الحكم المصرى للشام الجزء الثانى

 

نزع سلاح اللبنانيين وتجنيد الدروز

أيلول وتشرين أول (سبتمبر وأكتوبر) سنة 1835 فبعد ما عاد ابراهيم باشا من مصر الى عكا، شرع في اتخاذ التدابير لتجنيد اللبنانيين ونزع سلاحهم وتسهيلا لتنفيذ هذه المهمة بتفريق كلمة اللبانيين، أوهم المسيحيين أنهم سيعفون من تسليم السلاح، ففي أوائل أيلول (سبتمبر) سنة 1835 خابر الامير بشير ومشايخ الدروز طالبا من دروز لبنان تقديم مجندين ، فأجاب المشايخ أنهم لا يستطيعون اكراه احد على التجنيد، ثم حضر حنا بك بحري الى بيت الدين لمخابرة الدروز رأسا واقناعهم بتقديم المجندين المطلوبين فلم يفلح عندئذ عمد ابراهيم باشا الى نزع السلاح.

 

وفي 27 أيلول (سبتمبر) سنة 1835 ورد مرسوم منه على الامير بشير يخبره فيه انه حضر الى زحلة ومنها سيحضر الى بيت الدين لاجل نزع سلاح الدروز، ويأمره بأن يعلن وجوب جمع السلاح واحضاره الى بيت الدين، وأن يحذروا اخفاء أي قطعة سلاح والا أنزل بهم اشد العقاب، فصدع الامير بالأمر. وفي 29 أيلول (سبتمبر) تفرق أولاده وحفدته في المقاطعات اللبنانية لاجل جمع السلاح.

 

وفي اليوم عينه وصل الى بيت الدين ودير القمر، ابراهيم باشا وابن اخيه عباس باشا وسليمان باشا الفرنساوي وسليم باشا ومحمد باشا يقودون ألوفا من الجنود الزاحفين على لبنان من جهات مختلفة، فثار أهل المتن أولا وامتنعوا عن تسليم سلاحهم، لكن عادوا فخضعوا للقوة القاهرة وسلموها، وكذلك فعل سائر الدروز، وما كاد الدروز يسلمون أكثر سلاحهم حتى انقلب ابراهيم باشا على المسيحيين وأمرهم بأن يبادروا الى تسليم أسلحتهم، زعما أن عدم تسليم سلاح النصارى أدى الى تردد بعض الدروز في تسليم أسلحتهم ونفذ أمره هذا بمنتهى الشدة.

 

وفي 22 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1835 أذاع الامير بشير بناء على امر ابراهيم باشا مرسوما في جميع المقاطعات بوجوب تقديم ألف وستمائة شاب من الدروز للجندية. لكن عاد ابراهيم باشا فاكتفى بنصف هذا العدد. ويقال ان ابراهيم باشا لم يكن حاسبا ان الدروز يسلمون أسلحتهم ويرتضون بانتظام شبانهم في سلك الجندية بدون مقاومة، بعد أن كان قد سمع ما سمع عنهم من شدة البأس وصعوبة المراس، الا أن حالتهم عندما قدم ابراهيم باشا بعسكره الى لبنان جعلت المقاومة عديمة الجدوى بل غير ممكنة، نظلا لانقسام اللبنانيين على بعضهم، واطاعة حاكمهم أوامر ابراهيم باشا اطاعة تامة، وتغرب اكبر زعماء الدروز وأكثرهم نفوذا وأشدهم بأسا، بينما أكثر الزعماء الذين بقوا في لبنان كانوا موالين للأمير بشير، اما طمعا بمنفعة أو مراعاة للقوة القاهرة.

الثورات في الشام

 

لكن الادارة المصرية في سورية لم تلبث ان اصطدمت بثورات محلية نشبت في مختلف الجهات ورزأت مصر بضحايا كثيرة، وحملتها متاعب وجهودا كثيرة لاخمادها.

 

فلنتكلم عن اسباب هذا الثورات.

 

وعد ابراهيم باشا السوريين بان يعفيهم من التجنيد ويخفض الضرائب ولا يكلفهم الا دفع الاموال الاميرية، وقد بر بوعده في السنوات الاولى من حكمه، فخفف عنهم بعض الاعباء المالية، واخذ في تنشيط الزراعة والتجارة، فشعر السوريين بالاطمئنان الى الحكم المصري وركنوا اليه.

 

ولكن هذه الحالة ما لبثت ان تبدلت لمااصدره محمد علي باشا الى ابنه في اواخر سنة 1833 واوائل سنة 1834 من الاوامر التي اثقلت كاهل الاهلين باعباء فادحة وهي: أولا: احتكار الحرير في البلاد السورية. ثانيا: اخذ ضريبة الرءوس من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم. ثالثا: تجنيد الاهالي. رابعا: نزع السلاح من ايديهم.

 

وقد تبرم الاهالي بهذه المحدثات وتذمورا منها، لان احتكار الحكومة للحرير من شانه الحاق الضرر بمنتجيه ومنع تنافس التجار على شرائه وحرمان المنتجين مكاسبهم منه.

 

وقد نفروا كذلك من ضريبة الرءوس وخاصة المسلمين لانهم ما كانوا ملزمين بها من قبل، وزاد في تذمرهم تسخير الحكومة للأهالي في الاعمال العامة.

 

وكانت التجنيد ونزع السلاح اهم الاسباب المباشرة التي افضت الى الثورة، فقد نفذ التجنيد بطريقة قاسية تثير الخواطر، وكان كثير من المجندين يرسلون الى جهات لا يقع على اهلهم شئ من اخبارهم فيها، وجاء نزع السلاح ثالثة الاثافي، لان معظم الاهالي كانوا يحملون السلاح ليدفعوا به سطوات البدو والرحل وعدوانهم، فانتزاع السلاح من ايديهم امر لا تقبله نفوسهم عن طاعة واختيار، ومن هنا نشات الثورات والفتن.

 

وقد كان للدسائس التركية والانجليزية عمل كبير في تحريك تلك الثورات، فان الترك والانجليز ما فتئوا يستفزون السوريين الى الثورة ويوزعون عليهم الاسلحة ويحرضونهم على القتال ويستميلون اليهم رؤساء العشائر والعصبيات، تارة بالمال وطورا بالوعود، حتى افلحوا في تهيئة البلاد للثورة، كما ان بعض اصلاحات ابراهيم باشا كانت من اسبابها، فقد مر بك ان ابطل سلطة الرؤساء الاقطاعيين وضرب على ايدي الاشقياء وقطاع الطرق الذين كانت لهم سطوة كبيرة في بعض البلاد، فؤلاء اولئك قد ساءهم انتزاع السلطة من ايديهم، فكانوا مدفوعين بوازع المنافع الشخصية الى تحريض الاهلين على الثورة بالحكم المصري، قال الدكتور مشاقة في هذا الصدد خلال كلامه عن نظام الحكم المصري في سورية:

 

“هذا النظام وان يكن عادلا وشريفا قد كان باعثا قويا على كره الاعداء والمشايخ للمصريين حيث كف يدهم واوقف مطامعهم عند حد لا يمكن اجتيازه، وأمات استبدادهم بالشعب، وجعلهم امام الشريعة سواء لا امتياز ولا فرق بينهم وبين افراد الرعية، فحنقوا على الدولة المصرية وردوا ازالتها وارجاع الحكومة التركية”.

وقائع الثورة

 

ان مظالم حكومة محمد علي اذت المسلمين في شعورهم الديني، وأثقلت كاهل الشعب على اختلاف مذاهبه وطبقاته بالضرائب حتى ان الأغنياء حملوا منها فوق طاقتهم وشاركت الملاكين والصناع العمال في أتعابهم، وشردت رجال البلاد في الآفاق اما بسوقهم الى الخدمة العسكرية في البلدان البعيدة سوق الجناة أو للسخرية في الأشغال الأميرية بأجور زهيدة أو بإلجائهم الى الفرار الى حيث لا تصل يدها اليهم، فخلت الحقوق من زارعيها ، وارتفعت أجور العمال الباقين ارتفاعا فاحشا، تعذر معها على ذوي الأملاك استثمار أملاكهم، وتقهقرت تجارة البلاد التي كانت في أول عهد الحكومة قد أخذت في الانتعاش، واستعملت من ضروب القسوة في جميع اجراءاتها ما أوغار الصدور وأحرج السوريين كافة احراجا لم يبق وراءه سوى انفجار بركان الاحقاد وشبوب نار الثورات في البلاد.

