ ﺟﻮﺍبها.. ﻭﻃﻴﺐ ﺛﺮﺍها ﻭﺃﻛﺮﻡ
ﻣﺜﻮﺍها ﻭﺍﺟﻌﻞ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻣﺴﺘﻘﺮها ﻭﻣﺄﻭﺍها.
اللهم آمين يارب العالمين..
نسألكم قرأه الفاتحه على روح أمى الطاهره باذن الله
__________________

دعاء للمتوفية إذا كانت أنثى 
الدعاء لامى وللمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والاموات
نسال الله ان يضعه الدعاء فى ميزان حسناتها
اللهم ابدلها دارا خيرا من دارها واهلا خيرا من اهلها وادخلها الجنة واعذها من عذابالقبر ومن عذاب النار .
اللـهـم عاملها بما انت اهله ولا تعاملها بما هى اهله .
اللـهـم اجزها عن الاحسان إحسانا وعن الأساءة عفواً وغفراناً.
اللـهـم إنكانت محسنه فزد من حسناتها , وإن كانت مسيئه فتجاوز عن سيئاتها
.
اللـهـم ادخلهاالجنة من غير مناقشة حساب ولا سابقة عذاب .
اللـهـم اّنسها في وحدتها وفي وحشتهاوفي غربتها.
اللـهـم انزلها منزلاً مباركا وانت خير المنزلين .
اللـهـمانزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا.
اللـهـم اجعلقبرها روضة من رياض الجنة ,ولا تجعله حفرة من حفر النار .
اللـهـم إنها فىذمتك وحبل جوارك فقها فتنة القبر وعذاب النار , وانت أهل الوفاء والحق فاغفر لهاوارحمها انك انت الغفور الرحيم.اللـهـم انها كانت تشهد أنك لا إله الا انتوأن محمداً عبدك ورسولك وانت اعلم بها.
اللهم ثبتها عند السؤالاللهم انانتوسل بك اليك ونقسم بك عليك ان ترحمها ولا تعذبهااللـهـم انها نَزَلت بك وأنتخير منزول به واصبحت فقيره الي رحمتك وأنت غني عن عذابها .
اللـهـم اّتها برحمتكورضاك وقها فتنه القبر وعذابها و أّتها برحمتك الامن من عذابك حتي تبعثها إلي جنتكيا أرحم الراحمين .
اللـهـم انقلها من مواطن الدود وضيق اللحود إلي جنات الخلود .
اللـهـم إحمها تحت الارض واسترها يوم العرض ولا تخزها يوم يبعثون “يوم لا ينفعمال ولا بنون إالا من أتي الله بقلب سليم”
اللـهـم يمن كتابها ويسر حسابها وثقلبالحسنات ميزانها وثبت علي الصراط اقدامها واسكنها في اعلي الجنات بجوار حبيبكومصطفاك (صلي الله عليه وسلم) .
اللـهـم اّمنها من فزع يوم القيامة ومن هول يومالقيامة وأجعل نفسها أّمنة مطمئنة ولقنها حجته .اللـهـم اجعل عن يمينهانوراً حتي تبعثها اّمنًه مطمئنه في نور من نورك .
اللـهـم انظر اليها نظرة رضافإن من تنظر إليه نظرة رضا لا تعذبه ابداًاللـهـم أسكنها فسيح الجنان واغفر لهايارحمن وارحم يارحيم وتجاوز عما تعلم ياعليم.
اللـهـم اعفو عنها فإنك القائل “ويعفو عن كثير

اللـهـم انها جاءت ببابك وأناخت بجنابك فَجْد عليها بعفوكوإكرامك وجود إحسانك .اللـهـم احشرها مع المتقين إلي الرحمن وفداً .
اللـهـم احشرها مع اصحاب اليمين واجعل تحيتها سلام لك من أصحاب اليمين .

اللـهـم لا نزكيها عليك ولكنا نحسبها انها اّمنت وعملت صالحاً فاجعل لهاجنتين ذواتي أفنان بحق قولك:
“ولمن خاف مقام ربه جنتان”
اللـهـم شفع فيهانبينا ومصطفاك واحشرها تحت لوائه واسقها من يدك الشريفة شربة هنيئة لا تظمأ بعدهاابداُُ .