 

ورغما عن الاسباب التي حالت دون اجتماع كلمة السوريين على القيام بالثورة دفعة واحدة، فان نيران الثورات التي بدأ شبوبها سنة 1834 ما برحت متنقلة من فلسطين الى جبال العلويين فشمالي سوريا فحوران فلبنان، ولم ينته الا بانتهاء حكم محمد علي في سوريا.

 

فكان ما فقد محمد علي من جيشه في محاربة السوريين بسبب تنفيذ قانون التجنيد أكثر بكثير من عدد الذين تمكن من تجنيدهم وما استولى عليه من أموال السوريين بحق أو بغير حق أنفق أضاعفه في محاولة اخضاعهم، وجميع التدابير التي قام بها لاضعاف قوتهم ولد في نفوسهم من الغيظ والغيرة على حقوقهم والمحافظة على كرامتهم وكيانهم ما يزيد على القوى التي سلبها منهم. كما أن أعداء محمد علي من عثمانيين واوروبيين استثمروا هياج أفكار السوريين، فأيدوا الثائرين حتى انتهى الأمر بخروج ابراهيم باشا بجنوده وسائر رجال حكومة محمد علي من سوريا كما سنرى.

ثورة فلسطين

 

وصلت اوامر محمد علي بالمحدثات الجديدة الى ابراهيم باشا وكان في يافا ، فبادر من فوره الى اذاعتها بين القبائل وفي انحاء البلاد، فثقلت هذه الاوامر على الناس وطلبوا رفعها، فلم يجابو الى طلبهم، فظهرت بوادر الاضطرابات في فلسطين.

 

ابتدأت الثورة على شواطئ نهر الاردن بالقرب من بيت المقدس في شهر ابريل سنة 1834، وتواطأت القبائل في هذه الجهات على الا يذعنوا لتلك الاوامر، وفي هذا اعلان للثورة.

 

فلما اعلم ابراهيم باشا بنبا هذا العصيان سار بالجيش من يافا الى بيت المقدس، قد كان لمبادرته تاثير كبير اضعف عزيمة الثوار، وهناك جمع نبهاء القوم واكابرهم (ابريل سنة 1834) فاستوضحهم مقصدهم، فاجابوه بانهم لا يعارضون في احتكار الحكومة للحرير، ذلك يؤدون الضريبة ضعفين ويقدمون بعض اولاد المشايخ رهينة لضمان طاعتهم واخلاصهم، غير ان ابراهيم باشا ابى ان يتهاون في تنفيذ اوامر ابيه، فاستمهلوه مدة يراجعون قومهم وعشريتهم، وانفض الاجتماع على غير طائل، وعاد ابراهيم باشا الى يافا ينتظر الجواب الاخير الذي وعد المجتمعون بابلاغه اياه بعد مشاورة الاهالي، ولكي ينتظر ورود النجدات والتعليمات من مصر، وكانت انتشار الوباء في هذه الجهات مما دعاه الى التعجيل بمغادرة بيت المقدس فاثر البقاء في يافا اذ لم يكن الوباء وقع فيها.

 

 

أما باقي المشايخ فتفرقوا في البلاد لدعوة الأهلين الى التجنيد حسبما اتفقوا عليه مع ابراهيم باشا، لكن قلوبهم كانت ممتلئة حقدا عليه. وكانت الحكومة العثمانية في أثناء ذلك تدس الدسائس في سوريا لحكومة محمد علي، فذاع في طول البلاد وعرضها خبر مؤاده ان الدولة العثمانية قد حشدت جيشا جرارا في سيواس ، وعهدت بقيادته الى محمد رشيد باشا الذي كان قد أسره ابراهيم باشا في موقعة قونية، وأنها تتأهلب للزحف على سوريا لأجل استرجاعها.

 

وكان العدد الأكبر من الجنود المصرية قد عاد الى القطر المصري ، أما الجنود التي كانت لا تزال باقية في سوريا فكانت مفرقة في المدن المختلفة. فهذه الاشاعة لقيت أذانا صاغية من السوريين الذين أصبحوا ناقمين على حكومة محمد علي، وشددت عزائمهم على مقاومة مطاليبه، فعاد العربان الضاربون بجوار البحر الميت الى الانتفاض، وتبعهم أهل جبل نابلس الأشداء وفر الشيخ قاسم الاحمد من معتقله في يافا الى نابلس، وتولى قيادة الثوار هناك وأرسل جماعة الى القدس فأحضرت ولده الذي كان متسلما عليها.

 

وانضم الى الثوار آل أبي غوش انتقاما من الحكومة لأنها سجنت والدهم وكبير قومهم في عكا لابتزازه أموال الحجاج الى بيت المقدس، وكان لانضمام هؤلاء الى الثوار تأثير عظيم لشدة بأسهم وزعامتهم في البلاد الواقعة ما بين القدس ويافا، فتحرج مركز الحامية المرابطة في القدس التي كان يبلغ عدد رجالها نحو ألف مقاتل، فعزم قائدها على الانسحاب منها الى يافا، فاعترضها آل أبي غوش برجالهم وهاجموهم بشدة وقتلوا منها نحو خمسين جنديا، وشتتوا شمل الباقين ، فاضطر القائد الى الرجوع الى القدس مع الجنود التي تسنى له جمع شتاتها ودخل بهم القلعة واعتصم بها. فلما اتصل الخبر بابراهيم باشا وجه آلايا من جيشه بقيادة الميرالاي حسن بك لرفع الحصار عن حامية القدس، فتصدى له آل أبي غوش أيضا، ونشبت بينهم معركة ادمية قتل فيها حسن بك ونحو ثلاثين جنديا، وأكره الباقون على الرجوع الى يافا.

 

وكان الثوار في أثناء ذلك قد هاجموا حامية الخليل المؤلفة من مايتي جندي وذبحوهم، وحضرت جموع غفيرة لمهاجمة القدس فانسل بعضهم الى جهة باب داود، وقتلوا الحرس وفتحوا الباب، فدخل الثوار منه واشتد القتال بينهم وبين الحامية المحاصرة في القلعة، ونهبو دكاكين البلد وبعض بيوت اليهود..وكانت حينئذ قد وصلت الامدادات من مصر فنهض ابراهيم باشا من يافا في 4 حزيران (يونيه) سنة 1834 ومعه سليمان باشا الفرنساوي يقودان ستة آلاف مقاتل، فلما بلغوا قرية العنب بلدة آل أبي غوش الواقعة على مسيرة نحو ثلاث ساعات من القدس، اشتبكوا مع الثوار في موقعة دامية استمرت من الظهر الى العشاء دون أن يفوزوا منم بطائل ، فباتوا ليلتهم هناك.

 

وفي الصباح تجدد القتال فأبلى الفريقان أحسن بلاء، وأخيرا تغلب ابراهيم باشا على الثائرين، وفتح طريقه الى القدس، فوصلها في اليوم الثالث بعد قيامه من يافا، وفرق جموع الثائرين الذين كانوا قد دخلوها. وعلم أن مسلمي القدس ساعدوا الثائرين، وأن الذين قاموا بالمساعدة قد فروا مع الثوار، فأباح لجنوده نهب منازلهم، ونهبت في أثناء ذلك بعض اليهود خطأ لقربها من منازل المسلمين. غير أنه وجد موقفه في القدس محرجا بازاء الثوار الذين كانوا يحيطون به من كل جانب، فالنابلسيون كانوا يهاجمونه من جهة، وعربان البحر الميت من جهة أخرى، ومواصلاته مع يافا مقطوعة لاعتراض آل أبي غوش في الطريق. فحصلت بين ابراهيم باشا والثوار ثلاث وقائع، كان النصر فيها لابراهيم باشا، لكنه فقد في احداها قائدا من رجال برتبة لواء ، غير أن قوة الثائرين لم يصبها وهن وهممهم لم تفتر عن القتال.

 

اخذت الثورة تستفح ، وخاصة لما ذاع بين الاهالي من ان تركيا تتاهب بجيش جديد لاسترجاع الشام من محمد علي، فجنح البدو الضاربون بجوار البحر الميت الى العصيان، وامتدت الثورة الى نابلس.

قمع العصيان

 

كان زعماء العصيان في تلك الجهات حاكم نابلس المسمى الشيخ قاسم الاحمد، وهو من رؤساء العشائر ذوي العصبيات القوية، وكان منهم زعيم آخر لا يقل عنه نفوذا ومكانة وهو أبو غوش صاحب قريبة العنب الواقعة بين بيت المقدس ويافا.

 

هاجمت جماعة أبو غواش المخافر المصرية المعهود اليها تامين السبيل بين يافا وبيت المقدس من سطو قطاع الطرق، فقفلت الحامية راجعة الى يافا لقلة عددهم ازاء المهاجمين.

 

وكذلك هاجم العصاة حامية بيت المقدس، وكانت تبلغ الف مقاتل، فقتل منهم خمسون جنديا واضطر القائد الى الامتناع في قلعة المدينة حتى يأتيها المدد.

 

فلما علم ابراهيم باشا بهذه الواقعة انفذ الايا من الفرسان بقيادة الميرلاي حسن بك لنجدة الحامية وللتنكيل بقبيلة ابي غواش، ولكن النجدة المصرية لم تقو على مقاومة العصاة، ورجعت مهزمة مضعضعة بعد ان قتل قائدها ونحو ثلاثين من جنودها، وتكاثر الثوار على القدس واقتحموا باب داود (من ابواب المدينة) ودخلوا منه ، ووقع قتال شديد بينهم وبين الحامية المحصورة في القلعة، ونهبوا حوانيت المدينة وبعض بيوت لليهود، كذلك هاجم العصاة الخليل وقتلوا حاميتها وكان عددها 200 جندي.

 

فلما علم ابراهيم باشا باستفحال الثورة جمع جيشا من ستة آلاف جندي وقام على راس هذا الجيش. فسار من يافا في شهر يونية سنة 1834. وزحف على معقل العصاة في قرية العنب التي امتنع بها جماعة ابي غوش، وكانت محصنة تحصينا منيعا، فحاصرها الجيش المصري واستمر القتال حولها ثلاثة أيام متوالية، وفي اليوم الثالث دخل المصريون القرية، فكان سقوطها في يدهم سببا في تشتيت العصاة، واحتل المصريون الطرق المفضية الى بيت المقدس وفرق الجيش جموع العصاة ودخل المدينة بعد ان فر كثير ممن انضموا الى الثوار، ووقعت ثلاث معارك بين الجيش المصري والعصاة كان النصر فيها للمصريين.

 

على ان هذا القتال قد حمل الجيش خسائر جسيمة ومتاعب هائلة، فتحصن ابراهيم باشا في بيت المقدس.

 

وفي غضون ذلك عمل على التفريق بين القبائل وضرب بعضها ببعض على الطريقة التي اتبعها في حرب الحجاز، وافلح في استمالة بعض القبائل فتفككت عراها، وعقد سليمان باشا الفرنساوي اتفاقا مع اولاد ابي غوش تعهدوا فيه ان يؤمنوه على اجتياز معاقلهم وان يوالوا الحكومة المصرية على ان تطلق سراح ابيهم الذي كان سجينا في عكا، وعلى العفو عنهم، وبذلك امنت الطريق بين يافا وبيت المقدس.

 

وفي اثناء ذلك عرض الشيخ قاسم حاكم نابلس على ابراهيم باشا ان يقدم طاعته على ان يعفي النابلسيون من الخدمة العسكرية، وجرت بينهما في هذا الصدد مفاوضات، فلما تم الاتفاق مع جماعة ابي غوش واستوثق ابراهيم باشا من ولائهم قطع تلك المفاوضات.

حضور محمد علي باشا

 

لما استفحل امر الثورة عتزم محمد علي باشا المجئ الى فلسطين ليطمئن بنفسه على الموقف وليشرف على حركات القتال التي كان الغرض منها قمع العصيان، فحضر الى يافا يصحبه عدد كبير من الجند، وكان ابراهيم باشا وقتئذ في القدس، فذهب لاستقباله في يافا.

 

وكان العصيان قد امتد الى صفد، فقطع اهلها الطرق ونهبوا اليهود، فعهد محمد علي الى الامير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وكان على ولاء تام للحكومة المصرية، ان يخمد هذا العصيان ، فصار بالامر وزحف على صفد وحاصرها وسلمت من غير قتال واعاد العصاة ما نهبوه من اليهود.

 

وقد بر ابراهيم باشا بوعده لآل ابي غوش فاطلق سراح زعيمهم وعين احد ابنائه متسلما (حاكما) للقدس.

اخماد الثورة

 

وجرد جيشا لمحاربة الشيخ قاسم حاكم نابلس، فدار قتال شديد بينهما انتهى بهزيمة الشيخ قاسم وفراره مع اتباعه الى الخليل.

 

وفي غضون ذلك عاد محمد علي باشا الى الاسكندرية بعد ان اطمأن من ناحية الجيش المصرية ومركزه، فوصل الى الاسكندرية في يوليه سنة 1834.

 

احتل الجيش المصري قرى نابلس: ثم تعقب الشيخ قاسم ورجاله الاشداء الى الخليل، وتطاحن الفريقان ثلاث ساعات انكسر بعدها الثوار، فدخل الجيش الخليل وانسحب المنهزمون الى الكرك والسلط فتعقبهم ابراهيم باشا الى الكرك ولقى جنوده مشقات هائلة في هذه الحملة لاشتداد القيظ والعطش، وسقط منهم نحو ثلثمائة مصابين بالرعن (ضربة الشمس)، واحتل الجيش المصري الكرك، وحمى القتال حول قلعتها التي اعتصم بها الثوار، وتكبد المصريون خسائر جسيمة في هجومهم على القلعة وارتدوا عنها قليلا ريثما تبلغهم المدفعية، فانتهز الثوار هذه الفرصة واخلوا القلعة واسنلوا منها الى السلط، وتقدم ابراهيم باشا الى السلط فسلم اهلها من غير قتال.

 

وفر الشيخ قاسم ومن معه من زعماء العصيان الى البادية، ونزلوا على عرب عنزة، ولكن ابراهيم باشا تعقبهم وما زال بهم حتى اخذهم جميعا وقتلهم، وبذلك تم اخماد الثورة في فلسطين، واذعنت القبائل لسطوة ابراهيم باشا وشدة بأسه.

اضطرابات اخرى

 

وقد هاجت الخواطر في دمشق لما اوقع التجنيد من الحزن في نفوس اهالي المجندين، وفر عدد كبير من الناس الى البادية والى الجبال، وخشى شريف باشا والى ايالات الشام ان يعم الهياج، وخاصة بعد ورود انباء ثورة فلسطي، وفكف عن التجنيد ، لكنه جمع السلاح من ايدي الاهالي.

 

وكذلك وقعت اضطرابات في طرابلس سنة 1824 وائتمر الاهلون بالحامية، فاضطرت ان تنسحب الى الميناء، فارسل ابراهيم باشا المدد الى طرابلس، وعاقب مثيري الفتنة باعدام ثلاثة عشر منهم وثارت الفتن في عكار وصافيتا والحصن. فاخمدتها القوة المسلحة، ووقعت كذلك اضطرابات أقل شانا منها في حلب وانطاكية وبعلبك وبيروت.