اللـهـم إنها صبر علي البلاء فلم تجزع فامنحها درجة الصابرين الذينيوفون اجورهم بغير حسابفإنك القائل ” إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب ”
اللـهـم انها كانت مصليه لك ,فثبنها علي الصراط يوم تزل الاقدام .
اللـهـمانها كان صائم لك , فأدخلها الجنة من باب الريان.

اللـهـم ارزقها بكل حرف فيالقراّن حلاوة , وبكل كلمة كرامة وبكل اّية سعادة وبكل سورة سلامة وبكل جْزءٍجَزاءً .
اللـهـم ارحمها فانها كانت مسلمه واغفر لها فانها كانمؤمنًه
.
وادخلها الجنه فانها كان بنبيك مصدقًه وسامحها فانها كانت لكتابكمرتله.
اللـهـم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذَكّرنَاوأنثانا .
اللـهـم من أحييته منا فأحيه علي الاسلام ومن توفيته منا فتوفه عليالايمان .
اللـهـم لا تحرمنا أجره ولا تضللنا بعده .
اللـهـم ارحمنا اذااتانا اليقين ,وعرق منا الجبين ,كشر الانين والحنيناللـهـم ارحمنا اذا يئس مناالطبيب ,وبكي علينا الحبيب وتخلي عنا القريب والغريبوارتفع النشيج والنحيب .
اللـهـم ارحمنا اذا اشتدت الكربات وتوالت الحسرات واطبقت الروعات وفاضتالعبرات ,
وتكشفت العورات وتعطلت القوي والقدرات .
اللـهـم ارحمنا اذا بلغتالتراقي وقيل من راق وتأكدت فجيعة الفراق للأهل والفراقوقد حَمً القضاء فليس منواق

اللـهـم ارحمنا اذا حملنا علي الاعناق ألي ربك يومئذ المساق وداعا ابدياللدور الاسواق والاقلاموالاوراق الي من تذل له الجباه والاعناق .
اللـهـمارحمنا اذا ورينا التراب وغلقت القبور والابواب وانقض الاهل والاحباب فإذا الوحشةوالوحدة وهول الحساب .

اللـهـم انزل علي اهلها الصبر والسلوان و ارضهمبقضائك.
اللـهـم ثبتهم علي القول الثابت في الحياه الدنيا وفي الاخره ويوم يقومالاشهاد.
اللـهـم صلي وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي اّله وصحبه وسلم إلي يومالدين


____________________ 

فضائل سور القرآن الكريم كما حققها العلامة الألباني – رحمه الله –

نشـرا للسنة وقمعا للبدعــة

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء

رواه مسلم وصححه الألباني في صحيح الجامع
..

انتشر في الآونة الأخيرة كتب ونشرات تحتوي على أحاديث ضعيفة وموضوعة لفضائل بعض سور القرآن الكريم .. لذا كان من الواجب تنبيه المسلمين على ما في هذه ا لمطبوعات من أباطيل .. وإرشادهم لبعض الأحاديث الصحيحة التي حققها شيخنا العلامة / محمد ناصر الدين الألباني

وذلك نشرا للسنة وقمعا للبدعة

والله من وراء القصد ..
سورة الفاتحة
من الأحاديث الصحيحة التي وردت فضل سورة الفاتحة :

1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض ، لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك ؛ فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة {البقرة} ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته ) ..
[ رواه مسلم وصححه الألباني في صحيح الترغيب و الترهيب / 1456 ] ..

2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها. وإنها سبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته ) ..
[ متفق عليه ] ..

3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : {الحمد لله رب العالمين} ، قال الله : حمدني عبدي . فإذا قال : {الرحمن الرحيم} ، قال : اثنى علي عبدي . فإذا قال : {مالك يوم الدين} ، قال مجدني عبدي.وإذا قال:{إياك نعبد وإياك نستعين} ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال : {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، قال : هذا لعبدي . ولعبدي ما سأل ) ..
[ رواه مسلم وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب / 1455 ] ..