ثورة النصيرية

 

من تشرين أول إلى آخر كانون أول (أكتبر-ديسمبر) سنة 1934وشهدت الثورة في بلاد النصيرية شرق اللاذقية في اكتوبر سنة 1834، وكانت اهم ثورة بعد ثورة فلسطينعنوان وصلة، وهاجم الثوار اللاذقية فامدها ابراهيم باشا، وزحفت قواته على بلاد النصيرية ونشبت معارك عدة بينها وبين الثوار انتهت بانتصار الجش المصري ونزع السلاح من ايدي الثوار وتجنيد نحو اربعة آلاف من اهل تلك البلاد.

 

 

وقد نفذ ابراهيم باشا قاعدة نزع السلاح والتجنيد في البلاد التي اخمد الثورة فيها، واستتب الامن في ربوعها، وكان البنانييون يعاونون الجيش المصري في اخماد تلك الثورات فترك لهم سلاحهم الى سنة 1835 ثم عمد الى تجريدهم منه وبدا بالدروز وخادع المسيحيين انه لا يريد نزع اسلحتهم، فعاونوه على تجريد الدروز، وبعد ان تم له ذلك عاد الى اولئك فجردهم من سلاحهم، واستتبت السكينة في سورية ولبنان، فعمدت الحكومة الى تجنيد الاهالي من البلاد كافة، وترتب على ذلك فرار الكثير من الشبان الى البادية مما اضر بالحالة الاقتصادية ضررا بليغا.

 

 

ان ثورة النصيرية كانت أهم ثورات سنة 1834 بعد ثورة فلسطين، فقاتلوا الجيش مستبسلين، كما ان بلادهم أصابها من النهب والحرق والتخريب ما لم يصب غيرها مثله. أما اسباب هذه الثورة فهي تلك التي أذكت نار الثورة في سائر البلدان السورية، وكان ابتداؤها ان النصيرية اعترضوا آلايا من الخيالة النظامية كان ذاهبا من اللاذقية واعتدوا على ممتلكات الحكومة والمسيحيين، وحاصروا المتسلم سعيد أغا العينتابي في داره. وكان ابراهيم باشا عائدا حينئذ من كرك الشوك فلما وصل الى المزيريب بلغه خبر هذا الانتفاض، فأصدر أوامره الى امير لواء الامير بشير أن يوجه قوة لبنانية بقيادة أحد أولاده ليشترك مع سليم بك في أعمال التأديب، فنهض الأمير خليل ومعه اللبنانيون من بيت الدين في 20 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1834 وانضم اليهم الامراء الشهابيون فندي وجهجاه وسعد الدين واحمد ومعهم رجال وادي التيم، فوصلوا الى طرابلس ومنها استأنفوا السير الى اللاذقية في 27 جماد الثاني سنة 1259 هـ = 31 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1834م.

 

وفي 6 رجب زحفوا على بلاد النصرية وخيموا في قرية البهلولية، ففر النصيرية من وجههم تاركين وراءهم مواشيهم وامتعتهم وغلالهم، فعنمتها العساكر وحرقت خمس عشر قري من قراهم وقطعت أشجارها، ثم وجه سليم بك فرقة من عسكره لتخريب غيرها من القرى فصدمها الثوار صدمة شديدة وأكرهوها على الرجوع مضاربها. فأرسل الامير خليل ألف مقاتل من رجاله بقيادة المير جهجاه احد أمراء حاصبيا، فانهزم النصيرية، وحرق العساكر ثلاثين قرية وفي اليوم الثاني نهض الامير خليل ورجاله ومعه الامير افندي شهاب حاكم راشيا والعرب الهنادي وبعض الفرسان المصرية، وتواقعوا مع النصيرية في قرية منبايا، وكانت خسائر الفريقين بالرجال قليلة غير أن النصر كان حليف الجيش الذي حرق قرى عديدة.

 

ثم انتقلت العساكر الى مقاطعة صهيون وكان سكانها قد اعتصموا في قلعتها وجاءتهم نجدة مؤلفة من نحو ألفي مقاتل من مقاطعة بيت الشلف، فحصلت بينهم وبين العسكر معركة فاز فيها العسكر على الثوار وهزمهم، ثم هاجم القلعة واستولى على ثلاثة من أبراجها، وطلب المحاصرون الباقون الأمان وكان الوقت ليلا فكف العسكر عن قتالهم، فاغتنم المحاصرون الفرصة وانسحبوا من القلعة تحت ستار الليل وهربوا، وعند الصباح دخل العسكر القلعة واستولى على ما فيها. وعلى أثر ذلك حضر أهل مقاطعة ديروس وسلموا، ثم انتقل العسكر الى مقاطعة بيت الشلف وشرعوا في حرق قرية عين التين، فبادر أهلها الى التسليم، وحذا حذوهم أهالي مقاطعة المزيرعة وبيت عمار والجهنا. وقدم الى اللاذقية عثمان الجبور كبير الكلبية وحميدوش كبير بني علي، لاجئين الى القناصل ملتمسين مساعدتهم متعهدين انهم يقدمون سلاح بلادهم.

 

أما أهل بيت باشوط والسرامطة والقراحلة فامتنعوا عن التسليم ورابطوا على جسر السن الواقع بين بانياس وجيلة، واتفق ان الشيخ حسين السلمان ونحو سبعين خيالا من المتاولة جاءوا قاصدين الانضمام الى العسكر ، فاعترضهم المرابطون على الجسر وقتلوا اثنين منهم واستولوا على بعض خيولهم. وأرسل الامير بشير نجدة مؤلفة من خمسمائة مقاتل مؤلفة من اهل زحلة وبسكنتا، فتصدى لهم الثوار انفسهم عند جسر السن أيضا، وقتلوا منهم ستة وعشرين رجلا من الزحليين وعشرة من البسكنتاويين، فأرسل الامير خليل ثلاثمائة فارس لنجدة اللبنانيين بقيادة الامير سعد الدين والامير احمد الشهابيين، ففر النصيرية من وجههم الى جبل الحمام.

 

وفي اليوم التالي زحف العسكر على مقاطعاتهم فاعمل فيها النهب والحرق، وفعلوا مثل ذلك في مقاطعة القرادحة التي كان مقدمها عثمان الجبور قد سلم للعسكر، لكن عجز عن تقديم جميع الاسلحة التي وعد بتسليمها، ثم ساروا الى الشعرة وحرقوا نحو خمسين قرية، ونزلوا في قرية الجديدة، وكان ابراهيم باشا قد وصل الى حمص قادما من دمشق، فأبلغه سليم بك امر خضوع الثوار، فأمر الباشا بتفرق العساكر، فاذن للأميرين سعد الدين واحمد الشهابيين بالرجوع الى أوطانهم، وفي أثناء عودتهم حصلت وقائع بينهم وبين النصيرية في وادي العيون ووادي عميق شمالي صافيتا.

 

أما الامير خليل شهاب، فغادر بلاد النصيرية في 20 شعبان 1250 هـ = 12 كانون أول (ديسمبر) سنة 1834 م عن طريق جبلة فالمرقب فطرطوس فطرابلس، ووصل الى بيت الدين في أول كانون ثاني (يناير) سنة 1835 وتفرق رجاله الى أوطانهم، وبقى سليم بك في بلاد النصيرية مع قسم من عساكره لاكمال جمع السلاح. استتب الأمن بعد ذلك بنوع لم يسبق له مثيل، وانتظم نحو أربعة آلاف رجل من أبناء تلك البلاد في سلك الجيش المصري.

ثورة حوران

 ثورة الدروز

 

نحوه من مختلف الجهات، فيوحدون صفوفهم ويقاتلون جنبا الى جنب كأنهم رجل واحد. وهم يفوقون الجنود المنظمة في سرعة حركاتهم ومرونة ترتيباتهم الحربية، وفي صفةمن تشرين ثان (نوفمبر) سنة 1837 إلى آب (أغسطس) سنة 1838

 

بدأت هذه الثورة في أواخر شهر تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1837 ، وانتهت في النصف الثاني من آب (أغسطس) سنة 1838 بعد وقائع دامية خسر في أثنائها جيش ابراهيم باشا ما لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، بينهم عدد غير يسير من القواد، ولاقى من الاهوال ما لم يلاق مثله في حروبه مع الدولة العثمانية أو في اخماد سائر الثورات في سوريا وغيرها. وحتى تتضح للقارئ الاسباب التي دعت حكومةمحمد علي الى اثارة هذه الفتنة التي كلفتها الضحايا الغالية بدون جدوى، وتنجلي أمامه الاحوال التي مكنت الدروز رغما عن قلة عددهم من البطش بالحملة بعد الحملة واحتال ضغط الجيوش الجرارة تسعة شهور، لابد من ايراد بعض التفاصيل عن موقف المتحاربين.