4) عن أبي سعيد الخدري قال : ‏عن ‏ ‏أبي سعيد الخدري ‏ ‏قال :‏
‏( كنا ‏ في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت إن سيد الحي سليم وإن ‏ ‏نفرنا غيب ‏ ‏فهل منكم ‏ ‏راق ‏ ‏فقام معها ‏ ‏رجل ‏ ‏‏ما كنا ‏نأبنه برقية فرقاه فبرأ فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا فلما رجع قلنا له أكنت ‏ تحسن رقية أو كنت ‏ ترقي قال لا ‏ ‏ ما ‏ رقيت إلا ‏ ‏بأم الكتاب ‏ ‏قلنا لا تحدثوا شيئا حتى نأتي أو نسأل النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فلما قدمنا ‏ ‏المدينة ‏ ‏ذكرناه للنبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال ‏ وما كان يدريه أنها ‏ ‏رقية ‏ ‏اقسموا واضربوا لي بسهم ) ..
[ رواه البخاري ] ..
بعض الأحاديث الضعيفة التي وردت في فضل سورة الفاتحـة :

1) ( فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي شيء من القرآن، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان، وجعل القرآن في الكفة الأخرى، لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات ) ..
[ (( ضعيف جدا )) / سلسلة الأحاديث الضعيفة 3996 ] ..

2) ( فاتحة الكتاب شفاء من السم ) ..
[ سلسلة الأحاديث الضعيفة 3997 ] ..

3) ( إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت { فاتحة الكتاب } و { قل هو الله أحد } ؛ فقد أمنت من كل شيء إلا الموت ) ..
[ (( ضعيف )) / ضعيف الترغيب و الترهيب 347 ] ..

4) ( فاتحة الكتاب و آية الكرسي لا يقرؤهما عبد في دار فيصيبهم ذلك اليوم عين إنس و جن ) ..
[ (( ضعيف )) / ضعيف الجامع الصغير 3952 ] ..

5) ( فاتحة الكتاب شفاء من كل داء ) ..
[ (( ضعيف )) / ضعيف الجامع الصغير 3951 ] ..

6) ( فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن ) ..
(( ضعيف )) ضعيف الجامع الصغير 3949
هام جداً :
لم أضع الأحاديث الضعيفة لكي يؤخذ بها .. وإنما وضعتها لكي يعلم الناس أنها ضعيفة !!!
ســـورة البقرة

‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏ رضي الله عنه ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال‏ :
( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة ‏ ‏البقرة ‏ ) [ رواه مسلم ] ..

‏عن ‏ ‏أبي مسعود ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏قال :‏ ‏قال النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم : (‏ من قرأ بالآيتين من ‏ آخر سورة ‏ ‏البقرة ‏ ‏في ليلة كفتاه ) [ رواه البخاري ] ..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ) [ رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير / 6464 ] ..
عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير / 1799 ] ..
بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي وردت في فضل سورة البقرة

1) ( آيتان هما قرآن ، و هما يشفعان ، و هما مما يحبهما الله ، الآيتان في آخر سورة البقرة ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 154 ] ..

2) ( من قرأ سورة البقرة؛ توج بتاج في الجنة ) (( موضوع )) [سلسلة الأحاديث الضعيفة / 4633 ] ..

3) ( إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن ، سورة البقرة ، من قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، و من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام )
آل عمران

الأحاديث الصحيحة التي وردت في فضل آل عمران ..

‏أبو أمامة الباهلي ‏ ‏قال :‏ ‏سمعت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول : (‏ ‏اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين ‏ ‏البقرة ‏ ‏وسورة ‏ ‏آل ‏ ‏عمران ‏ ‏فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما ‏ ‏فرقان ‏ ‏من ‏ ‏طير صواف ‏ ‏تحاجان ‏ ‏عن أصحابهما اقرءوا سورة ‏ ‏البقرة ‏ ‏فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها ‏ ‏البطلة ) [ رواه مسلم ] .. أحاديث الضعيفة / 1349 ]
الأحاديث الضعيفة التي وردت في آل عمران..

1) ( من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة، صلى الله عليه و ملائكته حتى تجب الشمس ) (( موضوع ))
[ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 415 ] ..

2) ( اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ) إلى آخره ) ..
[ سلسلة الأحاديث الضعيفة /2772 ] ..

3) ( الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟ قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] ) ..
[ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 3755 ] ..

4) ( من قرأ آخر (آل عمران في ليلة؛ كتب له قيام ليلة ) ..
[ ضعيف مشكاة المصابيح / 2112 ] ..

5) ( من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة؛ صلت عليه الملائكة إلى الليل ) ..
[ ضعيف مشكاة المصابيح / 2113 ] ..

6) ( ما من رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها : {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} [آل عمران:83] ؛ إلا وقفت لإذن الله تعالى ) ..
[ ضعيف الكلم الطيب / 177 ] ..

7) ( ما خيب الله تعالى عبدا قام في جوف الليل ، فافتتح سورة ( البقرة ) و ( آل عمران ) ، و نعم كنز المرء ( البقرة ) و ( آل عمران ) ) ..
[ ضعيف الجامع الصغير / 5063 ] ..
هود
الأحاديث الصحيحة التي وردت في سورة هود

قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله قد شبت قال : ( شيبتـني ” هود ” و ” الواقعة ” و ” المرسلات ” و ” عم يتساءلون ” ، و ” إذا الشمس كورت ” ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع / 3723 ] ..
وقال عليه الصلاة والسلام : ( شيبتني هود و أخواتها قبل المشيب ) [ صحيح الجامع الصغير/ 3721 ] ..
وقال صلى الله عليه وسلم : ( شيبتني هود و أخواتها من المفصل ) [ صحيح الجامع الصغير/3722 ] ..
وقال عليه الصلاة والسلام : ( قد شيبتي هود وأخواتها ) [ صحيح الشمائل المحمدية / 35 ] ..
الأحــــاديث الضعيفة التي وردت في سورة هــود

1) ( شيبتني ( هود ) و أخواتها ، و ما فعل بالأمم قبلي ) [ ضعيف الجامع الصغير / 3421 ] ..

2) ( اقرؤوا سورة (هود يوم الجمعة ) [ ضعيف الجامع الصغير / 1070 ] ..

3) ( شيبتني ( هود ) و أخواتها ، ( الواقعة ) و ( الحاقة ) و ( إذا الشمس كورت ) ) [ ضعيف الجامع الصغير/ 3419 ] ..

4) ( شيبتني سورة (هود و أخواتها (الواقعة و (القارعة و (الحاقة و (إذا الشمس كورت و (سأل سائل ) [ ضعيف الجامع الصغير / 3418 ] ..

5) ( شيبتني ( هود ) و أخواتها : ذكر يوم القيامة ، و قصص الأمم ) [ ضعيف الجامع الصغير / 3420 ] ..
الأحاديث الصحيحة التي وردت في بعض السور
سورة الإسراء

قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ” الزمر ” و ” بني إسرائيل ” ( أي سورة الإسراء ) ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة / 641 ] ..

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان لا ينام حتى يقرأ المسبحات ويقول فيها آية خير من ألف آية ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني / 2712 ] ..

* المسبحات : هي السور التي تفتتح بقوله تعالى ” سبح ” أو ” يسبح ” .. وهن سور الإسراء ، الحديد ، الحشر ، الصف ، الجمعة ، التغابن ، والأعلى .
سورة الكهف

عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال وفي رواية ـ من آخر سورة الكهف ـ ) [ رواه مسلم ] ..

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من ” فتنة ” الدَّجال ) [ صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة / 582 ] ..

وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ سورة الكهف ) [ كما أنزلت ] كانت له نورا يوم القيامة ، من مقامه إلى مكة ، و من قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره ، و من توضأ فقال : سبحانك اللهم و بحمدك [ أشهد أن ] لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك ، كتب في رق ، ثم جعل في طابع ، فلم يكسر إلى يوم القيامة ) [ صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة / 2651 ] ..

وقال عليه الصلاة والسلام : ( من قرأ سورة ( الكهف ) ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق ) [ صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب / 736 ] ..

وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ سورة ( الكهف ) في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ) [ صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب / 736 ] ..
الأحاديث الضعيفة التي وردت في سورة الكهف

– ( ألا أخبركم بسورة ملأت عظمتها ما بين السماء و الأرض ؟ و لقارئها من الأجر مثل ذلك، و من قرأها غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام ؟ قالوا : بلى قال : سورة الكهف [ ضعيف جداَ / ضعيف الجامع الصغير / 2160 ] ..
– ( سورة الكهف تدعى في التوراة : الحائلة ؛ تحول بين قارئها وبين النار ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 3259 ] ..
– ( من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف؛ عصم من فتنة الدجال ) [ ضعيف مشكاة المصابيح / 2088 ] ..
الأحاديث الصحيحة التي وردت في فضائل بعض السور
ســـورة الفتح