 

هجر بعض الدروز مواطن العمران في لبنان وغيره الى بلاد سادت فيها الفوضى وكثر الخراب وهي بلاد حوران، وكانت هجرتهم اما بسبب المشاحنات التي كانت كثيرة الوقوع بين الاسر والاحزاب أو فرارا من نظام حكام ذلك الزمان. فوجدوا في حوران الحرية المطلقة وجودة الهواء والمساكن الرحبة في قراها القديمة المهجورة تحيط بها الاراضي الواسعة الكثيرة الخصبة. غير انهم ما لبثوا ان اضطروا الى أن يستأنفوا في وطنهم الجديد مثل ما كانوا عليه في وطنهم السابق من قتال ونزاع مع جيرانهم أو مع القبائل الرحالة التي اعتادت المرور والرعي في الديار التي نزلوها، هذا فضلا عن تعرهم الدائم لمقاومة غزاة البادية الذين يعيشون على السلب والنهب.

 

هكذا كان الدروز الذين أمرا حوران حتى عهد ابراهيم باشا – كانوا أحس حرب حنكتهم التجارب وتمرسوا على الحروب في وطنهم القديم، فكان ذلك أفضل ما ادخروه لحفظ كيانهم في وطنهم الجديد، حيث لم تزدد مزاياهم الحربية الا نموا لانهم كانوا على الدوام في حال حرب لا يخرج الواحد منهم من منزله الا وهو شاكي السلاح استعدادا للطوارئ والمفاجات – فتمادى الاحوال على هذا المنوال صير جميع دروز حوران جيشا محاربا فيه الجنود والقواد. فبنوا الحمدان وهم اقدم أسرة درزية نزحت الى حوران على ما نعلم توطدت زعامتهم العامة فيها ونشأت أسر غيرها ذات عصبية قوية وزعامة محلية، فكان أولئك الزعماء قوادا ورجالهم جنودا.

 

والدروز في الحروب أطوع لقوادهم من البنان، كما ان قوادهم فوق ما امتازوا من البسالة والاقدام عرفوا في حروبهم بسعة الحيلة وحسن الادارة الحربية، وطالما بزوا في ذلك القواد المدربين. وفي الدورز من مزايا الجنود المنظمة سرعة حشد قواتهم والعمل يدا واحدة بدون ارتباك، وهذه المزايا توارثها الخلف عن السلف، غير انها ازدادت ظهورا في دورز حوران لكثرة تعرضهم لغزو الغزاة، واعتيادهم على الغارات، فكانوا اذا جاءتهم اشارة من موقع خطر تندفع مقاتلتهم الاعتماد على النفس الضعيفة في أولئك الجنود. فهذه المزايا كانت تجعل لهم اليد العليا في الكر والفر وتجعلهم أقل عرضة للخسائر الجسيمة والنكبات عند تكاثر جموع الاعداء.

 

ومن مزاياهم الصبر على الشدائد وتحمل المشقات لصحة ابدانهم وقوة إيمانهم وخشونة معيشتهم واعمالهم الجسدية واتقانهم استعمال الاسلحة المختلفة، كالسيف والرمح والاسلحة النارية وفي ذلك يقول أحدهم مفتخرا:

 

حنا بني معروف نحمي الجار ولو جار تهوى المزند فتيلك ما نداريه وسيوفنا الحدب تبرى كل زنار وسلاحنا لو صدى بالدم نجليه بارودتي فلنتا ومزنره بسوار حالفه رصاصها عالأرض ما ترميه

 

وفوق هذه المزايا قد استفادوا من موقع اللجاة المنيع. وللجاة بر فسيح طوله عشرون ميلا وعرضه خمسة عشر ميلا، وهو شديد الوعورة كثير المغاور والكهوف، يصعب على الجيش المهاجم الاحاطة به ويجد أكثر المشقات اذا حاول اختراقه. فالدروز انتقلوا اليه بعيالهم حالما ظهرت بوادر العدوان بينهم وبين حكومة محمد علي واتحدوا مع العربان الذين يقطنون اللجاة، فبلغ عدد مقاتلتهم جميعا نحو ألفي رجل، منهم نحو ألف وستمائة رجل من الدروز. وهذا عدد يسير بالنسبة الى الألوف المؤلفة التي اعتادت جنود ابراهيم باشا المنظمة مصادمتها والتغلب عليها. غير أن وعورة مسالك النجاة، وصعوبة الحرب فيها على غير عارفيها، ضاعفت قوة الدروز وحلفائهم، وبالنسبة عينها أضعفت قوة الجيش الذي هاجمهم فيها.

 

أما الذين حمل حكومة محمد علي على التشدد في أمر التجنيد في سوريا، فهو أن الدولة العثمانية كانت تحشد جنودها على مقربة من حدود سوريا الشمالية، بحجة مقاتلة ثوار الاكراد، فاستعدادا للطوارئ بادر محمد علي الى تقوية جيوشه في سوريا، واصدر أوامره بتعميم التجنيد فيها، وبمقتضى ذلك النظام، طلبت حكومة دمشق من دروز حوران مائة وسبعين مجندا، مع أنها لم تكلفهم التجنيد في سنة 1834 لشعورها بحاجتهم الى الرجال لدفع اعتداء العربان المحيطين بهم من كل جانب، لأن الدروز أنفسهم كانوا يقومون في بلادهم بما هو من واجب جنود الحكومة ورجال شرطتها، فيتولون حفظ الامن في الداخل، والدفاع عن حوزتهم عند وقوع اعتداء من الخارج. وحالتهم في سنة 1837 لم تتغير عما كانت عليه في سنة 1834 فتجنيدهم وتكليفهم الخدمة في أماكن بعيدة عن جيلهم، بينما جيرانهم من عربان البادية يسرحون ويمرحون لا مبرر له من جانب الحكومة، لان عدم تجنيد مائة وسبعين رجلا ليس له تأثير محسوس على قوة الجيش.

 

فالذي يتبادر الى ذهن الباحث هو أن حكومة محمد علي اتخذت مسألة التجنيد ذريعة التحرش بدروز حوران، توصلا الى اغراض أكثر أهمية من الحصول على مائة وسبعين مجندا. فجبل حوران واللجاة كانا في ذلك الزمان ملجأ لكل خائف من جور الحكام أو ثائر على الحكومة، ومعقلا يعتصم به الفارون من التجنيد والمتملصون من حمل الضرائب الثقيلة حتى ان قرى عديدة في جبل الكرمل خربت في ذلك الوقت، وانتقل أهلها الى جبل حوران لتنجو من الضرائب الثقيلة وشدة وطأة التجنيد، وفي ذلك خسارة جسيمة على الحكومة في المال والرجال فلذلك رأت الحكومة أن تدويخ دروز حوران يثبت قدمها في جبلهم وفي اللجاة، ويمكنها من ايقاف تيار اللاجئين اليهما، ومن فرض التكاليف العسكرية والمالية عليهم، وتمهيد السبيل لبسط سلطتها على ما وراءهم من العربان.

 

وكانت تظن خطأ أن دروز حوران القليلي العدد لا يستطيعون مقاومتها لتفرقهم في قرى مختلفة، وأن روابط الولاء والاخلاص بين مشايخهم وفلاحيهم كادت تكون مفقودة، وأنهم عزل من السلاح ولا خبرة لهم باستعمال المحراث والمساس. وعلى كل حال لم يكن عندها ريب في نجاح تدابيرها لاخضاعهم، لأن جيشها كان على قدم الاستعداد وفيه الجنود المجربة والقواد المحنكون الذين تعودوا الانتصار على اعداء اقوياء، زد على ذلك أنهم يفوقون الدروز عددا ويمتازون عليهم بجودة السلاح ووفرة الذخيرة.

 

أما مواطن الضعف في ذلك الجيش فكانت استصغاره شأن الدروز، وعدم تقدير عواطفهم القومية ومزاياهم الحربية تقديرا صحيحا. وشتان ما بين مدافع عن وطن اشتراه بالمهج الغالية وبين مهاجم مأجور لا يندفع الى الامام ولا بقوة النظام، كما أن قواد الجيش وجنودهم لم يعتادوا الحرب في الاماكن الوعرة كاللجاة التي كانوا يجهلون مصاعبها. فوعورة مسالك اللجاة أفقدت الجيش اهم مزاياه، وهي قوة النظام وكثرة العدد لانها اضطرت الجنود الى التفرق فلم يستطيعوا العمل مجتمعين، وزال الاتصال الوثيق بينهم وبين قوادهم، فهان على عدوهم الفتك بافرادهم وجماعاتهم الصغيرة وانزال النكبات بمجموعاتهم.

 

 

كان ابراهيم باشا قد اعفى دروز حوران من التجنيد، ثم تراءى له ان يطبق عليهم نظام التجنيد، وحجته انه في حاجة الى زيادة عدد الجيش استعدادا لمقاومة هجوم العثمانيين الذي جاءت الاخبار بقرب وقوعه.

 

فتمرد الدروز على طلب حكومة دمشق، وكان من ذلك نشوب ثورة خطيرة في حوران (نوفمبر سنة 1837) وهي شاد ثورة عاناها الحكم المصري في سورية.

 

انفد ابراهيم باشا ثلاث حملات لكفاح تلك الثورة واخمادها، فالحملة الاولى الفها من 459 من فرسان الهوارة، ففازت في بدء القتال على الثوار في بصرى ولكن الثوار استدرجوها الى الجهات الجبلية الوعرة فيبلاد اللجاة، وامر قائد الحملة بالزحف عليها، حتى اذا بلغ الوعر وانحصر فيه، انقض عليه الدروز، فدارت بين الفريقين معركة بطش فيها الدروز بالحملة المصرية، فقتل قائدها وبادت الحملة قتلا واسرا وتشريدا.

 

ولما ابلغ ابراهيم باشا نبأ هذه الواقعة وكان في انطاكية اجمع لحملة جديدة يقودها بنفسه، لكنه علم باحتمال تقدم الترك نحو الحدود الشمالية، فاضطر الى البقاء في حلب وارسل الى ابيه يستمده. وطلب منه ان ينفذ اليه احمد باشا المنكلي وزير الحربية المصرية لقيادة الحملة، فجاء هذا على جناح السرعة، وقاد الحملة الجديدة وكان فيها 6000 مقاتل، وزحف على حوران، فاخذ الثوار يستدرجونها كما استدرجوا الحملة الاولى من قبل الى ان توغلت في الجهات الوعرة، فقاتلها الثوار في معركة انتهت بهزيمة الحملة، وخسرت من رجابها نحو اربعة آلاف بين قتيل وجريح، وجرح قائدها احمد باشا المنكلي جراحا بالغة.

 

تصدعت هيبة الجيش المصري بانتصارات الدروز، واستشرت الثورة من حوران الى وادي التيم فثار الدروز فيها بقيادة (شبلي العريان) وقطعوا مواصلات الجيش.

 

وجهز ابراهيم باشا حملة ثالثة من عشرين الف مقاتل اطبق بها على ثوار حوران ووادي التيم.

 

ونشبت الحرب وكانت سجالا. الى ان انتهت بتسليم دروز (وادي التيم)، ثم تسليم شبلي العريان وانحصار الثورة في اللجاة ثم انتهت باخماد ثورة اللجاة (أغسطس سنة 1838).

 

وبذلك انتهت ثورة الدروز بعد ان استمرت تسعة اشهر تكبد فيها الجيش المصري خسائر فادحة، ولقى فيها الاهوال ما لم يلقه في اخماد الثورات السورية الاخرى.

 

وعنى عن البيان انه كان في امكان مصر ان تتفادى هذه التضحيات الاليمة والخسائر الفادحة لو لم يتشدد محمد علي باشا في تجنيد السوريين ونزع اسلحتهم، اذ لم يكن من الحكمة ولا من حسن السياسة ان تبادر دولة فاتحة الى تجنيد الاهالي في بلاد حديثة عهد بفتحها ولما يستقر بعد حكمها فيها، وخاصة اذا كان اهلها قد اعتادوا من قديم الزمن حمل اسلحتهم ولم يألفوا نظام التجنيد الاجباري، لما استهدف الجيش المصري لهذه الثورات الى اودت بحياة عشرة آلاف مقاتل ونيف، وذلك اكثر من العدد الذي استطاع تجنيده من السوريين، واكثر مما خسرته مصر في المعارك الحربية بسورية والاناضول، هذا فضلا عن ان اخماد الثورات بالقوة والجبروت قد اوغر صدور السوريين على الحكم المصري، فبعد ان استقبلوه في بدء الفتح بقبول حسن وفضلوه على الحكم التركي جنحوا بعد ذلك الى قديمهم ولقيت الدعاية التركية بينهم مرعى ومأوى.

 

على أنه يجب الا يغرب عن البال ما كان للدسائس الانجليزية والتركية من الاثر الكبير في تحريض السوريين على الثورة كما قدمنا، ولكن مما لا نزاع فيه ان هذه الدسائس ما كانت لتفلح لو لم تلجأ الحكومة المصرية الى اثارة الخواطر بنزع سلاح الاهلين وتجنيدهم جبرا، ومن جهة أخرى فان الحكومة المصرية رغبة منها في منع ورود الاسلحة الى البلاد امرت بمنع دخول جهة اخرى فان الحكومة المصرية رغبة منها في منع ورود الاسلحة الى البلاد امرت بمنع دخول السفن التركية الى الثغور السورية، وصدت ورود القوافل من جهات الاناضول، فاصاب التجارة من هذه وتلك ضرر كبير، وقد كان للدسائس الانجليية وسوء الحالة الاقتصادية في اواخر عهد الادارة المصرية اثر كبير في الحرب السورية التي شبت بين مصر وتركيا وحلفائها عقب ابرام معاهدة لوندره، فان الجيش المصري قد لقى فيها من مقاومة السوريين ما زاد مركزه جرحا كما سيجئ بيانه.

التأثير حكومة محمد علي

تأثير حكومة محمد علي في سوريا

 

زالت حكومة محمد علي من سوريا بانسحاب جنوده منها. أما تأثيرها فلم يزل مع ذلك الانسحاب، لأنها أحدثت في نظام الأحكام انقلابا عظيما، فأدخلت انظمة جديدة للادارة والقضاء والمالية والجندية، وأنفذت في السوريين سلطة العزيز المقتدر، فكان لذلك تأثيرات جمة في حياة البلاد الاجتماعية والأدبية والاقتصادية والادارية والسياسية، منها ما كان بعيد المدى، فاتصل تأثيره بوقتنا الحاضر.

التأثير الاجتماعي

 

من التغييرات الاجتماعية التي نشأت عن حكم محمد علي في سوريا اطلاق الحرية الدينية، ونشر روح الديموقراطية بالضرب على ايدي الزعماء والمتغلبين، ونزع السلطة من أيديهم، وانشاء العلاقة ما بين أفراد الشعب وحكامه مباشرة، وتأليف مجالس مشورة تمثل الشعب بعض التمثيل، ولها حق النظر في الشئون المحلية، بعد أن كان النظر في جميع الشئون منوطا بحكام مستبدين.

 

وقد كان لوجود ابراهيم باشا في سوريا تأثير في بساطة المظهر، بعد أن كان كبار البلاد يباهون بالملابس الفاخرة والمظاهر الخلابة وكثرة الأتباع، وانما كانوا يقلدون في ذلك الحكام العثمانيين. اما ابراهيم باشا فكان ميالا بفطرته الى بساطة المظهر والتخشن في المعيشة، ولعل حياته الجندية زادته استمساكا بذلك، لان احوال الجندية تقتضي التخشن وملابس رجالها بسيطة متماثلة لا تمييز فيها بين ملابس كبار الضباط وصغارهم الا بما عليها من العلامات الفارقة. ويروي انه لما جاء ابراهيم باشا بجيشه الى لبنان وحل في دير القمر، أقام في منزل حقير. لا ينزل فيه امثاله من الوزراء. وذهب ذات ليلة لزيارة الامير بشير زيارة غير رسمية، فلم يستصحب أحدا من رجال حاشيته بل كان بصحبته أحد خدمه، فقضى السهرة عند الامير في المسامرة والتدخين.

 

وكان الامير قبل ذلك لا يعهد في الوزراء سوى مظاهر الأبهة والترفع عن الناس، فلا تتحرك ركابهم الى آخر الا وهم مرتدون الملابس الفاخرة محاطون بالجند والعظماء. وكان الأمير نفسه بل من دونهن من الزعماء يجرون على الخطة نفسها كل حسب مكنته ومكانته. أما بعد أن تلقى هذه الزيارة الودية من ابراهيم باشا الخالية من التكلف البعيدة عن الفخفخة، لم يسعه إلا أن يحذو حذوه. وبما أن ابراهيم باشا وهو ابن عزيز مصر ورأس الحكومة السورية وقائد الجيش العام زاره مستصحبا خادما واحدا فحتى يحفظ النسبة ما بين مقامه ومقام مولاه وهما نازلان حينئذ في مكانين متقاريبن، رد له الزيارة منفردا.

 

وفي عهد ابراهيم باشا في سوريا طرح الامير بشير وأولاده العمائم واستبدلوها بالطربوش المغربي اقتداء بمحمد علي وابراهيم باشا ورجالها، فتبعهم في ذلك كبار رجال الدين وغيرهم.

 

وأظهر ما قامت به حكومة محمد علي من التغييرات الاجتماعية، المساواة بين رعايها على اختلاف الأديان والمذاهب. فقبل دخول ابراهيم باشا الى سوريا لم يكن مباحا للمسيحيين ان يتعمموا بالعمائم البيضاء أو الخضراء أو الحمراء، وكانت محظورة عليهم بعض أمور غير هذه، وكانت تولية المسيحيين مناصب الحكومة قليلة الوقوع. فحكومة محمد علي أزالت كل هذه الفوارق. وأباحت

الوطنيين والافرنج الوظائف في الجيش والحكومة الملكية ومنحتهم الرتب والألقاب.

 

ويروى عن حنا بك بحري الذي كان يتولى منصبا رفيعا في حكومة سوريا ان زملاءه المسلمين كانوا لا يعاملونه بالاكرام الذي يستحقه منصبه، وكان محمد علي قد منحه رتبة مير ميران. فشكا أمره الى ابراهيم باشا ، فهذا لم يحدث أحدا عن هذه الشكوى، لكنه دخل مرة الى مجتمع ضم كبار رجال مجلسه وبينهم حنا بك بحري فنهضوا واقفين. فقال ابراهيم باشا: “يا بك تقدم نحوي”. دون أن يذكر اسم البك الذي طلب تقدمه، ولم يخطر ببال أحد أنه يقصد بحري بك دون غيره اسم البك الذي طلب تقدمه، ولم يخطر ببال احد انه يقصد بحري بك دون غيره من البكوات الواقفين أمامه، فتقدم موظف آخر اسمه حافظ بك فقال له ابراهيم باشا: “إني أنادي بحري بك” فرجع حافظ بك الى مكانه، وتقدم بحري بك ولما دنا منه قال له: “تفضل” وأجلسه على مقربة منه. أما سائر رجال المجلس فبقوا في أماكنهم وقال لهم “اجلسوا”. فبعد هذا الحادث صار كبار رجال الحكومة يعاملون حنا بحري بك المعاملة اللاقئة بمقامه.

 

وكان قبل قيام حكومة محمد علي في سوريا لا يقاد المسلم بالذمي، اما حكومة محمد علي فسوت في ذلك بين رعاياها المختلفي الأديان والمذاهب، كما سوت بينهم في دفع الضرائب، ولم تفرق بينهم في شي سوى تكليف المسيحيين دون المسلمين بدفع الخراج، لكنها كلفت المسلمين القيام بالخدمة العسكرية ولم تكلف المسيحيين. وقد تجاوزت حكومة محمد علي في سوريا حد المساواة بين المسلمين والمسيحيين في امر التسليح، فبعد أن كانت قد جمعت أو فرضت جمع السلاح من جميع البلاد السورية، عادت في سنة 1838 فسلحت النصارى لتستعين بهم على مقاتلة الدروز.

 

وكان التضييق على المسيحيين الافرنج قبل عهد ابراهيم باشا مقله على المسيحيين الوطنيين ، فكان الوافدون منهم على سوريا قليلي العدد ولا يستطيعون التجول فيها إلا وهم مرتدون الملابس الوطنية، أو تحت حراسة الجند فلما ساح بكهرت في سوريا في أوائل القرن التاسع عشر ارتدى الملابس الوطنية، واتخذ لنفسه اسم الشيخ ابراهيم. وعينت انجلترا قنصلا لها في دمشق المستر فرن سنة 1829 فلم يستطيع دخول دمشق بل بقى في بيروت مدة طويلة أي إلى أن احتل ابراهيم باشا مدينة دمشق في سنة 1832 ، فأذن حينئذ للقنصل الجديد بالذهاب اليها، فدخل المدينة باحتفال مهيب ولم يجرؤ أحد من الاهالي ان يبدي اي تذمر او اعتراض، لان ابراهيم باشا كان يحكم البلاد بيد من حديد.

التأثير العملي والأدبي

 

لم تقم حكومة محمد علي في سوريا باعمال علمية وأدبية ذات شأن، فالمدارس التي أنشأتها كانت قليلة العدد والتأثير، وكانت في معظم الاوقات مشتغلة بالفتح وتسكين الاضطرابات واخماد الثورات ومقاومة الدسائس والاعتداءات الداخلية والخارجية. على ان قيامها في سوريا مهد السبيل لنهضة علمية أدبية، لأن تنظيماتها استوجبت اختيار المتنورين لادارة الاحكام والقيام بالأعمال القضائية والمالية والكتابية، وسهلت قدوم الافرنج من مرسلين دينيين، وتجار وغيرهم فأنشأت بوساطتهم المدارس.

 

كما ان ارسال بعض الشبان لدرس الطب في القطر المصري، واستخدام بعض السوريين في حكومة محمد علي باشا، أنشأ صلة أدبية دائمة بين القطرين، فامتدت تلك الصلة ونتائجها الى وقتنا الحاضر، وأدخلت حكومة محمد علي روحا علمية الى البلاد في أعمالها، فأنشأت محجرا صحيا في بيروت، وبذلت اهتماما يذكر في الأمور الصحية، وكانت تجري فيها حسب مشورة الأطباء، كما فعلت في دمشق بانشاء مصارف للمياه الراكدة، واستخدام المهندسين في ذلك وفي الانشاءات التي تحتاج الى معرفة فنية.

التأثير الاقتصادي

 

لو قدر لحكومة محمد علي الثبات في سوريا لاثرت في حالة البلاد الاقتصادية افضل تأثير، لان محمد علي كان رجلا عمرانيا طامحا الى توطيد دعائم ملكه، عالما أن العمران دعامة الملك الكبرى، فما قامت به حكومة محمد علي من الاعمال الاقتصادية لتنشيط زراعة الكرمة والتوت والزيتون، واستخرجت المعادن واشهرها معدن الفحم الحجري في قرنايل وقيل في بزيدين أيضا في مكان يدعى عين بوقة، كما أنها استخرجت الحديد من مرجبا في قاكطع المتن في لبنان.

 

وقد كان لحكومة محمد علي تأثير خاص في نهضة بيروت الاقتصادية، لأن اقامة المحجر الصحي فيها أوجب على جميع البواخر القادمة الى الشواطئ السورية ان ترسو في مياه بيروت، وأجرت تجارب على زراعة السكر والنيلة وشجر التين، وتربية دودة القز، غير أنها لم تتمكن من مواصلة هذه الاعمال والتوسع فيها، لان البلاد كانت في حالة حرب، والحرب والعمران لا يجتمعان، فبعد فتح البلاد بزمن قصير، قامت الثورات في مختلف أنحاء البلاد، وما كادت تخمد هذه الثورات حتى تجددت الحرب مع الاتراك ثم تلتها محاربة الحلفاء ، فالانسحاب من سوريا وكان اهل سوريا ومواردها الاقتصادية مقيدين في اثناء تلك الحوادث بمشيئة الحكومة، تتصرف بهم في التجنيد والتسخير والاحتكار وفرض الضرائب الثقيلة الوطأة حسبما اقتضته الحاجة، ومكنت القوة من تنفيذه. فاشتغل من اشتغل من رجال البلاد في الجندية أو الثورة أو السخرة، وفر الى البادية او البلاد المجاورة من استطاع الفرار سيبلا. فحرمت الاراضي الواسعة من ايديهم العاملة، كما أن ثقل وطأة الضرائب والاحتكار ثبطا عزائم من بقى من القارين على الانتاج. وفي اثناء الحروب والثورات دمرت قرى عديدة، وأهملت الزراعة ، فقل الانتاج وارتفعت أسعار لوازم المعيشة، ولاسيما انها كانت محتكرة، وقسم كبير منه مطلوب لاعالة الجيش المرابط من البلاد، وأصبح الأهلون في ضيق شديد.

 

وبعد أن كانت قد ظهرت بوادر النشاط في أسواق التجارة بسبب تأمين طريق المواصلات الداخلية وتسهيل المعاملات مع البلدان الخارجية، كسدت التجارة، ووقف دولاب الاعمال الصناعية أيضا، ولاسيما أن البضائع الأجنبية اخذت تزاحم المصنوعات الوطنية، وأقبل الناس على شرائها، لأنها كانت أرخص ثمنا من مصنوعات البلاد، وأجمل منها منظرا.

 

ورغما عما عرف عن محمد علي من الرغبة الشديدة في تنشيط الصناعة، لم تتمكن حكومته من تنفذ رغبته هذه في سوريا، نظرا لما سبقت الاشارة اليه من اضطراب الاحوال واشتغالها بالحروب واخماد الثورات.

 

التأثير الاداري والسياسي

 

من حسنات حكومة محمد علي ان مبادئها كانت نظامية، ومع أن النظام لم يطبق دائما تطبيقا عادلا، نظرا لما تخلل ادارة الحكومة من الاختلاط والفساد، فانه وضع الاساس لترقية الحكم بترقية القائمين به والشعب الخاضع له. ووزع السلطات الادارية والقضائية، وقرر اختصاص كل منها بقدر الاستطاعة، فأقام الحوائل دون الحكم المطلق الذي كان في ما مضى يحصر السلطة في الحاكم وحاشيته.

 

وجرى في تلك الاثناء تعيين عدد كبير من اهالي البلاد في المناصب المختلفة، فتمرنوا على طرق الحكم الجديدة. وألفت مجالس الثورة من أبناء المدن، فتعودوا على ادارة بعض شئونهم بنفوسهم، وربطت اجراءاتهم بنظام معلوم. فهذا التبديل في ادارة البلاد، ومد رواق المساواة فوق جميع أبناء الشعب الواحد المختلفي الأديان والمذاهب، كان بمثابة مقدمة لخلط كلخانة الذي أصدره السلطان عبد المجيد في تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1839، ولما عقبه من التنظيمات الاصلاحية التي حاول أسلافه ادخالها ولم يفلحوا.

 

وأكبر نجاح صادفته حكومة محمد علي في سوريا، هو اقرار الامن في نصابه. ففي عهد الحكومة العثمانية السابق دخول ابراهيم باشا الى سوريا كان حبل الامن مضطربا في كل مكان، وكان الاشقياء يعيثون فسادا حتى في البلاد الساحلية وعلى أبواب المدن، كذلك الاماكن الواقعة على الطرق السلطانية، كما بين بيروت والشام التي كان من الواجب اقامة مخافر فيها لتأمين المواصلات، كانت في ذلك العهد مكامن للصوص، وكان المسافرون يضطرون الى السير جماعات جماعات، وهم شاكو السلاح ليستطيعو الدفاع عن نفوسهم وأموالهم، وكان من منتهى الشجاعة ان يذهب الرجل وحده من بيروت الى الشام، ومن ذلك نشأت الأغنية المشهورة في جبل لبنان التي منها قولهم:

 

جوزك يا المليحة راح على الشام وحده

 

جوزك يالمليحة بوزيد الهلالي

 

اما حكومة محمد علي ، فانها شددت النكير على اصحاب الجرائم، وأنزلت بهم العقابات الصارمة، وكان القاتل يقتل بدون تردد ولا امهال، وجازت المجرمين بالضرب الموجع، وبزجهم في السجون المظلمة، وتكليفهم القيام بالاشغال الشاقة، وحافظت على طرق المواصلات محافظة دقيقة، وألقت على عواتق رؤساء القبائل وشيوخ القرى تبعة ما يقع في دوائر نفوذهم من الجنايات والسرقات التي لا يكشف مقترفوها، فكان أهل القرية أو الناحية يكلفون ايجاد أو دفع ثمن ما يسرق أو ينهب في أرضهم. فهذه الاجراءات، وان كان بعضها لا ينطبق على العدالة، فانها لم تكن مخالفة لروح ومقتضيات ذلك الزمان، كما أنها جادت بفوائد عامة تبرر اتخاذها، فاستتب الامن في جميع أنحاء البلاد وفي ما عدا زمن الثورات كادت حوادث القتل والسرقة والسلب تنقطع من البلاد.

 

أما جبل لبنان فلم تترك فيه حكومة محمد علي من حسن التاثير ما تركته في سواه من البلاد السورية، فقبل حلول تلك الحكومة من سوريا، كان الامن مستقرا في لبنان، لان الامير بشير كان منصرفا بكليته الى ذلك، وكانت هيبته في البلاد ملء الاسماع والابصار. غير ان الامير كان مستبدا وحكومة محمد علي لم تضعف استبداده، ولا ذهبت بسيئات الحكم الاقطاعي وضغطه على الشعب اللبناني، لان السلطة التي كانت لاصحاب المقاطعات الاصليين انتقلت الى ايدي ابناء الامير وحفدته واقاربه ومريديه، وهؤلاء كانوا يستمدون من الامير قوة ويفوقون الاقطاعيين الذين تقدموهم جورا على الاهلين.

 

والذي أدى بلبنان الى هذا الموقف الشاذ، هو ان الامير بشير خدم حكومة محمد علي في سوريا خدمات جليلة، وكان أقدر اللبنانيين على تنفيذ مآرب محمد علي وابراهيم باشا في لبنان، فنظر الى هذه الامور بعين المراعاة، ولم تتعرض حكومة محمد علي للامير بشير في ادارة البلاد الداخلية، ولا أنشأت مجالس مشورة في لبنان كما فعلت في مدن سوريا، فبقيت السلطة محصورة في شخص الامير بشير، فازداد تمكنا من رقاب اللبانيين، واغتنم الفرصة السانحة، فجمع ثروة طائلة من اموالهم. هذا فضلا عن ان حكومة محمد علي رتبت على اللبنانيين نحو ثلاثة اضعاف ما كانوا يدفعونه الى الحزينة العثمانية. ومن اشد مساوئ حكومة محمد علي في لبنان طعن الوطنية اللبنانية في صميمها بما زرعته من بذور التفريق بين المسيحين والدروز. 

 

للمسيحيين ما هو مباح للمسلمين من لباس وركوب خيل وحقوق اجتماعية ووطنية، وقلدت كثيرين من المسيحيين