( عَنْ ‏ ‏أَنَسٍ ‏ ‏أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏مَرْجِعَهُ مِنْ ‏ ‏الْحُدَيْبِيَةِ ‏ ‏وَأَصْحَابُهُ يُخَالِطُونَ الْحُزْنَ وَالْكَآبَةَ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَسَاكِنِهِمْ وَنَحَرُوا ‏ ‏الْهَدْيَ ‏ ‏بِالْحُدَيْبِيَةِ ‏ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏ ‏إِلَى قَوْلِهِ ( ‏ ‏صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏ )‏قَالَ : لَقَدْ ‏ ‏أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَتَانِ هُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا جَمِيعًا ) [ رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع / 5121 ]
ســــورة تبارك

‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏ عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال : (‏ ‏إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة ‏‏ تبارك الذي بيده الملك ‏ ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني / 2315 ]
عن جابر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ” آلم ” تنزيل السجدة ، و ” تبارك الذي بيده الملك ” ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني / 2316 ] ..
ســـورة الكافرون

عن فروة بن نوفل رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أويت إلى فراشي فقال :
( اقرأ قل يا أيها الكافرون فإنها براءة من الشرك ) قال شعبة أحيانا يقول مرة وأحياناً لا يقولها .. [ رواه الترمذي وصححه الألباني / 2709 ] ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ) [ حسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة / 586 ]
الأحاديث الضعيفة التي وردت في فضائل بعض السور
ســـــــــــورة يس

– ( إن الله تبارك وتعالى قرأ ( طه ) و ( يّس ) قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمة ينزل هذا عليهم ، وطوبى لألسن تتكلم بهذا ، وطوبى لأجوف تحمل هذا ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 1248 ] ..
– ( من دخل المقابر فقرأ سورة ( يّس ) خفف عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات ) [ (( موضوع )) / سلسلة الأحاديث الضعيفة / 1246 ] ..

– ( إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن (يس ، ومن قرأ (يس ؛ كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ) [ (( موضوع )) / ضعيف الترغيب و الترهيب / 885 ] ..

– ( من قرأ ( يس ) ابتغاء وجه الله ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، فاقرؤوها عند موتاكم ) (( ضعيف )) [ ضعيف الجامع الصغير/ 5785 ] .

– ( من قرأ {يس} في صدر النهار؛ قضيت حوائجه ) [ (( ضعيف )) / ضعيف مشكاة المصابيح / 2118 ] ..
تبيه .. تبيه .. تبيه .. تبيه
جميع الروايات الواردة بفضل سورة ( يس ) ضعيفة أو موضوعة كما حققها شيخنا الألباني ( رحمه الله تعالى ) في كتبه ..
ســـــــــــورة الدخان

– ( من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة؛ غفر له ) [ (( ضعيف جدا )) / سلسلة الأحاديث الضعيفة / 4632 ] ..

– ( من قرأ سورة { الدخان } في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ) [ (( موضوع )) / ضعيف الترغيب و الترهيب / 978 ] ..

– ( من صلى بسورة الدخان في ليلة بات يستغفر له سبعون ألف ملك ) [ ضعيف الترغيب و الترهيب / 448 ] ..

– ( من قرأ { حم الدخان } في ليله الجمعة أو يوم الجمعة ؛ بنى الله له بها بيتا في الجنة ) [ (( ضعيف جدا )) / ضعيف الترغيب و الترهيب/ 449 ] ..

– ( من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورا له . ومن قرأ الدخان ليلة الجمعة أصبح مغفورا له ) [ ضعيف الترغيب و الترهيب / 978 ] . .
ســــــــــورة غافر

– ( من قرأ { الدخان } كلها ، وأول { حم غافر } إلى {وإليه المصير } ، و { آية الكرسي } حين يمسي ؛ حفظ بها حتى يصبح ، ومن قرأها حين يصبح ، حفظ بها حتى يمسي ) [ (( ضعيف )) / ضعيف الترغيب و الترهيب / 390 ] ..
الأحاديث الضعيفة التي وردت في فضائل بعض السور
ســـــــــــورة الحشر

– ( من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم ، من الشيطان الرجيم ، و قرأ ثلاث آيات من آخر سورة ( الحشر ) ، وكل الله به سبعين ألف ملك ، يصلون عليه حين يمسي ، و إن مات في ذلك اليوم ، مات شهيدا ، و من قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة ) [ (( ضعيف )) / ضعيف الجامع الصغير / 5732 ] ..

– ( من قرأ خواتيم ( الحشر ) من ليل أو نهار ، فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة ) [ (( ضعيف )) / ضعيف الجامع الصغير / 5770 ] ..

– ( اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر . ) [ ضعيف الجامع الصغير / 853

– ( إذا أخذت مضجعك فاقرأ سورة الحشر ، إن مت مت شهيدا ) [ ضعيف الجامع الصغير / 307 ] ..
ســـــــــــورة الرحمن

– ( لكل شىء عروس ، و عروس القرآن الرحمن ) [ (( ضعيف )) / ضعيف الجامع الصغير / 4729 ] ..
ســــــــــورة الواقعة

– ( علموا نساءكم سورة {الواقعة}، فإنها سورة الغنى ) [ ضعيف الجامع الصغير / 3730
.

– ( من قرأ سورة (الواقعة و تعلمها، لم يكتب من الغافلين ، و لم يفتقر هو و أهل بيته ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 291 ] ..

– ( من قرأ سورة ( الواقعة ) في كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا ) [ (( ضعيف )) / ضعيف الجامع الصغير/ 5773 ] ..
ســــــــــورة الزلزلة

– ( (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ) [ (( ضعيف )) / ضعيف الترغيب و الترهيب / 889 ] ..
الأحاديث الضعيفة التي وردت في فضل بعض السور
ســـورة الشرح و ســورة الفيل

– ( من قرأ في الفجر بـ ( ألم نشرح ) و ( ألم تر كيف ) لم يرمد ) [ ((( لا أصل له ))) / سلسلة الأحاديث الضعيفة / 67 ] ..
ســـورة القدر

– ( قراءة ( سورة إنا أنزلناه ) عقب الوضوء ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 68 ] ..

– ( من قرأ في إثر وضوئه :{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } مرة واحدة كان من الصديقين ، و من قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء ، و من قرأها ثلاثا حشره الله محشر الأنبياء ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 1449 ] ..
الأحاديث الصحيحة التي وردت في فضائل بعض السور
سورة الإخلاص والمعوذتين

– عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ؟ . قالوا : وكيف يقرأ ثلث القرآن ؟ قال : ( قل هو الله أحد ) تعدل ثلث القرآن ) [ رواه مسلم ] [ وصحح الألباني في صحيح الترغيب والترهيب / 1480 ] .

‏- عن ‏ ‏أنس ‏ ‏أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحب هذه السورة (‏ ‏قل هو الله أحد ) ‏ ‏فقال : ( إن حبك إياها يدخلك الجنة ‏ ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني / 2323 ..

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ ” قل هو الله أحد ” حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة ) [ سلسلة الأحاديث الصحيحة / 589 ] ..

– عن معاذ بن عبد الله بن خبيب بن أبية قال : خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا ، قال : فأدركته فقال : قل فلم أقل شيئا ثم قال : قل فلم أقل شيئا قال : قل فقلت ما أقول ، قال : ( قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وتصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني / 2829
..

– ‏أبي هريرة ‏ ‏قال ‏‏أقبلت مع النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فسمع رجلا يقرأ ‏( ‏قل هو الله أحد الله الصمد ) ‏ ‏فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏: ( وجبت ) قلت وما وجبت ؟ قال الجنة ) [ رواه الترمذي وصحح الألباني / 2320 ] ..

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عقبة ألا أعلمك سورا ما أنزلت في التوراة و لا في الزبور و لا في الإنجيل و لا في الفرقان مثلهن ، لا يأتين عليك إلا قرأتهن فيها ، قل { هوالله أحد } و { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ) [ سلسلة الأحاديث الصحيحة / 2861 ] ..
الأحاديث الضعيفة التي وردت في فضائل بعض السور
سورة الإخلاص والمعوذتين

– ( من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذى يموت فيه ، لم يفتن في قبره ،وأمن من ضغطة القبر ، و حملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة ) (( موضوع )) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 301 ] ..

– ( من قرأ ( قل هو الله أحد ) عشرين مرة بنى الله له قصرا في الجنه ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 1351 ] ..

– ( من قرأ {قل هو الله أحد} مائتي مرة ، غفرت له ذنوب مائتي سنة ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 295 ] ..

– ( من قرأ قل هو الله أحد مائتي مرة كتب الله له ألفا و خمسمائة حسنة ، إلا أن يكون عليه دين ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 300 ] ..

– ( من مر بالمقابر فقرأ ( قل هو الله أحد ) إحدى عشرة مرة ، ثم وهب أجره للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 1290 ] ..

– ( من صلى الصبح ثم قرأ ( قل هو الله أحد ) مائة مرة قبل أن يتكلم ، فكلما قرأ ( قل هو الله أحد ) غفر له ذنب سنة [ سلسلة الأحاديث الضعيفة / 405 ] ..

– ( من مر على المقابر فقرأ فيها إحدى عشرة مرة : {قل هو الله أحد} ثم وهب أجره للأموات ؛ أعطي من الأجر بعدد الأموات ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة /3277 ] ..

– ( من قرأ بعد صلاة الجمعة { قل هو الله أحد } و { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } سبع مرات؛أجاره الله بها من السوء إلى الجمعة الأخرى ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة /4129 ]
انتهى البحث .. وكان عبارة عن تبيان فضائل سور القرآن بدءاً من سورة البقرة وحتى سورة الناس ..

————————————————————————————————————————————————————————-

الباحث القرانى
———————————————————–

أسأل الله أن ينفع بهذا البحث

بارك الله فيكم جميعاً ونفع بك

Posted by Professeur docteur oussama f chaalane papiers – صفحات

لو كل كلب عوى ألقمته حجـراً ** لأصبح الصخر مثقالاً بـدينـار

لو كل كلب عوى ألقمته حجـراً ** لأصبح الصخر مثقالاً بـدينـار

لو كل كلب عوى ألقمته حجـراً ** لأصبح الصخر مثقالاً بـدينـار

كم من لئيم مشى بالزور ينقـلـه** لا يتقي الله لا يخشى من العـار
يود لو أنه للـمـرء يهـلـكـه ** ولم ينلـه سـوى إثـم وأوزار
فإن سمعت كلاماً فـيك جـاوزه ** وخل قائله فـي غـيه سـاري
فما تبالي السما يوماً إذا نبـحـت ** كل الكلاب وحق الواحد الباري
وقد وقعت ببيت نـظـمـه درر ** قد صاغه حاذق في نظمه داري
لو كل كلب عوى ألقمته حجـراً ** لأصبح الصخر مثقالاً بـدينـار

رساله من ادب الرسول لكل ظالم سليط اللسان عديم الادب

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء” (ترمذي: بر:48 & أحمد:1: 405و416)
وقال أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه 10 سنوات حياته في المدينه: “لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا ولا لعانا”. (بخاري:أدب:38
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتم أو يلعن أو يدعوا أناس بأسماء لا يحبونها. كان عليه الصلاة والسلام وهو رئيس الدوله من أكثر الناس لينا في الكلام حتى أن الله سبحانه وتعالى أرسل للمؤمنين قرآنا يأمرهم بحسن الحديث اليه صلى الله عليه وسلم بألا يرفعوا أصواتهم عليه ولا يخاطبونه بنفس الأسلوب الذي يخاطبون به بعضهم بعضا فقال عز من قائل في سورة الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ” (49:2)
ذلك أن الكلام السيء يكون وراءه الشيطان وهو من أهم مداخل الشيطان للوقيعة بين الناس. قال الله عز وجل:(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (17:53)
حتى من يسئ الكلام الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه الأساءه بمثلها. ها هو أعرابي يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطني من مال المسلمين لا من مالك ولا مال أبيك فينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أن يؤذوه ويعطه لحاجته
وها هو آخريأتيه مطالبا بدين ويغلظ عليه الصلاة والسلام في الطلب فيقوم له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الأحرى بهم أن يأمروه بحسن أداء ما عليه.
لقد قال الله سبحانه وتعالى: “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم” النساء 148
لكن هذا لا يعنى الشتميه والبذاءه. لقد أمر الله سبحانه وتعالى أنبياءه موسى وهارون عليهما السلام أن يقولا لفرعون قولا لينا: “إذهبا الى فرعون فقولا له قولا لينا” طه 20 – 44
هذا هو مثال وسنه خير خلق الله عليه الصلاة والسلام من لين الكلام وعدم البذاءه والشتيمه والفحش في الكلام حتى إذا تعرض أحدنا للأساءه في الكلام فلا يرد بالأساءه والبذاءه ولكن بلين الكلام حتى لا يدخل الشيطان بيننا ويفرق الأخ عن أخوه والصديق عن صديقه
وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم