الازهر فى مواجهه التغريب

 

مقدمة

بقلم/ د. رفعت سيد أحمد

قبل أيام أثيرت ضجة كبرى سببها لقاءات شيخ الأزهر بالحاخامات اليهود، وبإنشاء مراكز للدراسات الأمريكية وبالإفتاء بما يرضيهم على مستوى إدانة الجهاد الفلسطيني، بالمقابل خرج عدد من علماء الأزهر ليفتوا بكفر الشيعة والطوائف والمذاهب الإسلامية الأخرى لمجرد اختلافها مع الفكر الوهابي السعودي الذي تغلغل في الأزهر الشريف مع هبة النفط وذهاب  هؤلاء العلماء إلى آبار النفط لكي توضؤا بها بديلاً عن ماء زمزم، فتلوثوا بالفكر الوهابي المتطرف ولوثوا به سواهم من المسلمين وهو الفكر الذي يكفر بسهولة وصباح مساء غيره من المذاهب، ويعتبر حاله هو الدين الصحيح وما عداه باطل وهو الفكر الذي صدر إلينا الإرهاب في سيناء ومن قبله الجماعات التي قاتلت الناس وقتلت الشرطة والمسيحيين، الأزهر اليوم يقع بين شقي رحى: الشق الأول وهو الاختراق الأمريكي الإسرائيلي المتحالف مع النظام الرسمي، والشق الثاني الاختراق الوهابي المتطرف الذي يبشر مصر بالمزيد من العنف والتحريم (يحرمون كل شيء من تدخين السجائر حتى إهداء الزهور للمرضى، مروراً بمن يقل بدوران الكرة الأرضية)، في هذه الأجواء نحتاج إلى إعادة الاعتبار للدور الوطني الصحيح والحضاري للأزهر الشريف، وهي إعادة تتطلب منا النظر إلى الجذور حتى نحاول اكتشاف أصل الخلل، فماذا عنها؟!

*        *        *        *

أولاً: وفي البداية يحدثنا التاريخ أن الأزهر الفاطمي الذي أنشأ في العام (359هـ/ 970م) كانت تتجاور وتتحاور بداخله المدارس الفقهية المختلفة دونما عنف أو صراع أو تكفير كما هو حاصل اليوم، كان الفاطميون أصحاب المذهب الإسماعيلي الشيعي قد أنشئوا الأزهر للتبشير لمذهبهم ودولتهم ومع ذلك سمحوا للمذاهب السنية الأربعة (الشافعية ـ المالكية ـ الحنبلية ـ الحنفية) بالتواجد وبقوة ليس فحسب داخل الأزهر الشريف، بل لقد خصصوا لهم مسجد عمرو بن العاص وكان معقلاً لفقهاء أهل السنة والجماعة، والطريف أن الحكام الفاطميين جعلوه المسجد الرسمي لدولتهم رغم خلافهم المذهبي مع أصحابه فكان منبره هو المنبر الرسمي للخليفة الفاطمي في صلوات الجمع في شهر رمضان وفي العيدين وفي عهد هذه الدولة استقبل الأزهر وبرحابة صدر إسلامية واسعة رموزاً من فقهاء وعلماء أهل السنة الكبار أمثال (أبو حامد الغزالي) الذي هرب من بطش السلطة العباسية ولجأ إلى مصر دون أن يغير أفكاره ومبادئه ودعوته بل وحتى دونما إسقاطه لخلافاته الكبرى مع المذهب الشيعي وفي عهد هذا الأزهر الفاطمي وحكامه استقبلت مصر العالم الكبير أبو الحسن بن الهيثم الذي لقب لاحقاً بآينشتاين العرب.

كان ذلك في الأزهر الفاطمي وحوله قبل أكثر من 900 عام ترى أين نحن من هذه الرحابة والسماحة الإسلامية التي أسس عليها الأزهر وصار رمزاً ومنارة إشعاع فكري وأداة لتوحيد الأمة قيماً ومذاهب وفرقاً!!

*        *        *        *

ثانياً: هذا الأزهر الفاطمي المتجاوز للفتن والصراعات والجامع لأصحاب المذاهب، والذي كان أيضاً قائداً لثورات مصر ضد الاحتلال الأجنبي، أنظر ثورات مصر الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية مع بداية القرن التاسع عشر ثم مواقف الأزهر الرائدة ضد الاحتلال الإنجليزي وصولاً إلى دوره التقريبي المهم بين المذاهب في الأربعينيات على يد الشيخ عبد المجيد سليم وإنشاؤه لدار التقريب بين المذاهب الإسلامية والتي يحيها اليوم (2008) العالم الجليل فضيلة الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر السابق، ثم دور الأزهر في حروب مصر إبان عهد عبد الناصر (1956 ـ 1967) وصولاً إلى حرب 1973 وما تلاها، هذا هو الأزهر العظيم الذي تراجع دوره وباعتراف علمائه وتدهورت رسالته، وتحول العديد من خريجيه إلى مجرد موظفين لدى سلطة مستبدة وتقيم علاقات تبعية مع العدو الأمريكي الإسرائيلي أو تخنع لفكر وهابي تكفيري متطرف، إننا نفتقد في (أزهر اليوم) أمثال الأفغاني ومحمد عبده والمراغي وشلتوت والخضر حسين و محمد أبو زهرة وغيرهم من نجوم الفقه والاجتهاد الإسلامي.

إن الأزهر يعاني اليوم من اختراقات هدامة يأتي على رأسها دعاة الفكر الوهابي النفطي ببداوته وتخلفه وغلوه وبعده عن فطرة الإسلام ذلك الفكر الذي حذر منه العلامة الشيخ/ محمد الغزالي (عليه رحمة الله) وأسماه بـ(فقه البداوة) الذي ينشغل بطول اللحية وتقصير الثوب والسواك وتكفير الناس ونقاب المرأة بدلاً من انشغاله بقضايا الدين والناس وبدلاً من انشغاله بحرمة وجود قوات الاحتلال الأمريكي في الخليج وصفقات اليمامة وزيارات بندر بن سلطان لتل أبيب!!

إن هذا الفكر هو الذي أوصلنا إلى مذابح العراق المذهبية وإلى طائفية لبنان المميتة، وإلى تكفير الدولة الفاطمية التي تبعد عنا زمنياً بما لا يقل عن 900 عام بعد أن شبع من تكفير الواقع المعاش وأهله ومذاهبه بما فيها مذهب أهل السنة والجماعة وليس الشيعة فقط، إن هذا الفكر يخترق الآن الأزهر بسبب عصر النفط اللعين وهو أحد الأسباب الكبرى في تعطيل رسالة الأزهر وعدم استعادته لدوره الفاطمي التاريخي المهم، وإذا أردنا أن نعيد للأزهر مجده فلنواجه وبقوة هذا الاختراق الفكري والمالي والسياسي الوهابي قبل أن يستفحل ويشل الأزهر تماماً ويبعده ـ كما أبعدوا مصر ـ عن دوره ورسالته القومية والإسلامية.

*        *        *        *

ثالثاً: إن الأزهر يمثل لدى المسلمين في العالم وكما قال لنا يوماً أحد علمائه الكبار ووفقاً لنص كلماته (إذا كانت الكعبة في مكة تمثل للأمة الإسلامية رمزاً للتوحيد ورمزاً للإسلام فإن الأزهر هو كعبة العلم والعلماء) انطلاقاً من هذا المعنى المعبر ندعو إلى حركة إحياء تعليمي وديني وثقافي وسياسي داخل الأزهر الجامع والجامعة، وهي حركة تبدأ من إعادة الاعتبار لموقع (الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر) وأهمية أن يكون هذا الموقع بالانتخاب بين هيئة كبار العلماء، فهذا الأسلوب هو الذي يضمن استقلالية الأزهر بعيداً عن أهواء الحكام ومصالحهم، وأن يعاد النظر في المناهج التعليمية بداخل معاهده وكلياته ومنابره الفقهية بما يربطها أكثر بقضايا الأمة والوطن ومن المهم إعادة قراءة ونقد ومراجعة قانون تطوير الأزهر ذاته الصادر عام 1961 بما يفيد الأزهر الجامع والجامعة ويعيد لهما دورهما الذي تراجع.

إن الأزهر الذي نطالب بع هو الأزهر (القائد) لا (المقود) الأزهر الرافض للانغلاق المقاوم للاختراق الأجنبي ولفتنة الغلو الوهابي لعن الله من أيقظها في مصرنا الحبيبة!!


الفصل الأول

شيوخ الأزهر في مواجهة

الاختراق الأمريكي والوهابي

بقلم

د. أحمد عبد الرحيم السايح*


إن تاريخ الأمم مقرون بالأحداث التي تعاصرها ، وتاريخ القاهرة مقرون بإنشاء الجامع الأزهر الشريف الذي يعتبر بحق جامع القاهرة كما كان يلقب من قبل .

فطوال الألف عام التي عاصرها ، شهد من أحداث مصر والعالم الإسلامي ما لا يمكن لنا أن نتصوره أو نصوره ، لأن تاريخ هذا البناء الشامخ هو تاريخ القاهرة بأسره ، فهما بنيا في عصر واحد ،وكلاهما أنشئ تحت راية حكم واحدة وشيدا على طراز فاطمي موحد .

والأزهر منذ نشأته يعتبر جامعة بحق ، لأنه يتوسط العالم ، وكان على صلة وثيقة بمدارس بغداد إبان الدولة العباسية ، وكان – أيضا – على اتصال بالمعرفة والثقافة في مدارس قرطبة بالأندلس وأضحى تبعا لهذا الاتصال الفكري والروحي حلقة وصل بين مصر والعالم الإسلامي كله . وله مواقفه البطولية إزاء السياسة العامة للدولة المصرية وشهد التاريخ أمجاد لهذا الجامع العظيم .

كما أنه يمتاز على أقرانه من الجامعات التي سبقته إذ أن الدراسة كانت في أروقته على نظام أكاديمي ، يعتمد على الموضوعية والمنهجية في التدريس والتعليم ، وبطريقة منظمة ومنتظمة ، إلا أن هذه الدراسة كانت قديما دراسة موسوعية شاملة لمعظم ألوان المعرفة السائدة في حينها ، ولكن تطور الأزهر المعاصر كان دعوة ملحة لفصل العلوم عن بعضها والميل في وضع المناهج الدراسية إلى إتباع المناهج التخصصية مراعاة لتطور العصر.

والأزهر احتفظ لنا بأمانة في جوف مكتبته وفي أروقته بآلاف المجلدات والمخطوطات الإسلامية النادرة التي تعنى بالتراث الإسلامي ، وكانت فتاوى علمائه هي النبراس الذي يسير على هديه الشعب المصري في كفاحه الطويل .

ظل محافظا على التراث الإسلامي ، كما كانت المعرفة في رحابه القدسي تنطلق من أفواه علمائه – الطلاب والمريدين – خالصة لا يشوبها تحريف أو تشويه ، لأنها ملتزمة بالدين وبروح العقيدة الإسلامية .

فالعلماء والطلاب ما زالوا يفدون إليه من كل صوب وحدب في العالم ليشهدوا في الأزهر منافع لهم لأن حلقات الدروس – منذ نشأته – كانت تعقد فيه بلا قيود لكل ظمآن للمعرفة الإسلامية الخالصة ليرتوي من مناهلها الطاهرة .

وهذا الطود الذي يشمخ أنفه وعظمه قد تكسرت على عتباته أمواج من الباطل ليدفعها بالحق . ولم يطغ على الثقافات الأخرى ولكنه نقاها بحيث أصبحت تتواءم وروح الفكر الإسلامي . وعند قيامه . لم يتعارض مع وجود الحركة الفكرية في رحاب جامع عمرو بن العاص في الفسطاط والجامع الطولوني في القطائع ، لأن هذه الجوامع قد استقطبت بين جدرانها عشرات من أئمة علماء الإسلام ليتدارسوا فيها ، وليدرسوا لطلبتهم الثقافة والعلوم.

فكان على جامعي ، عمرو بن العاص وابن طولون مهمة توجيه الحركة الفكرية في مصر قبل بناء الأزهر . كما كانت ساحاتهما مركزا للدراسة والندوات الفكرية .

وأول ما درس في الأزهر هو المذهب الشيعي – مذهب الفاطميين – والعلوم التي أدخلت عليه لتدريسها به هي الطب والفلسفة والمنطق والرياضيات والمذاهب الأربعة وغيرها ، وقد بدأ تدريسها بالأزهر عندما تدهور الحال بدار الحكمة ، ومن ثم آلت ثقافتها إلى الجامع الأزهر فحافظ عليها وطورها .

ويتميز القرن التاسع عشر والقرن العشرين بعدة إصلاحات شملت الأزهر على مدار السنين التي مرت به ، فكان تطوير الأزهر في تلك الفترة تطويرا فكريا ومنهجيا تبعا لعدة قوانين صدرت طوال هذه الفترة حتى أتت الثورة .

فأصبح الأزهر جامعا وجامعة حيث تشعب إلى عدة كليات عملية وكانت مراحل الإصلاح تحبو طوال القرن التاسع عشر .

لكن الأزهر زاحم الزمان في موكب الخلود ، وارتدت عن صرحه هجمات المعتدين ، وتكسرت على أبوابه أقلام الجهل والجهال ، فهو الجامع لشعوب الدنيا حول مناراته الخمس ، والجامع للعلم والعبادة ، والعقل والدين . وهو شعلة الإسلام التي لا تطفئها أغلال الباطل ، ولا زوابع الكفر لأنه رمز للخلود يرتفع في كل مكان ، وشعلة للحق يهتدي إليها الضالون وتحطمت على صخرته الصلبة تيارات الإلحاد والفكر .

فعلى جدرانه وضعت القاهرة بصمات تاريخها ، وعلى مداخله أودعت ذكرياتها فهو وليدها البكر الذي حبا في صدر تاريخها وتعاطفها عليه ، فكان ابنا بارا بها ثائرا لثورتها ، متألما لمحنها وعضدا لها ، إبان ضعفها ومصباحا لها في إظلامها وهاديا لها في مسارها ، فالأزهر والقاهرة صنوان لا يفترقان لأنهما خلقا ليكونا رمز تاريخ مصر وعنوانا لهذا التاريخ.

فالقاهرة بأزهرها قلعة الخلود وقمة المجد وعظمة لا تدانيها عظمة في الوجود لأن الأزهر يعتبر بحق جامعة الشرق الكبرى ، وحصنا للثقافة طوال عشرة قرون عاصرها .


نشأة الأزهر

يرجع الفضل في تأسيس الجامع الأزهر إلى الفاطميين الذين اتسعت دولتهم حتى شملت المغرب وصقلية ومصر وسوريا وفلسطين والحجاز واليمن .

والفاطميون ينتسبون إلى علي بن أبي طالب ابن عم المصطفى r ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها ويكفي الفاطميين فخرا أنهم خلفوا لمصر والعالم الإسلامي هذا التراث الخالد وهو “الجامع الأزهر” .

وترجع نشأة الدولة الفاطمية إلى القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) حيث بدأ الخليفة الفاطمي بتوطيد سلطانه في بلاد المغرب وأسس مدينة المهدية واتخذها حاضرة لدولته سنة 308هـ (920م) .

ولما جاء الفاطميون إلى مصر بعد فتحها رغبوا في الاستقرار والاستيطان بها لتكون مركز حكمهم إذ أنها تقع في قلب العالم العربي كما أنها علاوة على ذلك مركز ثقل وذات موقع استراتيجي ولما تمكنوا من الحكم وطاب لهم المقام قام (جوهر الصقلي) قائد الجيوش الفاطمية بتأسيس مدينة “القاهرة” بعد عام من فتح الفاطميين لمصر وكان أول أعماله إرساء حجر أساس “الجامع الأزهر” وذلك في يوم السبت 24 من جمادى الأولى عام 359هـ الموافق أول ابريل عام 970م .

وصلى فيه المسلمون أول جمعة في 7 رمضان عام 361هـ ، وفرغ من بنائه في 17 من رمضان عام 361هـ الموافق 22 يونيه عام 972م ، واستغرق بناء الجامع الأزهر عامين .

وفي عام 362هـ توجه الخليفة الفاطمية “المعز لدين الله” إلى الجامع الأزهر لصلاة العيد وكانت هذه أول صلاة رسمية يشهدها الخليفة الفاطمي في الجامع الأزهر ومكث الأزهر يستأثر بهذا الامتياز الرسمي في ظل الدولة الفاطمية قرابة 40 عاما تقام فيه صلاة الجمعة الرسمية ، ويخطب فيه أيام الجمع خلال شهر رمضان والأعياد .

ويعد الأزهر أول عمل فني معماري أقامه الفاطميون ولا يزال قائما حتى اليوم .

ويقع الأزهر في الجنوب الشرقي من قاهرة المعز لدين الله الفاطمي على مقربة من القصر الكبير الذي كان موجود حينذاك بين حي الديلم وحي الترك في الجنوب .

وسمي بالأزهر نسبة إلى السيدة “فاطمة الزهراء” بنت الرسول r وقيل سمي بالأزهر لأنه يزهر عليهم جميعا ولذلك كان يضاء في ليالي الأعياد الرسمية ويقال أيضا أن تسميته بالأزهر وجدت ارتياحا وقبولا عند الفاطميين أنفسهم ، لأنه يقرب من اسم (الزهراء) فاطمة بنت الرسول التي ينحدرون من نسلها ، وقيل إن تسميته بالأزهر إشارة إلى كوكب الزهرة ، ويقال أيضا إنه سمي بذلك لأن القصور التي كانت تحوطه في مدينة القاهرة كانت زاهرة ، وكان بناؤه زاهرا وسط هذه القصور ، وقيل إنه سمي بذلك تفاؤلا بما سيكون عليه من شأن عال بازدهار العلوم فيه .

ولو تتبعنا مسار التاريخ لوجدنا أن بعض الفاتحين والقواد الذين دخلوا مصر ، كانوا يقيمون فيها مساجد بأسمائهم تخليدا لذكراهم وعرفانا بمآثرهم وتذكيرا بأمجادهم ، فمثلا ، حينما دخل عمرو بن العاص مصر بنى فيها جامعا باسمه ، وكذلك أحمد بن طولون بنى فيها جامعا ، كما أن المعز لدين الله أمر قائده جوهر الصقلي أن يبني جامعا خاصا بهم ، ليكون هذا الجامع مباحا فيه المناداة بالمذهب الخاص بهم في مصر ، ومقصورا على مذهبهم فقط ، وبمرور الزمن غدا الأزهر جامعا للجميع و”برلمانا” تعقد فيه الجلسات النيابية حيث يتدارس الناس فيه مشاكلهم التي كانت تواجههم ، ويبحثونها في أروقته ، كما كانوا يؤدون فيه الشعائر الدينية ، ويبحثون مطالبهم ، وكان جوهر الصقلي يجتمع بالمسلمين فيه يوم الجمعة ليحدثهم في أمور الدين والدنيا ، كما كان يعلن فيه على الناس أوامر الحاكم بخصوص رفع الضرائب أو الأوامر والتعليمات التنظيمية للدولة .

وكلمة جامع معناها المكان الذي يجتمع فيه ، وهذا يختلف في معناه عن كلمة المسجد إذ أن معناها مكان السجود والعبادة ، وعلى هذا نرى أن كلمة “الجامع” أشمل وأعم، فجامع الأزهر كان الهدف من إنشائه هو نشر الدعوة الإسلامية والثقافة، فهو كان ملتقى الشيعة يتدارسون فيه أصول مذهبهم، ويخدم أيضا رسالة الدين التي كانت تقوم بها الجوامع الأخرى في ذلك العصر، وقد كان ذلك هو الهدف الأساسي من بناء الجوامع في مصر والدول الإسلامية.

فجامع عمرو ، وجامع ابن طولون كلاهما كان للعبادة وتحصيل الثقافة الإسلامية وكلاهما كان في مصر القديمة، وعلى ذلك اتجه الحكم الفاطمي إلى الأزهر ليترسم الأزهر سياسة الدولة الفاطمية الجديدة بمعناها الديني والسياسي، ثم أصبحت الدراسة به تغلبها الصبغة الدينية واللغوية والمنطق، علاوة على دروس الحساب والهندسة والجبر والفلك، وظلت هذه الدراسة متداولة في أروقته ومساحته عدة عصور مختلفة.

فجامع الأزهر كان – كما يقول دودج في كتابه عن “الأزهر” يعنى بدراسة العلوم الإنسانية والفلسفية ، ولذلك فقد نهج جوهر الصقلي عند إنشائه هذا المنهج كنظام عمرو بن العاص، وأحمد بن طولون في عصريهما وعلى هذا أصبحت “القاهرة الجديدة” تظل على العالم الإسلامي من خلال منارتها الحية “الجامع الأزهر الشريف” .

تطوره :

كان الجامع الأزهر وقت إنشائه يتوسط العاصمة الفاطمية على النحو الذي كان متبعا في إنشاء القواعد الإسلامية الأولى، حيث أنشئ الجامع الأزهر ليكون مسجدا رسميا للدولة الفاطمية في حاضرتها الجديدة ، ومنبرا لدعوتها الدينية ورمزا لسيادتها الروحية.

ومعرفة التخطيط الأصلي لهذا الجامع تعد من الأمور الصعبة التي لا يمكن الاهتداء إليها فقد زاد كثير من خلفاء الدولة الفاطمية في بنيانه وأعيد تجديد أجزاء كثيرة منه خلال القرون الماضية، كما أضيفت إليه زيادات عدة، وإذا كان الجامع لا يزال يحتفظ ببقية من النقوش والكتابات الكوفية والعقود المنكسرة التي تعد من مميزات العمارة الفاطمية، فإن جل أجزائه الحالية من عصور متأخرة.

وكان الجامع يحتوي على محل مسقوف يسمى بالمقصورة ومحل آخر غير مسقوف يسمى “صحن” الجامع الأزهر. وتنقسم المقصورة التي بناها جوهر إلى قسمين:

1- المقصورة الأصلية التي أنشأها جوهر وهي مكونة من 76 عمودا من المرمر الأبيض.

2- المقصورة الجديدة التي أنشأها عبد الرحمن كتخدا في عام 1067هـ وتتكون من 50 عمودا من الرخام خلف المحراب القديم .

وبذلك يكون عدد أعمدة المقصورتين 126 عمودا من 375 عمودا هي جملة هذا البناء الشامخ وكان منبر الجامع وقتئذ من النوع الذي يسحب على عجل ، فلا يخرج من مكمنه بجوار المحراب إلا يوم الجمعة ، ثم يرد إلى حجرته مثل مسجد الزيتونة بتونس وتوالت التوسعات والتجديدات للجامع في عهود مختلفة . وفي سنة 400هـ قام بتجديده الحاكم بأمر الله ووقف عليه وقفية كبيرة وزعت على مرافقه وشئونه كما عني بإصلاحه أيضا الخليفة الفاطمي المنتصر بالله وكذلك أضاف إليه الخليفة الحافظ لدين الله بين سنتي 524-544هـ/1129-1149م رواقا يحيط به من جوانبه الأربعة.

وقبة رأس المجاز حفلت جوانبها بالزخارف والكتابات الكوفية وآيات من القرآن الكريم.

وتعتبر هذه القبة أقدم قبة فيه نقشت من الداخل، غير أن الجامع الأزهر أهمل في عهد الأيوبيين وظل معطلا من إقامة صلاة الجمعة فيه مائة عام حتى قام الظاهر بيبرس بإصلاحه وتبرع بالأموال المطلوبة لإصلاحه وتجديده. وأعاد إلى الجامع شبابه وصار حرما كما كان وسط المدينة. واحتفل بإقامة صلاة الجمعة فيه يوم الجمعة 18 من ربيع الأول عام  665هـ/نوفمبر 1266م وفي عام 702هـ/1302م حدث زلزال مما أثر على جدران الجامع فقام الأمير “سلار”نائب السلطان بعمارة الجامع. ثم تتابع الإصلاح على الجامع، فأصلحه الأسعدودي محتسب القاهرة عام 735هـ/1325م وكذلك الأمير سعد الدين بشير الناصري الذي قام بإزالة المخلفات التي كانت تشوهه، وذلك في سنة 761هـ/1361م كما أنشأ سبيلا وكتابا عند الباب القبلي للمسجد.

وفي عام 800هـ/1397م هدمت منارة الجامع حيث كانت قصيرة وبنيت مكانها منارة جديدة أطول من القديمة، وقد بقيت هذه المنارة حتى هدمت في شهر شوال عام 817هـ/1414م لظهور خلل بها، وأعيد بناؤها وفي شهر شوال عام 827هـ/1424م شرع الملك “الأشرف برسباي” في عمل صهريج بالصحن على هيئة السبيل انتفع به أهل الجامع، وتم بناؤه في شهر صفر عام 828هـ/1424م ونستطيع أن نقول بأن أهم التجديدات والإصلاحات التي أجريت على الجامع هي التي قام بها السلطان قايتباي سنة 873هـ/1468م وسنة 901هـ/1495م حيث شملت جميع المسجد وكان لها أثر كبير في صيانته حقبة طويلة ثم قام السلطان قانصوه الغوري ببناء منارة جديدة للجامع وذلك في سنة 915هـ/1510م .

وفي سنة 1004هـ/1595م قام والي مصر السيد محمد باشا بإصلاحات جديدة للأزهر كما أجرى فيه إصلاحات أيضا الوزير حسن باشا، عمر (رواق الحنفية) في سنة 1041م، وكذلك قام الأمير إسماعيل بك القاسمي في سنة 1134هـ/1731م بإصلاح سقف الأزهر وفي سنة 1163هـ/1749م أهدى الوزير أحمد باشا “كور مزولتين” للأزهر ما زالتا حتى الآن.

وفي سنة 1148هـ/1735م أنشأ الأمير عثمان كتخدا (زاوية العميان) خارج الأزهر أمام المدرسة الجوهرية حينئذ خدمة لمكفوفي البصر، ومن أعماله أيضا (رواق السليمانية) ثم تلته بعد ذلك أكبر حركة إصلاح وتجديد أجريت به وهي التي قام بها الأمير عبد الرحمن كتخدا وفي سنة 1167هـ/1753م، وكان هذا الأمير مغرما بالعمارة والإصلاح، ولذلك عني بإصلاح الأزهر وتجديده، كما عني كذلك بتجديد جميع مشاهد أهل البيت والأولياء وأنشأ كثيرا من الأسبلة والمساجد.

وفي سنة 1220هـ/1805م أجريت بالجامع إصلاحات جديدة.

هذا وقد قامت الدولة في سنة 1896 بإضافة توسعات جديدة للأزهر، واحتفل بافتتاح هذه التوسعات في شوال سنة 1315هـ/1898م. كما قامت الدولة كذلك بهدم الأروقة القديمة وبنت مكانها أروقة للطلبة الغرباء ثم توالت على الجامع بعد ذلك إصلاحات أخرى.


الأزهر كمؤسسة

لم يكن الأزهر كمسجد أو معهد علمي أول مؤسسة من نوعها في العالم الإسلامي صحيح أن الأزهر تطور وأصبح جامعة عظمى فسبق غيره في مضمار الرقي، وبارك الله فيه فطال أمده وتخطى الألف الأولى من عمره المديد ولكن مع هذا – كانت هناك معاهد ومؤسسات في العالم الإسلامي سبقت الأزهر، ومهدت له الطريق، وتلقى الأزهر منها بعض التراث فحافظ عليه وحفظه من كل تحريف أو تشويش.

ومن هنا يجدر بنا أن نلم إلمامة سريعة بالحركات العلمية بالعالم الإسلامي قبل الأزهر ثم الحركات العلمية بمصر قبل الأزهر أيضا.

أولا : الحركات العلمية بالعالم الإسلامي قبل الأزهر :

الإقبال على العلم طابع المسلمين منذ عصورهم الأولى، فقد تميز الشعب الإسلامي بحرصه البالغ على طلب العلم، واستمر معه ذلك الحرص خلال تاريخه الطويل، وكان الطالب المسلم قوي العزيمة والإرادة ذلل كل الصعوبات التي اعترضته، ولم يكترث بالشوك. ولم يبال بالمخاطر وكان ذلك استجابة للآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة التي تحث على العلم وترفع قدره.

هذا من جهة الطلاب. أما المعلمون فقد كان الرسول قدوتهم. وكان العلم الأول بطبيعة الحال. فقد جلس منذ العهد البكر للإسلام يقرأ القرآن لأتباعه في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويشرح للمسلمين نظم الدين الجديد وأفكاره ولما بدأ الإسلام ينتشر في المدينة قبل الهجرة أرسل الرسول إليها مصعب بن عمير ليقرئ المسلمين القرآن، ويعلمهم الإسلام ويؤمهم في الصلاة. وكذلك فعل الرسول في كل مدن الجزيرة العربية عندما كان الإسلام ينتشر بها.

ولما اتسعت رقعة الإسلام انتقل بعض صحابة الرسول وتلاميذه إلى الأمصار الجديدة، وتحلق حولهم الطلاب، وكان عمر يرسل الفقهاء والقراء مع الجيوش ليبقوا بالبلاد المفتوحة بعد فتحها، حيث يدعون للإسلام، ويعلمون أحكامه، وقد أنشأ هؤلاء في كل مصر نزلوا به حركة علمية، وكونوا مدارس وكان لهم تلاميذ ينقلون عنهم.

وكانت حلقات العلم تعقد في المساجد والمكتبات ومنازل العلماء، وفي قصور الأثرياء والأمراء عندما ظهرت القصور عقب اتساع الفتوحات على أن المساجد كانت أهم المراكز الثقافية مما أدى ذلك إلى أن ارتبط تاريخ التربية الإسلامية بالمسجد ارتباطا وثيقا، ولعل السبب في جعل المسجد مركزا ثقافيا هو أن الدراسات في سنوات الإسلام الأولى كانت دراسات دينية، تشرح تعاليم الدين الجديد، وتوضح أسسه وأحكامه وأهدافه، وهذه تتصل بالمسجد، فاتخذوه مكانا للعبادة، ومعهدا للتعليم، ودارا للقضاء وساحة تتجمع فيها الجيوش. ومنزلا لاستقبال السفراء، وقد بكر المسلمون لهذا في إنشاء المسجد، ففي طريق الرسول إلى المدينة بني أول مسجد في الإسلام في قباء. ثم بنى مسجده بالمدينة عقب وصوله إليها ونزلت الآية الكريمة “لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه. فيه رجال يحبون أن يتطهروا”. وكانت حلقات العلم تعقد في مسجد قباء. كما كان من عادة الرسول r أن يجلس في مسجده بالمدينة ليعلم أصحابه تعاليم دينهم وأمور دنياهم. وكثرت بعد ذلك المساجد في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وفي أكثرها كانت حلقات العلم تعقد، والدروس تلقى.

ففي مسجد المنصور ببغداد جلس خيرة العلماء يلقون دروسهم، وفي جامع دمشق كانت توجد مدرسة للشافعية، ومقصورة الأحناف، وعدة زوايا أخرى يتخذها الطلبة للنسخ والدرس بعيدا عن زحام المصلين.

أما العلوم التي كانت تدرس فقد بدأت كما يقول ابن خلدون: بالعلوم الشرعية وهي التي تسمى “العلوم الفعلية” وهذه تشمل ما يتصل بالكتاب والسنة والأحكام الشرعية، ثم أضيفت طائفة من العلوم تهيئ للإفادة من العلوم الشرعية كعلوم اللسان العربي، فلم يكن بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه وهذا هو علم التفسير، ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي r الذي جاء به من عند الله، واختلاف روايات القراء في قراءته وهذا هو علم القراءات، ثم بإسناد السنة إلى صاحبها والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم، وهذه هي علوم الأحاديث ثم علم أصول الفقه والعقائد وعلم اللغة وعلم البيان وعلم الأدب. وظل هذا هو منهاج الدراسة في صدر الإسلام، وفي عصر بني أمية، إلا ما عرف من نبذ بسيطة عن الدراسات العقلية التي تنسب إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ومحمد الباقر.

ويبدو أن دور الأمويين كان التوسع، وجاء دور العباسيين الذي امتاز بنشر المدنية الفكرية في هذا العالم الفسيح الذي ورثوه عن الأمويين. ولهذا برزت في العصر العباسي اتجاهات ثلاثة تصور النهضة الثقافية في هذا العصر، وهذه الاتجاهات هي:

1- حركة التصنيف :

ومن أشهر مصنفي العصر العباسي الأول الإمام مالك الذي ألف الموطأ، وابن إسحق الذي كتب السيرة.

2- تنظيم العلوم الإسلامية :

بناء على ذلك فقد استقل علم التفسير بعد أن كان تابعا لعلم الحديث، وعاش في العصر العباسي الأول أئمة المذاهب الأربعة، وظهرت طريقة أهل الرأي وطريقة أهل الحديث وظهرت دراسات في التشريع والإدارة مثل كتاب الخراج لأبي يوسف صاحب الإمام أبي ضيفة، هذا بالإضافة إلى علوم اللسان العربي وظهور مدرستي البصرة والكوفة في البحث والتحقيق.

3- الترجمة من اللغات الأجنبية :

بدأت الترجمة بكتاب “كليلة ودمنة” وترجمه عبد الله بن المقفع، ثم جاء فيض الترجمة الواسع الذي اشترك فيه بختيشوع وتلميذه جبريل، والحجاج بن يوسف بن مطر وحنين بن إسحق وغيرهم.

وقد شملت الترجة مختلف المعارف في الطب والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها وأنشأ هارون الرشيد بيت الحكمة ليرعى هذه النهضة، واهتم بها المأمون فبنى بها مرصدا وزودها بالكتب وعين بها هيئة للترجمة.

وقد امتدح المستشرقون هذه الجهود العلمية، وما أدته للعالم من خدمات سواء بحفظ تراث الأقدمين، أو بما أضافه المسلمون على الكتب المترجمة من تعليقات وشروح، أو بما ابتكره المسلمون في ميادين العلم بعد أن دخلوا هذا المضمار.

ثانيا : الحركات العلمية بمصر قبل الأزهر :

كان الجيش الذي فتح به عمرو بن العاص مصر يضم – ككل الجيوش الإسلامية مجموعة من العلماء والفقهاء، وقد حط هؤلاء رحالهم بمصر عقب الفتح. وأغراهم ما وجدوه في مصر من ثراء وجمال فاستوطنوها، وتلا هؤلاء أفواج من العلماء والدارسين، وفي قمة هؤلاء الصحابيان عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو أمية عبيد بن محمد المغافري.

ويعد عبد الله بن عمرو بن العاص مؤسس المدرسة المصرية. وكان من أكثر الناس حديثا عن رسول الله r، كما كان يدون ما يسمع منه حتى أصبحت عنده مجموعة من الأحاديث رواها عن النبي مباشرة، وكان المغافري أول من قرأ القرآن الكريم بمصر.

ومن الذين اشتهروا في مدرسة مصر بعد الصحابة يزيد بن أبي حبيب، وجعفر بن ربيعة، وعبد الله جعفر،ومن تلاميذ يزيد بن حبيب عبد الله بن لهيعة، والليث بن سعد. وقد اتخذت الحركة العلمية في مصر المسجد الجامع ومسجد ابن طولون مركزين لنشاطها.

والمسجد الجامع ويسمى المسجد العتيق بناه عمرو بن العاص مع مدينة الفسطاط عام 21هـ.

وسرعان ما جلس به المعلمون وحولهم الطلاب. فكان منذ إنشائه قلب الفسطاط الفكري وأهم مركز للدراسة، وقد لبثت ساحته مدى عصور ندوة فكرية أدبية جامعة، وفيها كانت توجه حركة التفكير والآداب في مصر الإسلامية.

ففي عهد مبكر جدا جلس فيه سليمان بن عتر التجيبي ليعظ الناس عن طريق القصص، وكان قد جمع بين عملين هما القضاء والقصص. ثم عزل عن القضاء وظل بالقصص، وقد بدأ عمله في عام 38هـ، ثم ازدهرت الحركة العلمية بهذا المسجد. وتعددت حلقات العلم حتى زادت عن أربعين حلقة.

ومن أشهر الحلقات التي عقدت بالمسجد الجامع حلقة الإمام الشافعي التي كانت مدرسة تخرج فيها معظم الشيوخ والعلماء مثل: الربيع بن سليمان المأذني والبويطي والأزدي، وقد ظلت “زاوية الإمام الشافعي” عدة قرون بعده تحمل اسمه، ويجلس للتعليم بها جلة الفقهاء وأعيان العلماء ومن العلماء الذين عملوا بالمسجد الجامع محمد بن جرير الطبري الذي وفد إلى مصر عدة مرات في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، ولما ظهر فضله في دراسات مختلفة وبخاصة في علوم اللغة والشعر طلب منه أبو الحسن بن سراج أن يملي شعره “الطوماح” فاستجاب لذلك وجلس بجامع عمرو لإملائه.

أما جامع ابن طولون فقد فرغ من بنائه سنة 265هـ، وسرعان ما جلس به الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي ليملي الحديث، وازدحمت به بعد ذلك الحلقات العلمية وكثر به المعلمون وطلاب العلم، وقد عني به أحمد بن طولون عناية كبيرة وأصبح المركز الثقافي لمدينة القطائع وكانت تلقى به دروس التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة وغيرها من الدروس.

1- الأزهر مؤسسة تعليمية

بدأ الأزهر كمؤسسة تعليمية – عبر هذه القرون العشرة – في أواخر عهد المعز لدين الله الفاطمي. حيث جلس قاضي القضاة أبوالحسن علي بن النعمان في شهر صفر سنة 365هـ بهذا الجامع، وقرأ مختصر أبيه في فقه آل البيت، وهي المسمى بكتاب “الاختصار” في جمع حافل، وأثبت أسماء الحاضرين فكانت هذه أول حلقة للدراسة والتعليم بالأزهر، وبدأ الأزهر بذلك صفحة جديدة وتاريخا طويلا لم يتح لسواه من المؤسسات العلمية في العالم.

وأصبح الأزهر – منذ ذلك العهد البعيد – شعلة نور غالبت ظلام الجهل وقاومته، وغدا مركز الإشعاع الذي انتشر منه الضوء على العالم الإسلامي كله.

وتوالت بعد ذلك الحلقات العلمية التي عقدها بنو النعمان في الأزهر، وبجانب بني النعمان اتخذ يعقوب بن كلس – وزير المعز لدين الله وابنه العزيز – مكانا في الأزهر معلما ورائدا، وقرأ على الناس كتابا ألفه في الفقه الشيعي على مذهب الإسماعيلية يتضمن ما سمعه من المعز لدين الله ومن ابنه العزيز. ولم تكن دروس الفقه هي كل ما أسهم به الأزهر في أداء رسالته، بل كانت دروس الحكمة تعقد أيضا بالأزهر وبجانب تلك الدروس كان الأزهر مركز الكثير من المواكب والحفلات الرسمية للفاطميين.

أما فكرة الدراسة بالأزهر فقد كانت حدثا عارضا ترتب على فكرة الدعوة المذهبية للدولة الفاطمية – ولم يكن في حسبان آل البيت أن الأزهر ذلك النبت الصغير وتلك الفكرة العارضة سوف تكبر مع الأيام وتؤتي ثمارها بإذن ربها وتتطور مع الزمان ويغدو منار العلم والدين وموئل الدارسين على مدى ألف عام ويزيد – وغلب هذا الحدث العارض شيئا فشيئا على صفته الأولى حتى أسبغ عليه ثوبه الجامعي الخالد. وبدأت الدراسة به 365هـ/975م في أواخر عهد المعز لدين الله، حيث جلس قاضي القضاة أبو الحسن علي ابن النعمان بالجامع الأزهر وقرأ مختصر أبيه في فقه الشيعة.

ومن هنا كانت بداية تلك الرحلة الطويلة الألفية للأزهر. ويعتبر الوزير يعقوب بن كلس أول من فكر في اتخاذ الجامع الأزهر معهدا للدراسة المنظمة المستقرة، وقد استأذن ابن كلس الخليفة العزيز بالله سنة 378هـ/988م في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس يعقدون مجالسهم في الأزهر في كل جمعة بعد الصلاة حتى العصر، وكان عددهم سبعة وثلاثين، ورئيسهم ومنظم حلقتهم أبو يعقوب، ورتب لهم أرزاقا وجرايات شهرية حسنة، وأنشأ لهم دارا للسكنى بجوار الأزهر.

وعلى ذلك نستطيع أن نقول بأن الأزهر اكتسب صفته العلمية الحقيقية كمعهد للدراسة وأنه بدأ حياته الجامعية الحافلة منذ أوائل العصر الفاطمي.


منافس جديد

وما كادت حلقات الدراسة تنتظم بالأزهر حتى ظهر منافس شديد الوطأة. ألا وهي دار الحكمة التي أنشأها الخليفة الحاكم. على أن كلا من المعهدين كانت له رسالة خاصة، فبينما كان الأزهر مركزا للثقافة الدينية المحضة إذا بدار الحكمة تقوم – بجانب مهمتها في نشر المذهب الشيعي – بتدريس علوم اللغة والطب والرياضة والمنطق والفلسفة وما إليها.

وإلى جانب المكانة العلمية التي كان يتمتع بها الأزهر، كانت له فوق ذلك أهمية رسمية خاصة. ففيه كان جلوس قاضي القضاة في أيام معينة، وفيه كان مركز المحتسب العام، كما كان يعقد فيه أيضا كثير من المجالس الخلافية والقضائية، على أن قطع خطبة الجمعة من الجامع الأزهر في العصر الأيوبي لم يبطل صفته الجامعية بل ظل محتفظا بصفته كمعهد للدراسة والقراءة، ومع أنه لم يكن يحظى في ذلك العصر بكثير من هيئته العلمية القديمة فقد كان مقصد علماء بارزين مثل: عبد اللطيف البغدادي الذي وفد على مصر في عام 589هـ وتولى التدريس بالأزهر، وفي العهد الأيوبي أنشأ صلاح الدين في سنة 566هـ المدرسة الناصرية بجوار مسجد عمرو بن العاص لتدريس الفقه الشافعي، ثم أنشأ قريبا منها مدرسة أخرى لتدريس الفقه المالكي. وتولى التدريس فيها فيما بعد الفيلسوف ابن خلدون ثم توالى إنشاء المدارس في مصر والقاهرة على أيدي السلاطين والأمراء وكثر عددها في القرنين السابع والثامن الهجريين كثرة ظاهرة. وقد كان لقيام هذه المدارس وكثرتها خلال القرنين السابع والثامن – أثر كبير في سير الدراسة بالأزهر، فقد نافسته منافسة شديدة واجتذبت إليها الطلاب من كل صوب، كما اجتذبت إليها أيضا أعلام الأساتذة وكانت تمتاز على الأزهر بجدتها ووفرة أوقاتها واستئثارها برعاية السلاطين والكبراء. ومن ثم كان الأزهر في هذه الفترة يمر بحالة ركود. إلا أنه كان يضم من الطلاب دائما العدد الجم نظرا لاتساع مجال الدراسة فيه وتنوعها. حيث كان مفتوحا للطلاب من كل مذهب. وتدرس به سائر العلوم الدينية والعربية، وهذا لم يكن ميسورا أو متاحا في هذه المدارس ومن جهة أخرى كان الأزهر مقصد الطلاب الغرباء من كل صوب. وكان يقطن في أروقته عدد كبير منهم.

ازدهار الحركة العلمية

بلغت الحركة العلمية والأدبية في مصر الإسلامية ذروتها من التقدم والازدهار في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع الذي حفل على الأخص بعدد كبير من الأساتذة البارزين في سائر العلوم والفنون وساهم الأزهر – إلى جانب المدارس الأخرى – بنصيب كبير في إعداد هذه الحركة وفي تخريج العدد الجم منها. وقد غدا الأزهر منذ أواخر القرن السابع – أي منذ غدت معاهد بغداد وقرطبة – كعبة الأساتذة والطلاب من كل أنحاء العالم الإسلامي.

ومنذ القرن الثامن الهجري تبوأ الأزهر في مصر والعالم العربي والإسلامي نوعا من الزعامة الفكرية والثقافية، حيث كان يتمتع في ظل دولة المماليك برعاية خاصة وكان الأكابر من علمائه يتمتعون بالجاه والنفوذ ويشغلون وظائف القضاء العليا ويستأثرون بمراكز التوجيه والإرشاد وكان هذا النفوذ يصل أحيانا إلى التأثير في سياسة الدولة العليا، وأحيانا في مصائر العرش والسلطان وتعتبر هذه الفترة في الواقع هي عصر الأزهر الذهبي من حيث الإنتاج العلمي الممتاز، ومن حيث تبوأه مركز الزعامة والنفوذ.

احن ومحن

في أواخر القرن التاسع أخذت الحركة الأدبية في مصر في التدهور والاضمحلال. واضطربت أحوال المدارس المصرية، وتضاءلت مواردها وأصاب الأزهر ما أصاب المعاهد الأخرى من الذبول والركود، ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى وقعت مصر تحت الاحتلال العثماني سنة 921هـ/1517م.

وأصاب الأزهر ما أصاب الحركة الفكرية كلها من انحلال وتدهور، واختفى من حلقاته كثير من العلوم التي كانت زاهرة من قبل.

على أن الأزهر – رغم هذه المحنة – استطاع أن يستبقي شيئا من مكانته، وأن يؤثر بماضيه التالد وهيبته القديمة في نفوس الغزاة أنفسهم. فنجد الفاتح التركي يتبرك بالصلاة به غير مرة، ونجد الغزاة يبتعدون عن كل ما يضر به، ويحلونه مكانة خاصة، ويحاولون استغلال نفوذ علمائه كلما حدث إضراب أو ثورة داخلية.

وفي خلال ذلك يغدو الأزهر ملاذا أخيرا لعلوم الدين والفقه واللغة، وغدا بنوع خاص معقلا حصينا للغة العربية. واحتفظ في أروقته بكثير من قوتها وحيويتها. ودرأ عنها عادية التدهور النهائي ومكنها من مغالبة لغة الفاتحين ومقاومتها. وردها عن التغلغل في المجتمع المصري.

شمعة في الظلام

وهكذا استطاع الأزهر في تلك الأحقاب المظلمة أن يسدي إلى اللغة العربية أجل الخدمات وظلت مصر خلال العصر التركي ملاذ طلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية من سائر أنحاء العالم العربي الإسلامي، واستطاعت لحسن الطالع بفضل الأزهر أن تحمي هذا التراث نحو ثلاثة قرون حتى انقضى العصر العثماني بظلماته ومحنه، وقيض لها أن تبدأ منذ أوائل القرن التاسع عشر حياة جديدة يمازجها الفوز والأمل، وربما كانت هذه المهمة السامية التي ألقى القدر زمامها إلى الأزهر – في تلك الأوقات العصيبة في حياة الأمة المصرية والعالم الإسلامي بأسره – هي أعظم ما أدى الأزهر من رسالته وأعظم ما وفق لإسدائه لعلوم الدين واللغة خلال تاريخه الطويل الحافل.

2- الأزهر مؤسسة ثقافية

لم يكن دور الأزهر الثقافي مقصورا على العلوم الدينية واللغوية كما يظن الكثيرون فإن الإسلام لا يفرق بين المعارف والعلوم بل يدعو إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض. ويهتف في أسماع أتباعه أن الله خلق لكم ما في الأرض جميعا، وأنه سخر لكم “الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار…” وأنه “سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها” وأنه “جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه” “وهو الذي جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا”، “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله” . فالإسلام يجمع بين الدنيا والدين وبين الأرض والسماء، وكذلك بين المطالب المادية والروحية. ويقرر أن طلب العلم على إطلاقه فريضة على كل مسلم ومسلمة، ويؤكد أن السعي في سبيل الرزق من أقرب العبادات إلى الله.

ولهذا كان علماء المسلمين في عصر ازدهار الإسلام يدرسون جميع أبواب أنواع العلوم والفنون وكان منهم الفقيه والطبيب والفلكي والمهندس والعالم الطبيعي والكيمائي والجغرافي والمؤرخ والرحالة والرياضي، وظل الأزهر يحرص على دراسة هذه العلوم حتى في أشد عهود التدهور والجمود، وإن كان هذا في نطاق يضيق ويتسع حينا لتأخر الثقافة وانتشار وسيطرة التقاليد، أو تبعا لازدهار المدنية وتقدم العمران.

والواقع أن من يتتبع تاريخ الأزهر يجد أنه قد أسهم في جميع المعارف والعلوم بالدرس والبحث والتأليف. فقد كانت الدراسة بالأزهر في عهد الفاطميين تغلب عليها الصبغة الدينية واللغوية، ولكن كان إلى جوارها دروس عديدة في المنطق والحساب والهندسة والجبر والفلك وهكذا في معظم العصور.

3- الأزهر مؤسسة حضارية

الأزهر واجهة مصر الحضارية

إذا كانت مصر قد وضعتها الأقدار في هذا الموقع الخطير على خريطة العالم. حيث تقع مركز اتصال بين آسيا وأفريقيا ترسل من أشعتها هنا وهناك، فإن الأزهر قد أدى في هذا المكان دورا رائعا عظيم الأثر في الفكر الإسلامي على وجه الخصوص والفكر العالمي بصفة عامة. حيث وقف الأزهر – كمؤسسة حضارية في الداخل والخارج وعلى امتداد أكثر من ألف عام يستقبل طلاب الدول العربية والإسلامية ويزودهم بالعلوم والمعارف والثقافة الرفيعة، ثم يعود إلى بلادهم سفراء العلم والحضارة يبلغون دعوة الإسلام على أصولها كما تعلموها ودرسوها. ويصبحون همزة الاتصال والوصال بين مصر وأزهرها وبلادها.

ظل الأزهر يرسل دعاته وأفكاره في كل اتجاه بنشر العلم والمعرفة، ويدعو إلى كلمة التوحيد، بينما كانت الدنيا تقفر من حوله أحيانا، ودور الثقافة تدمر وتحرق الكتب. يقف أزهر مصر وحده، يصارع الحوادث ويناضل الأحداث، ويتصدى لدعاة الباطل، حتى يعيد للشعلة ضوءها الوهاج، وللمعرفة مكانها المرموق، ومن ثم غدا الأزهر بحق ممثلا للفكر الإسلامي ولتاريخ المسلمين.

وهو الجامعة الإسلامية الأولى التي فتحت أبوابها على أوسع نطاق لتتلقى الطلاب من كل فج ولتقدم لهم كل ما تستطيع من عون ورعاية، فتعنى كل العناية بهؤلاء الطلاب الوافدين من شتى الأقطار العربية والإسلامية. كما يقوم الأزهر بإيفاد كثير من خريجيه للخارج للقيام بالدعوة الإسلامية ونشر الثقافة العربية في ربوع العالم الإسلامي ولم يكن الأزهر معهدا علميا فحسب بل كان مؤسسة حضارية. إذ أنه كان مصدر إشعاع فكري وثقافي ومبعث حضارة مادية وروحية، وقلعة حصينة للعروبة والإسلام وكان علماؤه الأعلام مثل الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والشيخ الشرقاوي، وسعد زغلول وأحمد عرابي رجال فكر وقواد ثورة وزعماء إصلاح، وبهذا استطاعوا أن يحملوا أمانة الرسالة وأن يكونوا ورثة الأنبياء.

ونشير بإيجاز إلى بعض الشخصيات الأزهرية التي تولت مناصب قيادية في مصر والخارج .

في الخارج :

1- السيد/محمد صديق خان بن حسن البخاري أمير بهربال، درس بالأزهر وكان منتسبا لرواق البخارية، ثم عاد إلى امارته فأصلح شئونها، وأقام فيها المعاهد العلمية والمجالس الثقافية وتزوج ملكة بهوبال وحكم المملكة واشتغل بالتأليف والدراسة وترك أكثر من سبعين كتابا وتوفي في عام 1307هـ.

2- الأمير محمد بن علي الإدريسي مؤسس دولة الأدارسة في (صبيا وعسير) باليمن. تعلم في الأزهر، ثم عاد إلى اليمن واستولى على إقليم صبيا، واستولى على الحديدة وتوفي في عام 1311هـ.

3- الشيخ محمد بن عبد الله حسن الشهير بالملاء الصومالي، ولما عاد للصومال عمل على توحيد القبائل الصومالية، وفي سنة 1897م نزلت البعثات التبشيرية إلى الصومال. فقاد الكفاح ضد الاستعماريين الإنجليز والإبطال ونال انتصارات عظيمة، وظل يناضل حتى مات في عام 1921م، ولم يشغله الكفاح عن التأليف. وأصدر عدة رسائل علمية كان أشهرها (مباحث المنافقين) وسجل فيها كيف تعاون الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون والقبائل المرتدة ضده.

4- المجاهد الكبير السيد عبد القيوم الرئيس الحالي لجمهورية (جزر مالديف) الواقعة جنوب غربي جزيرة سيلان (سيري لانكا) بالمحيط الهندي.

5- الزعيم الجزائري هواري بومدين الذي درس في الأزهر وقاد الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي حتى تحررت بلاده وتولى رئاسة الجمهورية.

في مصر :

1- الزعيم أحمد عرابي :

تلقى تعليمه الأزهري ثم التحق بالجيش، وقاد ثورة كبرى ما زال صداها يرن في أذن التاريخ، وكانت مقدمة للثورات الكبرى في المنطقة.

2- الزعيم الوطني سعد زغلول :

درس أيضا في الأزهر، وتأثر بفكر الإمامين الجليلين جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده وكان قائد ثورة 1919م، وخطيبها المفوه، ووصل إلى رئاسة الوزراء، وأسس (حزب الوفد) .

4- الأزهر والتوعية القومية

مما لا شك فيه أن الأزهر كمدرسة قديمة تأسست على خير الأصول والقواعد ظلت محتفظة بشخصيتها وتقاليدها رغم اختلاف عوامل المناخ السياسي بيسرها وعسرها. فقد حمل لواء التوعية القومية لا في مصر فحسب بل في جميع الشعوب الإسلامية. وخير دليل على ذلك تواجد جمال الدين الأفغاني بمصر والتفاف طلبة الأزهر حوله حيث قام الأزهر بدور التوعية القومية والوعي الفكري بين الناس وبين لهم معنى الحرية والاستقلال والاعتماد على الذات وتأكيد الشخصية الوطنية ودعم الهوية السياسية لدى الشعوب وعدم الاستسلام لقيود المستعمرين والوقوف في وجه الدخلاء الذين يريدون احتكار الشعوب واستغلال ثرواتها وإضعاف مقوماتها وتفتيت شخصيتها. لأن من لا يملك حريته لا يملك استقلاله. والشعوب الأصيلة لا تستسلم بل تظل تكافح حتى تحصل على حريتها واستقلالها.

الأزهر وسيلة إعلامية

لقد سبق الأزهر – وعلى امتداد ألف عام – وسائل الإعلام الحديث وحمل لواءها وبثها بين كل المجتمعات من الصين حتى المغرب ومن مجاهل أفريقيا حتى أوروبا. وكان علماؤه ومبعوثوه هم رجال الإعلام في كل زمان ومكان وطبقوا تكنولوجيا الإعلام الحديثة بالاتصال والحوار بين الناس والبث المباشر بلغة العصر.

كما حمل الأزهر أيضا لواء الدعوة إلى القومية العربية وبعثها في الشعوب العربية وانطلقت كالمارد العملاق في وجه الاستعمار حتى حصلت هذه الشعوب على استقلالها ونتيجة لدور الأزهر في التوعية القومية قام رجاله بزعامة الشيخ الشرقاوي بالثورة في وجه نابليون واستجابت جميع طوائف الشعب لتلك الثورة والتصدي لها. وتأصل ذلك الوعي أيضا في ثورة الشعب ضد حملة فريزر في عام 1807. وقيام ثورة عرابي في عام 1882. وثورة سعد زغلول في عام 1919. وتكوين الجمعيات التي تنادي بالاستقلال كجمعية مصر الفتاة وقيام الشباب المصري بالأعمال الفدائية ضد الإنجليز في منطقة القنال في عام 1951 ثم قيام ثورة يوليو 1952 وخروج الإنجليز من مصر عام 1956.

لقد كان لهذا الدور الكبير الذي قام به الأزهر في حمل راية التوعية القومية خير ثمار في مصر والشعوب الإسلامية حتى أن الاستعمار كان لا يخشى الحكام بقدر ما يخشى الأزهر ويتهيبه لما له من تأثير في النفوس ورمز الإسلام وشخصية المسلمين في الداخل والخارج.

وهو الذي تخرجت فيه شخصيات عظيمة وصلت إلى الحكم في بلادها مثل الزعيم هواري بومدين في الجزائر. والمجاهد الكبير السيد عبد القيوم رئيس جمهورية (مالديف) بالمحيط الهندي. والأمير محمد بن علي الإدريسي مؤسس دولة الأدارسة في اليمن.

لقد كان هناك علماء أجلاء ورسل دعوة وإعلام بين الناس مثل العالم الفاضل ابن دقيق العيد في عصر المماليك والإمام محيي الدين النووي. والعالم المجاهد العز بن عبد السلام الذي كان معاصرا للظاهر بيبرس. فقد كان السلطان يخشاه لدرجة أنه قال عندما رأى جنازته تمر عبر القلعة (اليوم قد استقر فإن هذا الشيخ لو قال للناس اخرجوا عليه لانتزع مني الملك. والعالم الفاضل جلال الدين السيوطي والمؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي وغير هؤلاء ممن كان له أثر كبير في حمل لواء الدعوة والتوعية القومية ورسالة الإعلام بين الناس.

الفصل الثالث

1- دور الأزهر الروحي

للأزهر أدوار روحية خالدة، قاوم فيها شتى تيارات الإلحاد والانحرافات والمذاهب الهدامة والحملات التبشيرية ودعاة الفوضى والانحلال، وتصدى للإرهاب الفكري والمستشرقين المنحرفين وأدعياء المذاهب الهدامة. واستطاع أن يحفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره، كما حمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب، وقام بدور كبير في نشر لغة القرآن ومبادئ الإسلام في كثير من الأمصار. ويعمل على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشر ورقي الحضارة وكفالة الأمن والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا والآخرة ويحاول دائما تأكيد وتأصيل المبادئ والقيم الروحية.

ولهذا كان الأزهر مقصد طلاب العلوم العربية والثقافات الإسلامية في شتى أنحاء العالم كما كان مصدر الدعوة إلى مختلف الأمم والشعوب، وهو الآن ملتقى آلاف الطلاب من أنحاء العالم، كما أنه مصدر مئات العلماء إلى مختلف القارات.

وطالما كان الأزهر ملاذا لعامة الشعب يهرعون إليه في الأزمات ملتمسين من علمائه الإرشاد والتوجيه ملقين إليهم بالقيادة الرشيدة الحكيمة فيجدون لديهم وعندهم تفريج الكربات وحل الأزمات ومواطن الأمان وسكينة النفس وراحة القلب. وكان منطقة أمن للشعب يلتمس فيه الهداية، ويفزع إليه المظلوم. ومأوى الفقراء والحجاج ورجال التصوف وغيرهم. وكثيرا ما كان علماء الأزهر يقفون في وجه الطغاة المستبدين من الحكام وكان عامة الشعب إذا وقع عليهم حيف أو دهمهم اغتصاب هرعوا جماعات إلى الجامع الأزهر في هتاف وصياح وخلفهم النساء والصبيان، ثم تصعد جماعة منهم إلى مآذنه مستصرخين الناس، فيفض العلماء حلقات الدراسة، ويغلقون أبواب الأزهر ويستمعون إلى شكاوى المستغيثين ثم يؤلفون وفدا منهم لمقابلة الحكام المستبدين وإنذارهم بالثورة المدمرة. فلايلبث هؤلاء أن يتراجعوا صاغرين نادمين.

كما أن علماء الأزهر يلفتون نظر الحكام وينبهونهم إلى أن طاعة الحاكم واجبة، إذا لم يخالف الشرع، وأن قاعدة الحكومة الإسلامية أنه “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” وفي أحد المواقف صب الشيخ علي الصعيدي غضبه على الأمير يوسف بك الكبير في وجهه، ولعن من باعه. ومن اشتراه، ومن جعله أميرا، فاسترضاه الأمير ونزل على مشورته، وأخذ بآرائه. وقد ذكر الجبرتي مواقف رائعة للأزهر، نكتفي بذكر بعضها.

ذكر الجبرتي في تاريخه أن الحاكم حسين بك المعروف بـ”شفت” كان رجلا طاغية جبارا يصادر أموال الرعية ويتهجم على البيوت، وأنه ذهب بجنوده إلى بيت أحمد سالم الجزار شيخ دراويش البيومي فنهب ما فيه حتى الفراش وحلي النساء فحضر أهل الحسينية إلى الجامع الأزهر ومعهم الطبول والتف حولهم العامة، وبأيديهم العصي وتفرقوا في أنحاء الأزهر وأغلقوا أبوابه، وصعد بعضهم إلى مآذنه يصيحون ويضربون الطبول وانتشر فريق منهم في الأسواق القريبة من الأزهر في حالة منكرة ثم قابلوا الشيخ الدردير. فذكروا له ما حدث فغضب لحرمات الله وقال لهم: في غد نجمع أهل الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوت المماليك كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم، فارتاع المماليك وأوفدوا رسلهم إلى الشيخ الدردير نادمين طالبين إليه أن يرسل قائمة بما نهبه حسين بك وجنوده ليردوه إليه وفعلا ردوا إليه جميع ما اغتصبوه.

وكان الشيخ الدردير شجاعا مقداما لا يخشى في الحق لومة لائم. حدث يوما وهو في مولد السيد البدوي أن صادر أحد الحكام أموال بعض الرعية، فطلب من بعض أتباعه أن يذهبوا إلى هذا الحاكم ليطلبوا إليه رد الأموال المغصوبة، ولكنهم خشوا أن يذهبوا إليه فركب الشيخ بنفسه وتبعه كثير من العامة حتى دخل خيمة هذا الحاكم وهو راكب بغلته، وأغلظ له القول فاضطر إلى إرضائه وإرجاع ما اغتصبه من أموال.

وفي سنة 1209هـ (1795م) حدث عدوان من أمراء المماليك على بعض فلاحي مدينة بلبيس، فحضر وفد منهم إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي فغضب وتوجه إلى الأزهر، فجمع شيوخه وأغلقوا أبوابه وأمروا الناس بترك الأسواق والمتاجر وركب الشيخ في اليوم التالي وتبعهم كثير من الناس إلى بيت الشيخ محمد السادات واحتشدت جموع عديدة من الشعب، فأرسل إليهم الأمراء وحدهم، وهو أيوب بك الدفتردار. فسألهم عن أمرهم. فقالوا: نريد العدل ورفع الظلم الجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات أي الضرائب.

وخشى إبراهيم بك زعيم الأمراء مغبة الثورة. فأرسل إلى العلماء – وكانوا يقضون ليلتهم داخل الأزهر – قائلا لهم: إنه يؤيدهم في غضبهم ويبرئ نفسه من تبعة الظلم، ويلقيها على كاهل شريكه مراد بك، وأرسل في الوقت نفسه إلى مراد يحذره عاقبة الثورة واستسلم مراد بك، ورد ما اغتصبه من أموال، وأرضى نفوس المظلومين.

ولكن العلماء لم يقتنعوا بهذا، بل أصروا على وضع نظام يمنع الظلم ويرد العدوان فاجتمع الأمراء وأرسلوا إلى العلماء فحضر منهم الشيخ السادات والسيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير، وكان هؤلاء رسل الثورة وقوادها، وطال الجدل بين الشيوخ والأمراء ثم انتهى بأن أعلن الظالمون أنهم تابوا والتزموا ما اشترطه عليهم العلماء، وأعلنوا أنهم سيبطلون المظالم والضرائب المحدثة، ويأمرون أتباعهم بالكف عن سلب أموال الناس، ويرسلون أوقاف الحرمين الشريفين والعوائد المقررة إليهما. ويسيرون في الناس سيرة حسنة وكان قاضي القضاة حاضرا هذا المجلس فكتب على الأمراء وثيقة أمضاها الوالي العثماني وإبراهيم بك مراد شيخا البلد، وانصرف العلماء من هذا المجلس وسط جموع الشعب التي أعلنت بهجتها بهذه الوثيقة الخالدة التي هي وثيقة الشبه بوثيقة حقوق الإنسان ومن علم الأزهر شع نور الإسلام في بلاد كثيرة من أفريقيا ومن آسيا وزاد عدد المسلمين عشرات الملايين. وكانت بعوث الأمم المختلفة إلى الأزهر سببا لتوثيق علاقاتنا ببلاد وشعوب كثيرة منذ أقدم العصور إلى اليوم.

وقد اكتسب الأزهر بذلك قدسية واحتراما من الجميع، وصار رأيه هو الرأي في كل ما يتعلق بالعقيدة والشريعة. وأصبح هو الجامعة الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب. لا يطلب أحد علوم الإسلام إلا عن طريق الأزهر، ولا تتجه قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا إليه، حيث يفد إليه أولادهم للتزود منه بالعلوم والمعارف فهو كعبة العلم وقبلة المسلمين.

2- دور الأزهر التاريخي

قام الأزهر بدور كبير في إذكاء الحركة في مصر في العصور الحديثة، وقد تجلت عامته الشعبية والعلنية بأروع مظاهرها أيام الاحتلال الفرنسي لمصر (1798-1801م) حيث تولى شيوخ وطلابه قيادة المقاومة الشعبية وتنظيمها، وكان الأزهر على رأس كل ثورة وطنية اضطرمت بها القاهرة ضد المحتلين، وقد احتمل الأزهر خلال تلك الحوادث أعظم التضحيات فضرب بالقنابل وانتهكت حرمته، واحتلت ساحاته وأروقته، وأعدم عدد من شيوخه وطلابه، ثم انتهى الأمر بإغلاقه وتشريد علمائه وطلابه.


نابليون والقاهرة

بعد أن دخل نابليون بونابرت القاهرة في 25 يوليو عام 1798م استدعى العلماء والمشايخ لمقابلته، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر ، واستقر الرأي على تأليف ديوان يشرف على حكم القاهرة وتدبير شئونها من عشرة أعضاء من علماء الأزهر وهم: الشيخ عبد الله الشرقاوي، وخليل البكري، ومصطفى الصاوي، وسليمان الفيومي، ومحمد املهدي الكبير، وموسى السرسي،ومصطفى الدمنهوري، وأحمد الغريشي، ويوسف الشبراخيتي، ومحمد الدواخلي، وقد ضم إلى هذا المجلس القاضي ونائب الوالي العثماني.

أهمية الأزهر

وبالرغم من أن سلطة هذا الديوان كانت محددة وخاضعة لتوجيه المحتلين فإن تأليفه على هذا النحو يعد تنويها ظاهرا بأهمية الأزهر ومكانة علمائه والاعتراف بزعامته الشعبية والوطنية.

وتتابعت الأحداث واشتدت وطأة الفرنسيين على المصريين وخاصة أهالي القاهرة، إذ فرضوا عليهم الضرائب الفادحة، وصادروا كثيرا من الأملاك والمباني، وأسرفوا في قتل الأهالي، ولكن القاهرة لم تستسلم بل ظلت تتحين الفرصة للتخلص من الفرنسيين، ولكن نابليون حاول عبثا بعد انتصاره الحربي أن ينتصر على شهوة النفوس، وأن يجتذب إليه قلوب المصريين، ولم يكن إنشاؤه الديوان ولا تودده إلى الزعماء ولا اشتراكه في حفلات الشعب ليحل الصفا والوئام محل الجفاء والخصام ووجدت النقمة على الفرنسيين صداها في الأزهر ، وألفت لجنة لتنظيم الثورة ضدهم.

الفضل ما شهدت به الأعداء

ويقول أحد المؤرخين الفرنسيين عن هذه اللجنة ما نصه:

“لقد اجتمع إلى جانب تذمر الأهالي واستيائهم نشر الدعاية إلى الثورة فكان في الجامع الكبير المعروف بالأزهر لجنة لتدبير الثورة تعمل على إثارة الكراهية في نفوس الناقمين”.

اندلاع الثورة

قامت الثورة في القاهرة ضد الفرنسيين في 21 أكتوبر سنة 1798م. واحتشدت الجموع في الأزهر يصيحون ويهتفون بالقتال، وامتلأت الطرق والشوارع بالناس حاملين الأسلحة قاصدين إلى أحياء الفرنسيين لمهاجمتها، وعمت الثورة مدينة القاهرة كلها في أسرع وقت، وأخذ الثوار طريقهم إلى مركز المخافر الفرنسية، فقتلوا الجنود والحراس، وعلم الجنرال… ديبوي، حاكم القاهرة بالخبر، فنزل إلى المدينة في كتيبة من الفرسان وسار إلى الموسكي ثم الغورية، فازدحمت الجموع من حوله وقتل مع بعض رجاله، واشتد الهياج والغضب وتضاعفت الجموع وتفاقمت الأحوال.

وهنا أدرك الفرنسيون خطورة الحال، وأخذوا يتجمعون ويطلقون النار على الثوار في الشوارع وخلف المتاريس، وما لبثت جموع الثوار أن احتشدت في حي الأزهر ، واجتمع بالأزهر نحو خمسة عشر ألفا من أشد الثوار حماسة، وأقاموا المتاريس في الطرق، والأزقة الموصلة إليه، وأمر نابليون بنصب المدافع على جبل المقطم، لكي تطلق على الأزهر ومدينة القاهرة وأخذت آلاف القنابل تنهال على الجامع الأزهر وتصيب الأحياء المجاورة له كالصنادقية والغورية والفحامين، وتنفجر بصورة لم يعهدها سكان القاهرة من قبل، فألقت الرعب في نفوس الناس وفي الوقت نفسه أقبلت كتائب الجنود الفرنسيين فاحتلت الشوارع المؤدية إلى الأزهر بحثا عن الثوار.

وأصبح الثوار محاصرين بين نارين نار المدافع من فوقهم، ونار الجنود من حولهم، وأحدثت المدافع تخريبا في الجامع الأزهر ، والمباني المجاورة فوقع الخلل في صفوف الثوار وطلبوا الهدنة والتسليم، وانتهت المفاوضة بإلقاء السلاح ورفع المتاريس ودخل الجنود منها حتى وصلوا إلى الجامع الأزهر وعسكروا فيه طول الليل. وبذلك انتهت ثورة القاهرة الأولى على الفرنسيين.

وهكذا احتل الفرنسيون الجامع الأزهر . غير مكترثين لحرمته الدينية ومكانته العلمية، ومنعوا الطلاب والعلماء من دخوله، وانتشرت الجنود في الأحياء المجاورة تنهب البيوت بحجة البحث عن السلاح والعبث بالأسواق والقبض على الأبرياء واضطر كثير من سكان الأحياء المجاورة إلى الفرار للنجاة بأنفسهم.

ثم اقتحم الفرنسيون معقل الثائرين في الأزهر، وقضوا فيه يوما وليلة. ويعلق الجبرتي على هذا الحادث بقوله “وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع” ولم تقف المحنة عند احتلال الجامع الأزهر وانتهاك حرمته على هذا النحو بل وقع اعتداء محزن على علمائه إذ أن نابليون اتهم عددا منهم بالتحريض على الثورة وحكم عليهم بالإعدام، ونفذ فيهم الحكم في يوم 4 نوفمبر من عام 1798 رميا بالرصاص، وقد ذكر الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ورئيس الديوان حينئذ في كتابه (تحفة الناظرين) أن الفرنسيين قتلوا من علماء مصر ثلاثة عشر عالما، ودخلوا بخيولهم الجامع الأزهر، ومكثوا فيه يوما وبعض الليلة الثانية وقتلوا فيه بعض العلماء ونهبوا منه أموالا كثيرة وسبب وجودها فيه أن أهل البلد ظنوا أن العسكر لا يدخلونه فحولوا فيه أمتعة بيوتهم فنهبها الفرنسيون، كما نهبوا أكثر البيوت التي حول الجامع الأزهر ، ودشتوا الكتب التي في الخزائن يعتقدون أن بها أموالا، وأخذ من كان معهم من اليهود الذين يترجمون لهم كتبا ومصاحف نفيسة.

وعلى أثر قمع ثورة القاهرة وجلاء الفرنسيين عن الجامع الأزهر أوحوا إلى العلماء بإصدار منشور إلى أهل القاهرة يناشدونهم فيه الهدوء والسكينة وهذا مما يدل على أن الفرنسيين كانوا يدركون تماما ما لزعماء علماء الأزهر الروحية والشعبية يومئذ من أثر على الناس، فلجأوا إلى هذه الزعامة يحاولون استغلالها في تهدئة الشعب، وحمله إلى التزام الهدوء والسكينة.

كان من أثر ثورة القاهرة على الفرنسيين وما اقترن بها من الاضطرابات أن عطل الديوان، فلما هدأت الأحوال أصدر نابليون في 21 ديسمبر عام 1798م قرارا بإنشاء ديوان جديد من ستين عضوا يمثل جميع الطوائف، منهم عشرة من العلماء معظمهم من شيوخ الجامع الأزهر .

وهكذا نجد أن علماء الأزهر كان لهم نصيب بارز في عضوية الديوان الجديد فضلا عن رياسته ، وأنه كان يحسب دائما لمكانتهم ونفوذهم حساب خاص وأن حوادث الثورة والدور الذي لعبه الأزهر جاءت لتوكيد هذه الأمانة.

عمر مكرم وثورة القاهرة الثانية

بعد مغادرة نابليون مصر تولى الجنرال كليبر قيادة الحملة، وقامت في القاهرة ثورة أخرى في المدة من 20 مارس حتى 21 أبريل عام 1800 بذل الفرنسيون جهودا عنيفة لقمعها، وارتكبوا خلال ذلك كثيرا من أعمال التخريب وسفك الدماء وكان الرأس المفكر لهذه الثورة.. السيد عمر مكرم نقيب الأشراف الذي يرجع إليه الفضل في تعبئة القوات الوطنية تعبئة قلما توفرت في ثورة من الثورات فقد عجز الفرنسيون عن القبض عليه بعد إخماد هذه الثورة حيث استطاع الفرار تاركا أمواله عرضة للنهب والمصادرة.

وهكذا فجع الأزهر مرة أخرى في ظل الاحتلال الفرنسي في عدد من شيوخه وطلابه بعد أن فجع في ثورة القاهرة الأولى في عدد من علمائه، بيد أن الفجيعة كانت في كل مرة عنوان زعامة الأزهر الروحية.

ثم قتل كليبر على يد طالب أزهري هو سليمان الحلبي في 14 يونيه سنة 1800 وأعدمه الفرنسيون مع أربعة آخرين من شيوخ الأزهر وطلابه.

إغلاق الأزهر

رأى الفرنسيون – بعد مقتل كليبر – أن يتخذوا بعض الإجراءات التحفظية ضد الأزهر ، عندئذ رأى شيخ الجامع الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي وزملاؤه أن استمرار الدراسة في هذه الظروف المضطربة أمر متعذر، والأفضل أن يغلق الجامع نهائيا حتى تتحسن الأحوال، وتم ذلك في 22 يونيه سنة 1800 وكانت هذه أول مرة في تاريخ الأزهر يغلق فيها، بعد أن لبث منذ إنشائه نحو ثمانية قرون ونصف، مفتوح الأبواب لكل قاصد وطالب.

وأعاد الجنرال مينو – الذي عين بعد مقتل كليبر – تأليف الديوان في أكتوبر سنة 1800 بعد أن لبث معطلا بضعة أشهر، وكان أعضاؤه في هذه المرة تسعة فقط، معظمهم أيضا من كبار علماء الأزهر ، وقد أدرك مينو قوة الزعامة الشعبية ممثلة في علماء الأزهر، فسعى إلى استرضائهم ولكنهم ظلوا منه على حذر.

وأخيرا تحت صمود الشعب المصري ووعيه خرج الفرنسيون من مصر في شهري سبتمبر وأكتوبر عام 1801، وافتتح الجامع الأزهر بعد أن ظل مغلقا زهاء عام.

الأزهر والمماليك

بعد جلاء الفرنسيين بذل السيد عمر مكرم جهودا كبيرة للوقوف في وجه المماليك والعثمانيين الذين أساءوا معاملة المصريين ، فقد تزعم الثورة التي أثارها الشعب المصري على المماليك بعد جلاء الفرنسيين عن مصر ثلاث سنوات .

الأزهر وتولية محمد علي

كان للأزهر وعلمائه بعد خروج الفرنسيين من مصر شأن كبير في تعضيد محمد علي وتأييده في الوصول إلى ولاية مصر، وفي المعارضة في عزله واستبداله بغيره، حيث تدخل علماء الأزهر بعرائضهم إلى السلطان العثماني لتأييد محمد علي، وكان لموقفهم أثره في حشد الشعب من حوله والتمهيد لولايته وتوطيد مركزه، وكان على رأسهم السيد عمر مكرم، والشيخ عبدالله الشرقاوي فقد ألبسا محمد علي خلعة الولاية في بيت القاضي سنة 1805.

وقد اشترط علماء الأزهر على محمد علي أن يحكم بمشورتهم نظير مساعدتهم له غير أن محمد علي كان يميل إلى الحكم المطلق، وبعد توليه الحكم وتوطيد مركزه ضاق برقابة وكلاء الشعب خصوصا السيد عمر مكرم زعيم العلماء الذي أخذ يحاسب محمد علي على جمع الضرائب التي فرضها، وبلغ من حماسة السيد عمر مكرم في الدفاع عن حقوق الشعب أ، عقد مجلسا عاما من العلماء في أول يولية سنة 1809م ، أقسم فيه المجتمعون على ألا يستكينوا حتى يجيب الوالي مطالبهم التي تتلخص في عدم فرض ضرائب جديدة وإلغاء الضرائب المستحقة، فبعث في طلبهم فامتنع السيد عمر مكرم عن الحضور، وحاول محمد علي أن يغريه بالمال لكنه أبى أن يذهب إليه حتى يدفع عن كاهل الشعب الضرائب التي فرضها، لذلك انتقم منه محمد علي بخلعه من نقابة الأشراف ونفيه إلى دمياط في أغسطس عام 1809، وظل هناك في منفاه نحو ثلاث سنوات، ثم نقله إلى طنطا فظل بها حتى توفي سنة 1822م، وبنفي السيد عمر مكرم وإقصائه عن ممارسة نشاطه القومي انهار ركن الزعامة الشعبية وطويت صفحتها بعض الوقت.

وفي عهد محمد علي أبعد الأزهر عن التدخل في الشئون العامة حتى لم يحظ في عهده بالمحافظة على حقوقه وأرزاقه القديمة التي ظل متمتعا بها في سائر العصور فصادر محمد علي كل ذلك، كما أوقع بأساتذة الأزهر وطلابه أضرارا بالغة وقل عدد الطلبة.

الأزهر وحملة فريزر

عندما أرسلت انجلترا حملتها على مصر في عام 1807م بقيادة الجنرال فريزر لم تستسلم البلاد لتلك الغزوة، بل قاومتها بكل ما أوتيت من حول وقوة وظهرت الأمة المصرية بذات الروح التي نهضت بها إزاء الحملة الفرنسية أي بروح المقاومة والبذل والتضحية والدفاع حتى انتهت حملة فريزر بالخيبة والفشل.

ولعب الأزهر دورا كبيرا في صد تلك الحملة، وقام شيوخه وفي مقدمتهم السيد عمر مكرم إلى التطوع مختارين، وقام المتطوعون بحفر الخنادق وإقامة الحصون والاستحكامات في أطراف مدينة القاهرة لصد الإنجليز، وسارع الشعب كله إلى القتال بقيادة عمر مكرم، وظهرت القاهرة بتلك الروح البطولية التي تجلت فيها ضد الفرنسيين.

ويقول المؤرخون في هذا الصدد أن السيد عمر مكرم كان يذهب كل يوم تتبعه الجماهير إلى حيث يشتغل العمال في إقامة الاستحكامات، وأنه كثيرا ما كان يبقى هناك النهار كله في خيمة أعدت له، وأن حضوره كان يثير الحماسة والشجاعة في نفوس الناس جميعا، وأنه دعا الناس وطلبة الأزهر وأساتذته لحمل السلاح والتأهب للجهاد ضد الإنجليز.

وحينما نتأمل في ذلك وفي تلك الروح القومية نجد أن رجال الأزهر لما اشتركوا في صد الحملة ومعهم الشعب لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب، بل كرجال جهاد وقتال ودفاع عن الوطن أيضا.

الأزهر وثورة عرابي

كانت ثورة عرابي في عام 1881م هي قمة رد الفعل الثوري ضد النكسة التي أصابت الشعب على يد الحكام الظالمين من أسرة محمد علي تساعدهم بريطانيا التي كانت لا تحول أنظارها عن مصر بحكم اهتمامها بالطريق إلى الهند، وقد قام رجال الأزهر بنصيب كبير في إذكاء الحماسة وإعداد النفوس لتلبية نداء الحرية وكان لمقالاتهم الأدبية وقصائدهم الشعرية وخطبهم في المحافل والمجتمعات أثر كبير في التحريض على الثورة فذكر من هؤلاء الرجال الذين سجلوا للأزهر صفحات خالدة في تاريخنا على سبيل المثال رفاعة رافع الطهطاوي، والسيد عبدالله النديم، والشيخ محمد عبده.

وقائد الثورة العرابية نفسه أحمد عرابي الذي تلقى علومه في الجامع الأزهر أربع سنين، وكان لهذا أثره البعيد في تكوين شخصية عرابي كزعيم ثوري، إذ جعلت منه خطيبا مفوها يستولى على عقول سامعيه ويهز مشاعرهم.

وحينما بدأت الثورة العرابية أخذ رجال الأزهر يغذونها بكتاباتهم وقصائدهم مما ألهب النفوس وأثار العقول.

ولما أيقن عرابي أن الخديوي يستعدي الإنجليز، وأنه ابتهج بضرب الإسكندرية بقذائفهم في 11 يوليه عام 1882م، اشتد حنقه عليه، وفكر العرابيون والشعب في خلعه، ودبروا الأمر لذلك، ثم دعا عرابي إلى عقد مجلس وطني للنظر في أمر الخديوي، فاجتمع المجلس في 17 يوليه عام 1882م ، وبلغ عدد المجتمعين أربعمائة من ممثلي الشعب وزعمائه، وقرروا الاستمرار في الاستعداد الحربي وبقاء عرابي وكان الخديوي قد عزله في وزارة الحربية.

ثم اجتمع المجلس للمرة الثانية بعد خمسة أيام في 22 يوليه سنة 1882م وقد حضره خمسمائة من كبار المصريين. فيهم الأمراء والعلماء وشيخ الأزهر وقاضي القضاة والمفتي ونقيب الأشراف وغيرهم، وتليت عليهم منشورات الخديوي ومنشورات عرابي، وأذيعت من كبار علماء الأزهر فتوى شرعية بأن الخديوي مرق من الدين مروق السهم من الرمية لخيانته في دينه ووطنه وانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده، وقرر المجلس وقف أوامر الخديوي ووزرائه وعدم تنفيذها، وأن يرسلوا قراراتهم هذه إلى السلطان.

ثم حرر علماء الأزهر مجموعة من المؤلفات والكتابات القومية التي تلهب الحماس في النفوس، وقد بذل علماء الأزهر جهودا كبيرة في سبيل الدفاع القومي فدعوا إلى التطوع في صفوف الجيش المصري وإمداده بالمؤن والتبرعات.

القبض على زعماء الثورة

ولما أخفقت الثورة العرابية واحتل الإنجليز مصر قبضوا على زعماء الثورة وعلى المشتركين فيها وقدموهم للمحاكمة، ومن هؤلاء عدد كبير من علماء الأزهر منهم الشيخ عبد الرحمن عليش الذي نفي خمس سنوات خارج مصر بالأستانة، والشيخ محمد الهجرسي الذي نفي أربع سنوات خارج مصر بمكة المكرمة، والمشايخ أحمد عبد الجواد القاياتي، ومحمد عبد الجواد القاياتي، ويوسف شرابة، ومحمد عبده الذين حكم عليهم بالنفي أربع سنوات في بيروت، وممن قاموا بدور عظيم كذلك في هذه الثورة الشيخ حسن العدوي، فقد كان أحد العلماء الذين وقعوا قرار المؤتمر الوطني في يوليو سنة 1882م بعزل الخديوي ووقف أوامره وتكليف عرابي بالدفاع عن البلاد لانحياز الخديوي إلى الإنجليز وقد حوكم على ذلك بعد انتهاء الثورة العرابية في ديسمبر سنة 1882م، ولما استدعي من السجن لمحاكمته وسئل هل أفتيت بعزل الخديوي؟ قال: لم أفت ومع هذا فإن جئتموني الآن بفتوى بذلك فإني أوقعها، وما في وسعكم وأنتم مسلمون أن تنكروا أن الخديوي توفيق مستحق للعزل لأنه خرج عن الدين والوطن، وقد حكم عليه بتجريده من جميع رتبه وامتيازاته.

غير أن رجال الأزهر لم يكفوا عن معارضة الاحتلال البريطاني ومقاومته بكل الوسائل المادية والمعنوية.

وعلى العموم امتازت الفترة الأخيرة من القرن التاسع وأول القرن العشرين بظهور طائفة من نوابغ المفكرين والصحفيين والأدباء الذين درسوا في الجامع الأزهر ، وكان لهم أثر يذكر في توجيه الرأي العام وإيقاظ الشعور الوطني، كما كان لهم أثر أيضا في تطور الحركة القومية في مصر.

ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال الشيخ حسن المرصفي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ محمد عبده، وعلي يوسف، وتوفيق البكري ومصطفى المنفلوطي.

الأزهر وثورة 1919

شاء القدر أن يتيح للأزهر فرصة الجهاد مرة أخرى، حيث قام بدور ملحوظ في ثورة 1919 فقد كان طلبة الأزهر في مقدمة صفوف المتظاهرين ومن أكثرهم جرأة وحماسة وتضحية، ومن أشد العاملين على بث روح الثورة والأحزاب في طبقات المجتمع، وكانت ساحات الأزهر وأروقته مركزا لتنظيم المظاهرات الوطنية الكبرى، كما كان يموج كل مساء بالألوف المؤلفة لسماع الخطب المشتعلة والقصائد الحماسية التي تلقى فيه ضد المحتلين. وكان يتصدر لإلقاء هذه الخطب والقصائد طائفة كبيرة من قادة الثورة وخطبائها من العلماء والقسس والمحامين والصحفيين والعمال وطلبة الأزهر والمدارس وغيرهم من مختلف الطبقات.

وكان دور الأزهر في ثورة 1919 أشبه بالدور الذي قام به في الثورة التي قامت في أوائل عهد الحملة الفرنسية (أكتوبر 1798) فقد كان الأزهر معقل الثورة، وأمام أبوابه وقفت الدوريات الانجليزية لمنع مظاهرات العلماء والطلاب. ولم تذهب هذه القوات طلاب الأزهر الذين كانوا يؤلفون المظاهرات على مقربة من الأزهر ، وقد حاولت السلطة العسكرية منع تجمع الجماهير في الأزهر ، كما ضاعفت دوريات الجند أمام أبوابه، وفي مسالك الطرقات المؤدية إليه. لكن الجماهير أفسدوا عليهم خططهم واتخذوا مسالك أخرى يجهلها الجند.

اقتحام الانجليز حرم الأزهر

في يوم 11 ديسمبر سنة 1919، وقع حادث اقتحام الجنود الإنجليز الجامع الأزهر وكان ذلك مما أثار عاصفة من السخط والاستنكار في أنحاء الديار المصرية وعندئذ ثارت ثائرة العلماء، وقصدوا شيخ الجامع. واجتمع بكبار العلماء وكتبوا احتجاجا شديدا وقعوا عليه جميعا وبعثوا به إلى السلطان فؤاد وإلى رئيس مجلس الوزراء وإلى المندوب السامي البريطاني وهذا نصه:

“وحدث في منتصف الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس 18 ربيع الأول سنة 1338هـ (11 ديسمبر سنة 1919م) أن فصيلة من الجنود البريطانية كانت تطارد جماعة من الناس اقتحمت الجامع الأزهر الشريف بنعالها وعصيها منتهكة حرمة هذا المعهد المقدس والجامعة الإسلامية الكبرى التي يؤمها طلاب العلوم من جميع الأقطار، ثم أخذت تضرب وتروع، وتجاوزت ذلك إلى الاعتداء على محل الإدارة، والعمال يؤدون وظيفتهم محاولة كسر الباب الموصل إلى القاعة المخصصة لشيخ الأزهر لولا متانته ثم صعدت إلى الدور الأعلى من الرواق العباسي فكسرت باب غرفة رئيس الحسابات، وقد كان الرعب استولى على من فيها من العمال فأوصدوها على أنفسهم.

إن هذا الحادث قد أحزن جميع المصريين المقيمين في القاهرة وآلمهم أشد الآلام وسيزداد هذا الأثر السئ بنسبة انتشار الخبر في أرجاء مصر وتردد صداه في أنحاء العالم الإسلامي فنحن الموقعين على هذا من علماء الجامع الأزهر وأعضاء مجلسه الأعلى نحتج على هذه الحادثة السيئة قياما بالمفروض علينا من خدمة الأزهر الريف وأهله”.

على أن علماء الأزهر لم يكتفوا بهذا الاحتجاج الذي عبروا فيه عن سخطهم على تصرف الإنجليز الذين اقتحموا الأزهر ، ورأوا إزاء الاضطراب الذي ساد البلاد أني ضعوا بيانا يعربون فيه عن رأيهم في الموقف السياسي الذي نشأ عن استمرار بقاء الإنجليز في مصر برغم وعود ساستهم المتكررة بجلاء قواتهم عن البلاد وقد بعث العلماء بهذا البيان إلى السلطان، وإلى رئيس مجلس الوزراء وإلى المندوب السامي البريطاني ومما جاء في هذا البيان:

يرى علماء الأزهر الشريف ورجال مجلسه الأعلى الموقعون على هذا، أن الطريق لتوطيد السلام، والتوفيق بين الطرفين، ولصون المصالح المتبادلة هي:أن تفي الدولة الانجليزية بوعودها، وتعترف بالاستقلال التام لهذا البلد الممتاز بتراثه المجيد ومكانته الخاصة ومقامه الراجح في بلاد الشرق أجمع، وبذلك تمنع وسائل الشدة التي طالما ظهرت آثارها بما يوجب الأسف الشديد ويخلد أبناء مصر كلهم إلى الهدوء والسكينة ولا يضمرون ضغنا ولا حقدا للحكومة الانجليزية ويقومون بالمحافظة على مصالحها مثل مصالح سائر الدول الأجنبية. “هذه هي الأمانة التي وضعها الله في أعناقنا قد أديناها قياما بالواجب على خدام الدين، ونشهد الله على ذلك، وهو خير الشاهدين” ولا يفوتنا أن نذكر أن سعد زغلول زعيم ثورة 1919م كان من رجال الأزهر فبعد أن تعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن في مكتب القرية انتقل إلى الجامع الدسوقي حيث أتم تجويد القرآن، وتلقى دروسا في النحو والفقه ثم دخل الأزهر في عام 1871 ليتم دراسته، وتعلم على شيوخه وقرأ كتب التوحيد على الإمام محمد عبده، وانضم إلى مجلس جمال الدين الأفغاني الذي هبط مصر لأول مرة سنة 1870م. فكان لهذين الإمامين أثر كبير في توجيه سعد زغلول إلى التجديد والإصلاح وسلامة المنطق وحرية التفكير وقوة البلاغة والبيان. ثم اختاره محمد عبده يعمل محررا بالوقائع المصرية، وبذلك انتقل سعد زغلول من الأزهر إلى الوظائف الحكومية، ثم إلى وظيفة معاون بوزارة الداخلية ثم ترقى في سلك الوظائف المدنية والعمل السياسي.

وبعد ثورة 1919 شارك الأزهر في جميع الحركات الوطنية في مصر ولما قامت ثورة 23 يوليه سنة 1952م، وعرف رجاله ما للأزهر من مكانة ومنزلة ودور فعال في نفس الشعب فكانوا يلجأون إليه عند الشدائد والخطوب.

على منبر الأزهر

وعند حدوث العدوان الثلاثي سنة 1956 قصد الرئيس جمال عبد الناصر الأزهر ومن فوق منبره أعلن الجهاد المقدس ضد جيوش الطغاة المعتدين، فانطلقت صيحة مدوية مجلجلة في أسماع العالمين، وانتفض الشعب المصري انتفاضة كبرى أذاق بها المعتدين ألوان القصص، وأشعرهم بفشل العدوان، فاضطروا إلى الانسحاب وصفوة القول أن الأزهر قد قام بأجل الخدمات لمصر والعالم الإسلامي، وقد ظل طوال هذه العصور يؤدي رسالته على أكمل وجه، هذا إلى ما بذل علماؤه، وطلابه من جهود في سبيل إعلاء منار الإسلام والمحافظة على تراثه المجيد، وفي نشر الوعي القومي في نفوس المصريين، الأمر الذي يتجلى في مواقفهم الوطنية المشرفة التي بوأتهم مكان الزعامة في جميع العصور.

3- دور الأزهر العلمي

للأزهر أدوار علمية خالدة بعث فيها أشعة العلم والعرفان في أقطار العالم وحفظ فيها اللغة العربية والثقافة الإسلامية في عصور التدهور والانحطاط وسيادة الاستعمار الغربي على الأقطار الإسلامية ولاسيما بعد أن قضى التتار على الدول العباسية في بغداد في منتصف القرن السابع الهجري، وقوضوا صروح المدنية الإسلامية في المشرق وسقطت بغداد تحت أقدامهم فاجتاحوا الجانب الشرقي للعالم الإسلامي ودمروا حضارته وهدموا في سنين قليلة مدينة بناها المسلمون في قرون، وقتلوا خليفة المسلمين سنة 656هـ، ومعه كثير من المسلمين، وانقض هؤلاء البرابرة على الكتب يحرقونها والمؤسسات العلمية يزيلونها.

وبينما كان هذا يحدث في الجانب الشرقي للعالم، كان هناك هجوم مماثل يحدث في الجانب الغربي في الأندلس وشمالي أفريقية. فقد قام الفرنجة بهجوم على مسلمي الأندلس كما امتد عدوانهم إلى الشمال الأفريقي وأسقطوا بعض مدنه وهددوا ساحله، وكما سقطت بغداد سقطت أيضا أسبانيا المسلمة وعفت معاهدها وحضارتها الشهيرة وسقطت غرناطة آخر معاقلها (897هـ/1492م) ووقفت مصر في منتصف الطريق تستقبل النازحين من هنا وهناك، وتستخلص الكتب التي نجت من هول الحريق والدمار، وتفسح صدرها للعلماء الذين فروا من الظلم والاضطهاد، وتركزت آمال المسلمين في مصر – وخاصة أنها كانت مستودع هذا التراث – وآمال الفكر الإسلامي في معاهد القاهرة ولاسيما الأزهر . وجاهدت مصر حتى انتصرت على المغول وشتتت شملهم في عين جالوت سنة 658هـ (1260م)، وأنقذت منهم العلم الإسلامي أما الأزهر فقد نهض بالمهمة التي ألقتها عليه الأقدار خير قيام، وفتح صدره لهؤلاء العلماء الوافدين، واستأنفوا نشاطهم العلمي والفكري في رحاب الأزهر ، وأجادت قرائحهم بأبدع أنواع العلوم والمعرفة، وقد شهد العلماء المصريون والوافدون أزهى عصور الأزهر ، وابتدأت هذه الفترة الزاهرة في القرن الثامن الهجري، وبلغت ذروة مجدها في القرن التاسع وظل الأزهر دائما مقصد سائر العلماء الوافدين على مصر من الشرق والغرب ونتيجة لتقدم الأزهر ونشاطه العلمي في هذا العصر ظهرت بمصر مجموعة من العلماء والأفذاذ قادوا الفكر في مختلف فروعه الإنسانية والإسلامية وفيما يلي أبرزهم :

البوصيري الشاعر الأديب ذائع الصيت 625هـ
ابن دقيق العيد الفقيه 702 هـ
النويري صاحب نهاية الأرب 732 هـ
ابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار 748 هـ
ابن هشام صاحب المؤلفات الشهيرة في النحو 749 هـ
صفي الدين الحلي الشاعر 750 هـ
تقي الدين السبكي رئيس علماء الشافعية وله 150 كتابا 756 هـ
ابن منظور صاحب لسان العرب 761 هـ
ابن عقيل النحوي الشهير 769 هـ
البلقيني “شيخ الإسلام” 805 هـ
الدميري صاحب كتاب “حياة الحيوان” 808 هـ
ابن دقماق مؤرخ مصر 809 هـ
(الفيروز بادي) صاحب القاموس المحيط 817 هـ
القلقشندي صاحب صبح الأعشى 821 هـ
تقي الدين بن حجة الحموي صاحب خزانة الأدب 837 هـ
المقريزي صاحب الخطط وغيرها 845 هـ
الحافظ بن حجر العسقلاني المحدث الشهير 852 هـ
العيني صاحب عقد الجمان 855 هـ
السخاوي صاحب الضوء اللامع 902 هـ
السيوطي صاحب تاريخ الخلفاء وله 500 مؤلف 911 هـ
ابن اياس المؤرخ 930 هـ

ومن العلماء الذين وفدوا على مصر في هذا العصر ابن خلدون وابن بطوطة ومحمد تقي الدين الفاسي، وشمس الدين الأصفهاني ومحمد بن يوسف بن حيان الغرناطي.

ولما بدأت النهضة العلمية في مستهل العصر الحديث لم تجد لها منبعا إلا في رحاب الأزهر ، فقد كان معظم المبعوثين إلى أوروبا من رجال الأزهر النابغين. وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوي، ثم عادوا بعد أن تخصصوا في مختلف العلوم والفنون فوضعوا أسس النهضة العلمية والفنية والثقافية التي خطت بالبلاد خطوات جبارة في سبيل النمو والازدهار. وحينما بدأت الدولة تأخذ بأساليب المدنية أنشأت عددا من المدارس العليا المتخصصة، واختارت لها النابهين من أبناء الأزهر .

وقد نبغ في الرعيل الأول من الأطباء علماء أجلاء من نابهي الأزهريين ومن أشهرهم: إبراهيم النبراوي، وأحمد حسن الرشيدي، ومحمد علي باشا البقلي، ومأمون بلال وهم الذين وضعوا أساس النهضة الطبية في العصر الحديث، وعربوا كثير من أبحاث الطب إلى اللسان العربي، كما نبغ من الأزهريين قضاة ومستشارون وضعوا أسس القضاء الحديث، ورسموا دستورا قويا في المحاماة والقضاء والتشريع، ومن ألمعهم الإمام محمد عبده وسعد زغلول، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ الشناوي، والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ فرج الشهوري، كما لمعت طائفة منهم في ميادين الكتابة والشعر والصحافة.

ولما اتسعت ميادين النهضة الحديثة كان البارزون من أبناء الأزهر هم الذين وضعوا الأسس ورفعوا البناء، فقد كان أساتذة جامعة القاهرة عند تكوينها من أعلام علماء الأزهر، وكذلك بقية الجامعات. ومن دوحة الأزهر المباركة نبتت مدرسة الألسن في عهدها الأول وكذلك مدرسة القضاء الشرعي وكلية دار العلوم.

لقد قام الأزهر بواجبه خير قيام في النهضة العلمية. حيث رعى العلم في عصر الظلمات التي اجتاحت العالم الإسلامي أثناء حرب المغول، واحتلال الدولة العثمانية واستطاع أن يحمي هذا التراث العلمي من العبث والضياع، والذي لولاه لجف الأمل وانطفأ آخر أشعة النور في العالم العربي والإسلامي. كما اهتم أيضا ببعث الحضارة العربية والإسلامية، وإحياء التراث العلمي والفكري والروحي للأمة العربية، ويعمل على تزويد العالم الإسلامي والوطن العربي بالعلماء العاملين الذين يجمعون إلى الإيمان بالله والثقة بالنفس وقوة الروح والثقة في العقيدة والشريعة ولغة القرآن كفاية علمية وعملية ومهنية لتأكيد الصلة بين الدين والحياة، والربط بين العقيدة والسلوك وتأهيل عالم الدين للمشاركة في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

كما قام الأزهر بافتتاح عدة مراكز ثقافية في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا لربط مسلمي هذه الدول بالدين الإسلامي وبإخوانهم المسلمين في الشرق ويجمع في رحاب جامعته الآن 54 جنسية من مختلف أنحاء العالم.


مكتبة الأزهر

لم يكتف الأزهر بذلك النشاط العلمي بل قام أيضا في سنة 1897م بإنشاء أحدث مكتبة من أشهر مكتبات العالم، وثانية المكتبات في مصر نظرا لما تحويه من نفائس المخطوطات ونوادر المؤلفات وتعمل المكتبة على تزويد راغبي الثقافات على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم بالمواد العلمية في جميع فروعها كي تصل بهم إلى غاياتهم، وتفتح أبوابها لمحبي الإطلاع ورواد المعرفة على اختلاف أجناسهم حيث يطالعون فيها ما يشاءون من الكتب، ويستعيرون منها ما يريدون، وتتبادل المكتبة مع المكتبات الأخرى المخطوطات النادرة لنسخها أو تصويرها، ما يستعين الناشرون بمخطوطاتها في الدراسات والأبحاث.

وكان عدد الكتب حين إنشاء المكتبة (7703) كتب، منها (6617) كتابا بطريق الإهداء، (1086) كتابا بطريق الشراء، وعدد مواردها وفنونها 28 فنا. تشتمل على المصاحف، القراءات، التفسير، الحديث، مصطلح الحديث، الأصول، فقه الأئمة الأربعة، النحو، الصرف، البلاغة، التوحيد، المنطق، التصوف، الأدب والمديح، الآداب والمواعظ، الأحزاب والأوراد والأوعية، الوضع، آداب البحث، العروض، الفلك والميقات، الحساب والهندسة، اللغة، الطب، الفنون، المجاميع. ومع التقدم وتزويد المكتبة بكل فنون العلم فقد بلغ عدد كتبها الآن 79123 كتابا تقع في 183668 مجلدا. وأصبحت موزعة على الفنون الآتية بسبب تفرع بعض المواد إلى فروع بحيث أصبح عدد فنونها الآن 60 فنا لكل منها عنوان خاص. وهذه هي الفنون أو المواد الآن:

المصاحف، القراءات، علوم القرآن، التفسير، مصطلح الحديث، الحديث، الأصول، فقه الأئمة الأربعة، المواريث، حكمة التشريع، الفقه العام، علم الكلام، المنطق، آداب البحث، الفلسفة، التصوف، آداب الفضائل، لغة، صرف، نحو، وضع، بلاغة، عروض وقوافي،أدب، تاريخ، تقويم البلدان، الأخلاق والتربية والاجتماع، القوانين واللوائح، الطب، الحساب، الهندسة، الجبر والمقابلة، الفلك، الهيئة، الأدعية والأوراد، تعبير الرؤيا، الحرف والرمل، الفراسة والكف، الخط والرسم والإملاء والاقتصاد السياسي، التجارة والصناعة، مسك الدفاتر، الزراعة، الطبوغرافيا، الكيميا والطبيعة، الفروسية والفنون الحربية، الموسيقى، الصور والرسوم، النحل الإسلامية، شرائع غير إسلامية، دوريات، إحصائيات ونشرات وتقارير، معارف عامة، اللغات الأجنبية، اللغات الشرقية. كما تضم مكتبة الأزهر نوادر في كثير من الفنون قل أن تتيسر في مكتبة أخرى. وقد بلغت مخطوطاتها الآن نحو 24000 ألف مجلد. وكان لتطور الأزهر في عهد الثورة أثر في تنشيط الطلاب وحفزهم على الدراسة والبحث فأقبلوا على المكتبة في فهم ينشدون معونتها في تلبية رغباتهم العلمية فاستجابت المكتبة لرغباتهم وسهلت لهم سبل الانتفاع عن طريق الإعارة÷، وبذلك تضاعف عدد المطالعين كما تضاعف كذلك عدد الكتب المعارة إلى الضعف تقريبا، فقد كان عدد الكتب المعارة في سنة 1951م 9500 مجلد، بلغت في سنة 1983م 13000 مجلد.

وتقوم الدولة حاليا بإنشاء مبنى جديد للمكتبة بالدراسة طريق صلاح سالم يقوم على أحدث النظم العالمية والمعمارية. وأوشك على الانتهاء.

4- دور الأزهر الاجتماعي

لم يعد دور الأزهر قاصرا على الجانب الروحي أو التاريخي أو السياسي بل تعداه أيضا إلى الدور الاجتماعي بحمل رسالة الدين إلى الشعب وتفاعله وتلاحمه مع المجتمع وتحمل تبعة الدعوة إلى سبيل الله وتوصيل الثقافة الإسلامية الصحيحة إلى الجماهير في صورة محببة وعرض شائق لتقوية الوعي الديني والخلقي والاجتماعي والوطني في نفوس الشعب وتثقيف المواطنين بالثقافة الحرة التي لا تخضع لقيود المعاهد والمدارس، ودراسة المشاكل الاجتماعية بين الأفراد والأسر والجماعات والسعي لحلها بالطرق الودية على ضوء الدين. والإسهام الإيجابي في تنفيذ مشروعات الإصلاح العامة في القطاع الحكومي والأهلي، وفي جميع الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والوطنية وغيرها، وبالجملة فإن مهمة دور الأزهر أيضا هي إرساء قواعد الفضيلة في شتى صورها، ومحاربة الرذيلة في مختلف أشكالها، والعمل على خلق مجتمع ناهض تظلله ألوية الإسلام تسري في جوانبه روح التدين والتدليل بصورة عملية على أن الإسلام نظام مثالي جاء لإسعاد البشرية ولم يقتصر دور الأزهر على خطب أو دروس تلقى في المساجد، بل تعدى إلى شتى المجالات، وفي كل يوم كان يفتح ميدان جديد للدعوة، ومازالت هذه الميادين تتسع والمجالات تكثر حتى جاءت ثورة يوليو 1952 بآفاقها الواسعة وميادينها المتعددة فنزل إليها العلماء بكل ما لديهم من قوة وعلم تلبية لنداء الوطن، واستجابة لداعي الخير وأصبحت ميادين الدعوة في هذه الأيام تشمل المدارس والمعاهد والنوادي والجمعيات والمعسكرات والساحات الشعبية والميادين العامة والمصانع والسجون ودور الإصلاح الاجتماعي ومؤسسات الرعاية الاجتماعية والمستشفيات والموالد والأسواق والندوات العامة والخاصة والتدريب، وفي الصحارى ووحدات الجيش المختلفة على الحدود والسواحل والقرى والنجوع والكفور وإلى جانب ذلك يقوم الأزهر بإرسال بعثات في مناسبات خاصة تقتضيها ظروف الأمن، وكذلك في شهر رمضان والمناسبات الأخرى. وقام الأزهر بدوره في إنهاء مسلسل الثأريين أكبر عائلتين بالجيزة ورأس شيخ الأزهر أضخم جلسة صلح عرفي في تاريخ مصر لمنع إراقة الدماء بين الأسرتين وكثيرا ما قام علماء الأزهر بدورهم الاجتماعي في مجالات شتى. فقاموا بالمصالحات وفض المنازعات ومحاربة الإجرام من سرقة وقتل وخطف، ومكافحة العصبية الطائفية والقبلية وعادة الأخذ بالثأر، والوقوف ضد المذاهب والآراء المنحرفة ومحاربة الاستغلال والإقطاع والمخدرات والقضاء على الإشاعات والأراجيف. كما يعمل الأزهر بدوره على تطهير المجتمع من البدع والخرافات والعادات الباطلة، وتوجيه الشباب إلى المثل العليا، والدعوة إلى مشروعات الخير كإنشاء الجمعيات الخيرية، ورعاية الأسرة بعلاج مشاكلها وتبصير أعضائها بواجبهم ومساعدة المنكوبين في الحرائق والسيول والكوارث الأخرى، وتثقيف المرأة وإعدادها للزوجية والأمومة السعيد.

كما قام الأزهر بتبصير الشعب بواجبه نحو وطنه والدعاية للمشروعات الإصلاحية وتوجيه الثقافة توجيها بناء لخدمة المواطنين ودعم نهضة البلاد وخطة التنمية وللأزهر دور كبير في رفع الروح المعنوية عند الجنود، وفي حث الجمهور على التبرع عند الضرورة لتسليح الجيش، وعلى الجهاد والتضحية عند الأزمات كما حدث في حرب 1956. وحث المواطنين إلى المساهمة في تسديد ديون الوطن.

5- دور الأزهر السياسي

لم يتخلف الأزهر عن أداء دوره السياسي تجاه مصر. فله أدوار سياسية خالدة دفع فيها الظلم والجور، وأقر العدل، ونشر الأمان، واستطاع أن يفرض على الحكام الاعتراف بحقوق الإنسان.

ومما هو جدير بالملاحظة أن أثر الأزهر في توجيه الحياة السياسية في المرحلة الأولى من حياته لم يكن عظيما، لأن الدولة الفاطمية كانت تحرص على سلطاتها السياسية أشد الحرص، وتفرق في التمسك بعصبيتها، ولا تفصح أدنى مجال لنفوذ العلماء ورجال الدين، ولم تكن عنايتها بنشر دعوتها الدينية إلا توطيد الدعوة السياسية. أما في عصر سلاطين المماليك فقد لعب الأزهر دورا لا يستهان به في توجيه السياسة المصرية، فقد كان السلاطين يلتجئون إليه تثبيتا لسلطانهم. أو تأييدا لهم على أعدائهم، أو رغبة في إصدار فتوى في صالحهم.

وقف الأزهر حارسا أمينا – طوال ألف عام – يدافع عن استقلال البلاد، ويثور في وجه المعتدين على حرماتها، وبهذا كان الأزهر ملاذ مصر، كلما أصابها خطب أو دهمها عدوان، سواء في عهد العثمانيين القائم، أو في خلال الاحتلال الفرنسي حيث كان منبر الأزهر منبر مصر، وصوت الأزهر هو صوت مصر، وكان شيوخ الأزهر ورجاله العقبة الكئود أمام طغيان الخونة من الحكام.

6- دور الأزهر القومي

لقد قام الأزهر بدور عظيم في تاريخ العلم، وفي تاريخ الإسلام وفي تاريخ العروبة وفي تاريخ الكفاح القومي على توالي العصور، ووقف قلعة شامخة في وجه كل المحاولات لاستعبادنا والسيطرة علينا. وتحطيم كياننا القومي والروحي. وقف الأزهر وحده في ميدان الجهاد فترة طويلة. كان يجاهد في ميدان السياسة وميدان العلم وميدان الإصلاح الاجتماعي والخلقي ولولاه لكان من الممكن أن تتأخر نهضتنا الحديثة عدة قرون، ولعل أبلغ وصف لدور الأزهر هو ما يذكره عنه “الميثاق الوطني”.

(وجعل الشعب العربي في مصر من أزهره الشريف حصنا للمقاومة ضد عوامل الضعف والتفتت التي فرضتها الخلافة العثمانية باسم الدين والدين منها براء، ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر مع مطلع القرن التاسع عشر هي التي صنعت اليقظة في ذلك الوقت كما يقول بعض المؤرخين، فإن الحملة الفرنسية حين جاءت إلى مصر وجدت الأزهر يموج بتيارات جديدة تتعدى جدرانه إلى الحياة في مصر كلها. كما وجدت أن الشعب المصري يرفض الاستعمار العثماني الفتح باسم الخلافة والذي كان يفرض عليه دون ما مبرر حقيقي تصادما بين الإيمان الديني الأصيل في هذا الشعب، وبين إرادة الحياة التي ترفض الاستبداد).

الفصل الخامس

الأزهر ومواكبته للعصر الحديث

تولى محمد علي حكم مصر بعد أن قام شيوخ الأزهر باختياره واليا على مصر بشرط العدالة والرجوع إلى ممثلي الشعب قبل اتخاذ أي قرار. ولي الحكم وللأزهر هذا السلطان وهذا الدور الإيجابي الذي تحدثنا عنه سابقا. هذا وكان شأن الأزهر في عهد أسرة محمد علي مؤسسة مصرية ينظر إليها الحاكمون بريبة وخوف فهم يضعفون جناحها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولكنهم أحيانا يستكينون لسبب أو لآخر، فيقومون في الأزهر بإصلاحات أو يسمحون بأن تقام هذه الإصلاحات. وبين المد والجزر يمكن أن تعد حركة جمال الدين الأفغاني ومدرسته حدا فاصلا بين عهدين وكان الأزهر مغلوبا في أولهما مما يلحقه بعهد التدهور، وكان في الثاني مناضلا يحاول أن يحرز النصر والظفر في الميدان العلمي، وفي ميدان الحياة العامة.

كان الأزهر قبل جمال الدين الأفغاني ينهض أحيانا، ولكنه يتعثر حينا، فلما جاء جمال الدين سنة 1871م والتفت حوله مجموعة من خير التلاميذ واستجاب له الرأي العام حدثت بالبلاد نهضة فكرية كان جمال الدين من مصادرها، وكان الوعي العام كبير الأثر فيها.

وكانت العلوم التي تدرس في الأزهر في هذه الحقبة – حسبما جاء في تقرير رسمي للأزهر هي الفقه والأصول والتفسير والحديث والتوحيد والنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع والعروض والفلسفة والتصوف والمنطق والحساب والجبر والمقابلة والفلك ويقول التقرير أنه بالإضافة إلى هذه العلوم المتداولة تقرأ بالأزهر بعض علوم أخرى كالهندسة والتاريخ والموسيقى وغيرها لمن لهم قدرة على دراستها غير أنه لا يشتغل بدراستها سوى القليل.

وأبرز الشيوخ في هذه الفترة هم: الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر . والسيد عمر مكرم والشيخ مصطفى الدمنهوري والشيخ سليمان الفيومي والمؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي، والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ حسن العطار.

ومن خلال هذه العوامل التي اقتضاها تيار الوعي والتقدم انتفضت مصر منذ عهد الأفغاني انتفاضة واسعة. مع أن الأفغاني لم يدرس في الأزهر إلا أن طلابه ذهبوا بأفكاره وحملوها إلى كل مكان. والفضل لذلك للوعي العام الذي ترقى لدى المصريين فما كاد صوت الأفغاني يدوي حتى التقط محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين آراءه وطوروها ونشروها، ونفى جمال الدين الأفغاني من مصر في عام 1879. بعد أن تمكنت آراؤه في مصر أكثر مما تمكنت في مسقط رأس جمال الدين أو في أي بلد من البلدان التي زارها وبعد ثلاث سنوات من منفاه بدأ التدخل الإنجليزي السافر وقد وقف رجال الأزهر جنبا إلى جنب مع الجيش والشعب يكافحون هذا التدخل ويصدونه وانحاز الخديوي توفيق إلى جانب الإنجليز فعزل عرابي، وأصدر شيوخ الأزهر فتوى تدين الخديوي وتقرر أنه (مارق) عن الدين لانحيازه إلى أعداء البلاد ووقع شيوخ هذا العصر هذه الفتوى، ومن أبرزهم الشيخ الانبابي والشيخ حسن العدوي والشيخ محمد الأشموني والشيخ يوسف الحنبلي والشيخ حسن المرصفي وغيرهم.

وعاد الاحتلال الإنجليزي فهب الأزهر لمقاومته. وكان البارودي ومحمد عبده وعبد الله النديم من أبرز قادة التفكير والقلم في الثورة العرابية وبعد انتهاء الثورة قبض على زعمائها وعلى المشتركين فيها حيث قدموا للمحاكمة ومن بينهم عدد كبير من الشيوخ الذين صدرت ضدهم أحكام قاسية منها النفي والعزل والتجريد من الرتب وعلامات الشرف. وفي هذه الفترة صدرت عدة قوانين إصلاحية سوف نشير إليها فيما بعد.

مراحل الإصلاح

ظل الأزهر منذ إنشائه مركزا عظيما للثقافة الإسلامية والعربية يستقي من ينابيعه الطلاب من مصر والعالم الإسلامي، ويتصدر للتدريس به علماء من مصر وغيرها فلا تخلف ولا جمود ولا معاناة للتفكير، ولا معارضة للتقدم، ولكن الأزهر بدأ يتوقف منذ الفتح العثماني لمصر في عام (923-1213هـ/1517-1798م) فقد فرض العثمانيون لغتهم التركية رسمية في مصر. وصارت لغة التخاطب مزيجا منها ومن العامية.

وقد استطاع الأزهر في ذلك الوقت أن يكون أعظم حصن للغة العربية حماها من أ تطغى اللغة التركية عليها.

فلما جاء القرن التاسع عشر. وبدأت مصر تتحرك وتتجدد وتأخذ بالنظم العلمية الحديثة. تعالت الدعوات إلى إصلاح الأزهر وإنهاضه وتنوعت الجهود التي بذلت لتحقيق هذا الغرض، ولعل رفاعة الطهطاوي هو أول من نبه إلى إدخال العوم الحديثة بالأزهر.

بوادر الإصلاح

أول من بادر إلى هذا الإصلاح كان هو الشيخ محمد العباسي شيخ الأزهر أيام الخديوي إسماعيل، وكان عالما ذكيا مستنيرا هاله أن بعض الناس يدعون العلم وهم جهال، كما أن بعضهم يتظاهر بطلب العلم فرارا من خدمة الجيش، فاستصدر قانونا من الخديوي سنة 1287هـ (1872م) لتطوير الأزهر وإصلاحه وينظم سير الامتحان به ومواد الدراسة.

وقد أراد الشيخ بهذا القانون أن يبعد عن الأزهر العناصر التي لا تمتاز بالعلم والكفاءة.

جهود محمد عبده في الإصلاح

تتابعت جهود الإصلاح في الأزهر بقيادة الإمام محمد عبده، ولهذا كان ينادي دائما بأن تربية الأمة وتعليمها وإعدادها للرقي خير وسيلة لضمان نهضة حقيقية قوية ثابتة ولهذا اتجه إلى إصلاح التعليم وإصلاح وتطوير الأزهر وحاول محمد عبده إقناع شيخ الأزهر الشيخ محمد الانبابي في ذلك الوقت بتوسيع منهج الدراسة وإدخال بعض العلوم الحديثة، ولكنه وجد معارضة شديدة فلما تولى عباس الثاني الحكم حاول أن يستعين به على الإصلاح فرفع إليه تقريرا عن الأزهر ووسائل إصلاحه، ولقى التقرير قبولا من الخديوي فأصدر القانون في 17 من رجب 1312هـ الموافق 15 يناير 1895م – وبمقتضى هذا القانون ألف مجلس لإدارة الأزهر من أكابر شيوخه يمثلون المذاهب الأربعة ومثل الحكومة فيه الإمام محمد عبده وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان.

وفي الوقت نفسه عين للأزهر وكيل متشوق إلى الإصلاح هو الشيخ حسونة النواوي – الذي عين فيما بعد شيخا للأزهر – وهو من العلماء المجددين والمصلحين وفي ذلك الوقت أدخلت علوم حديثة – لم تكن تدرس – كالحساب والهندسة والجبر والجغرافيا والتاريخ والخط.

وبدأت الدراسة المنظمة في الأزهر واقترح محمد عبده أن يكون الإصلاح بالتدريج وتطورا مع العصر يجب على الأزهر أن يدرس علوما جديدة.

وترتب على هذه الدعوة الإصلاحية التي نهض بها الشيخ محمد عبده كثير من التغيير والتطوير في النظم الأزهرية. منها تدريس العلوم الحديثة التي كانت محرمة لا تدرس في الجامع، وتدريس علوم السلف وإن كانت من الفلسفة أو مذهب المعتزلة، ومنها العناية بالشئون الصحية للطلبة وعلاجهم بالمجان. ومنها العناية بالحضور والغياب وتحديد مواعيد للعمل والعطلة والامتحان. ومنها ترتيب أجور ثابتة للمدرسين.

وتتوالى جهود الإمام محمد عبده في إصلاح الأزهر بالسعي لإصدار قانون جديد في 16 من المحرم سنة 1313هـ (1895م) بعد تعيين الشيخ حسونة النواوي شيخا للأزهر.

وعني محمد عبده بشئون الأزهر الإدارية، فبنى مكاتب بالقرب من الجامع بها عدد من الكتاب لمعاونة شيخ الجامع، كما جدد أروقة الأزهر وكفل لها الشروط الصحية وأوصل إليها المياه النقية، وحول قناديل الزيت الضعيفة الضوء إلى مصابيح قوية تضاء بالبترول.

ولاحظ أن الجراية التي تصرف للمجاورين ليست كافية لغذائهم فسعى حتى رفعها من خمسة آلاف رغيف يوميا إلى خمسة عشر ألفا.

ونظم إدارة الأوقاف المحبوسة على الأزهر فارتفع إيرادها من أربعة آلاف جنيه إلى أربعة عشر ألفا وسبعمائة وخمسين جنيها.

ثم قام الشيخ محمد عبده بإعداد مشروع قانون جديد آخر لتحديد اختصاص مجلس إدارة الأزهر واختصاص الأزهر وشروط قيد الطلبة ومدة الدراسة والاجازات والمواد التي تدرس وبيان علوم المقاصد (التوحيد والتفسير والحديث والفقه والأصول والأخلاق الدينية) وعلوم الوسائل (النحو والصرف والبلاغة ومصطلح الحديث والحساب والجبر والمنطق) والامتحانات للحصول على شهادة العالمية وشهادة الأهلية.

ووضعت علوم أخرى للمفاضلة بين الناجحين في العالمية للحصول على الوظائف والدرجات وهي التاريخ الإسلامي والإنشاء ومتن اللغة وتقويم البلدان ومبادئ الهندسة وكانت كلها اختيارية، كما وضعت أيضا قواعد عامة للتدريس كالعناية بالتطبيق على علوم البلاغة والنحو واختصاص علوم المقاصد بعناية أكبر من علوم الوسائل،والاقتصار على المتون وشروحها بعبارات واضحة في السنوات الأربع الأولى.

لجنة الإصلاح

رأى محمد عبده أن يستشار كبار الشيوخ في هذا الإصلاح ليسهل تنفيذه وتألفت لجنة الإصلاح من ثلاثين عضوا برئاسة الشيخ سليم البشري ثم قدم مشروع الإصلاح إلى الحكومة وصدر القانون في 20 من المحرم سنة 1314هـ/1899م.

وبذلك صارت مشيخة الأزهر مشيخة نظامية، وكثر المتخرجون في كل سنة كما ظهر التغيير الجوهري في مدة الدراسة فأصبحت السنة الدراسية ما بين تسعة أشهر إلى عشرة بعد أن كانت لا تتجاوز ثلاثة أشهر ونصف.

وعني مجلس إدارة الأزهر بصرف مكافأة للطلاب المتفوقين توزع عليهم في بدء العام الدراسي وكان ذلك ما شجع الطلبة على المنافسة في المذاكرة وتحصيل العلوم الأزهرية الحديثة ولا شك أن الفضل في إصلاح الأزهر يعود إلى الإمام محمد عبده. وقد احتمل في رسالته الإصلاحية هذه ألوانا من التشهير والظلم غير أنه لم يهتم بذلك.

جهود إصلاح أخرى

لما تولى الشيخ محمد مصطفى المراغي مشيخة الأزهر في عام 1928م تاقت نفسه إلى القيام بنهضة الأزهر فقام بجهود عظيمة على طريق الإصلاح وفتح باب الاجتهاد في العلم والدين أمام العلماء. كما قام بتنظيم مراحل الدراسة بالأزهر. ثم خلفه في مشيخة الأزهر بعده الشيخ الظواهري في عام 1929. وقام هو الآخر بجهود عظيمة في طريق إصلاح الأزهر . وصدر قانون ذلك الإصلاح في عهده 1349هـ/15 نوفمبر 1930م .

الأزهر والنهضة الحديثة

الأزهر عميق الصلة بالفكر العالمي، وكان طوال تاريخه يرسل من ضوئه إلى نواحي العالم وانتفع الأزهر كذلك بما ظهر في العالم من تقدم في العلوم والصناعات. فقد كان رجاله هم أعضاء المجامع التي أسستها الحملة الفرنسية على مصر، وبعد جلاء الفرنسيين وتولية محمد علي لم يجد غير شباب الأزهر يرسلهم إلى أوروبا للتزود بما فيها من ثقافة ومعرفة، وقد عاد هؤلاء فكانوا رسل نهضة ووعي بالبلاد، ومن ثم بدأت النهضة الحديثة ترس لأشعتها منذ عاد من أوروبا شباب البعثات الأولى ومنذ وفد جمال الدين الأفغاني إلى مصر. واجتذب إلى درسوه كثيرا من الطلاب والباب المتعطشين إلى التحرر والإصلاح فتأثروا بتعاليمه واستجابوا لدعوته إلى التفكير الحر والتزود من العلوم . وكان من ثمرات جمال الدين الأفغاني في مصر تلميذه الإمام محمد عبده.

وفي القرن العشرين رأى الأزهر ضرورة الوقوف على ما وصل إليه المستشرقون من تقدم في دراسة المواد ذات الصلة بالأزهر كما رأى أن ينتفع بطرق البحث التي أحرزت جامعات الغرب فيها تقدما ملحوظا. فأرسل عددا من خريجيه ليلتحقوا بجامعات أوروبا وأمريكا ليظل الأزهر على صلته بالتطور الثقافي والفكر العالمي، وقد عاد كثير من هؤلاء يحملون أرقى الدرجات العلمية من هذه الجامعات وأخذوا يسهمون في رفع مستوى الفكر بالجامعة الخالدة، ولا يزال بعضهم يعمل للحصول على الدرجة العلمية التي بعثوا للحصول عليها. بعثة الشيخ محمد عبده إلى الجامعات الألمانية في سنة 1931. ثم بعثة الأزهر في عام 1935 إلى ألمانيا وانجلترا وفرنسا وفي عام 1950 بعثة إلى انجلترا وفي سنة 1952 بعثة إلى فرنسا. وهناك علماء أزهريون تخرجوا في جامعات أمريكا الشمالية.

وهناك بعثات أخرى موجودة بالخارج في جامعات هامبورج وميونخ وكيل وبرلين الغربية وجامعة كوتنجن والجامعة الأمريكية بواشنطن وجامعة ميتشجان ونيويورك وجامعة جورج واشنطن وجامعة برنستون.

كذلك قام الأزهر في عام 1954 بإنشاء مدينة البعوث الإسلامية للطلبة الوافدين الذين يفدون إلى مصر من شتى بقاع العالم لتلقي العلم في رحاب الأزهر ، وقد أقيمت المدينة على مساحة 30 فدانا وتتكون من 41 عمارة سكنية بها كل وسائل الإعاشة الكاملة للطلبة وبها مسجد أيضا يتسع لأكثر من خمسة آلاف شخص. كما أقيمت بجانب هذه المباني عدة مرافق أخرى هامة لخدمة هؤلاء الطلبة ورعايتهم. والمعروف أن الأزهر يدرس به طلبة 54 جنسية مختلفة.


خاتمة

إذن : الأزهر الشريف له دور كبير منذ أن أنشأته الدولة الفاطمية. واستمر عطاء الأزهر في مصر والمجتمع الإسلامي. وكان عطاء الأزهر شامخاً. إلى أن سقط الأزهر بفعل عوامل كثيرة.

من أهم هذه العوامل الاختراق الأمريكي: حيث أدركت أمريكا دور الأزهر فتدخلت في مناهجه. وكان يمكن ألا تقترب من الأزهر. ولكن ضعف هذه المؤسسة مهد لها السبيل.

ولذلك تدخلت في مناهج الأزهر وأصبح الشيوخ أمام سكرتيرة السفارة الأمريكية يعرضون عليها المناهج باعتبارها بعيدة عن تعاليم الإرهاب.

وأمريكا تعلم يقينا أن مناهج الأزهر بعيدة عن الإرهاب ولكنها تريد من وراء ذلك تخويف هذه المؤسسة التي أصبحت خائفة أكثر من الخوف نفسه.

ولذلك خضع الأزهر لاستقبال حاخام اليهود وبطاركة الفاتيكان وما هب ودب . وهذا يشير إلى ا لكارثة التي أحاطت بالأزهر من كل جانب.

هناك في الأزهر – والحمد لله – علماء ورجال . ولكن هؤلاء لا يملكون من الأمر ولذا فهم بعيدون.

والأزهر في مؤسساته التعليمية خاضع لتعليمات أمريكا والبيت الأبيض والبيت الأحمر.

ومن أهم عوامل الاختراق: الاختراق الوهابي . والاختراق الوهابي مهد للاختراق الأمريكي. لأن الوهابية عميلة للاستعمار الأمريكي وللغنوصية والديصانية. وما جري مجرى هذه التيارات والاختراق الوهابي من أخطر الاختراقات.

وقد اخترقت الوهابية طلاب المؤسسات الدينية. فجعلت أفراداً منهم يؤمنون بتطويل الدقن، وتقصير الثوب.

وكذلك اخترقت الوهابية كثيراً من الأساتذة الذين يذهبون للتدريس في معاهد وكليات الوهابية.

ومن المعروف أن كثيراً ممن ينتسبون إلى مؤسسة الأزهر يجيدون الميل إلى الوهابية لينالوا عطاءًا مادياً أكبر.

وقد رأينا بعض هؤلاء يكفر كل شئ في مصر. فشيخ الأزهر كافر وطه حسين كافر والعقاد كافر. ومن الغريب والعجيب أنك حينما تكفر المصريين أمام الوهابيين تنشرح صدورهم، ويزداد امتداد أرجلهم، وتحدث عندهم نشوة . حتى ابن حجر شارع صحيح البخاري في كتابه. فتح الباري. كفروه لأنه مصري أشعري. وقد جمع فتح الباري في جامعة أم القرى وأحرقت نسخة.

كما أن الشيخ ابن باز مفتي المملكة العربية السعودية. قبل أن يموت علق على بعض أجزاء فتح الباري. باعتبار أن عقيدة ابن حجر تحتاج إلى مراجعة من ابن باز.

وقد اشتريت كتب من مكتبات المدينة المنورة ترد على ابن حجر في فتح الباري.

المهم : أن المصريين تم اختراقهم. والكثير منهم أصبح له ذقن طويلة. وهذا – ولا شك – في عمالته.

فإذا رأيت شخصا مصريا ثوبه قصير وذقنه طويل فاعلم أنه عميل. فالمصريون الأزهريون كثير منهم إذا عاد – وقل من يعود – أصبح داعية وهابي يؤثر في طلابه، وفي خطبة.

ولذلك ابتليت مصر بهؤلاء السفلة . الذين يبيعون أوطانهم، ومجتمعاتهم. لمذاهب هدامة. ويروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال “لا تعلموا أبناء السفلة العلم وإن علمتوهم لا تولوهم”.

ويحفظ الناس هذا الحديث جيدا خاصة أبناء الصعيد في مصر ومن يتعلم في الأزهر قد يجني شوكاً.

أولا :    لا يعين مدرساً في الأزهر إلا إذا دفع بالتي هي أحسن ولا يعين إماماً في الأوقاف إلا بالتي هي أحسن. وذلك كله منشور في الصحف والمجلات.

ثانيا :   كثرت سرقات الرسائل. وقد نشرت صحيفة آخر ساعة صفحات عن سرقة هؤلاء المشايخ.

في مرة كنت في إحدى القنوات الفضائية تتحاور مع واحد من هؤلاء الشيوخ. فذكر معد البرنامج أن لي أكثر من مائة كتاب. فقال أحد هؤلاء الذين سرقوا رسائلهم. إن مائة كتاب. كلها إنشاء . فاضطر في هذا السافل لأن أقول هذا أحسن من الذي سرق رسالة الدكتوراه مثلك وقد كتبت ذلك الصحف حتى المقدمة سرقتها كما نشرت مجلة الهلال.

ومع هذا فقد تولى هذا الشيخ الكبير منصباً كبيراً في مؤسسة الأزهر. إذن هؤلاء حرميه ، والذين يسرقون الرسائل لا يمكن أن يكونوا علماء يخدمون مجتمعاتهم ، والإنسانية.

ولما كان كثير من هؤلاء من بيئات لها ظروفها امتدت أيديهم، وتم اختراقهم من الولايات المتحدة، والوهابية الغنوصية. وما هب ودب.

الفصل الثاني

العلمانية والغلو ودور الأزهر تجاههما

بقلم الشيخ / جواد رياض*


مقدمة :

كلمة حق أقولها وربما يشكك فيها البعض ـ فما أكثر من يشككون فيما يقال ـ : إننى سمعت بنفسى ـ فى إحدى حلقات التليفزيون المصرى وكانت مسجلة من جامعة الأزهر ـ سمعت شيخ الأزهر عندما سئل عن الغزو الفكرى الأمريكى ، وما يريده الأمريكان من فكر يدرس ومن تطوير يطلب . قال شيخ الأزهر : إن كان ما يقوله هذا الفكر من هؤلاء أو من غيرهم يوافق شريعتنا ومبادئنا وديننا ولا يتعارض مع هذا كله قبلناه ، وإن كان هذا الفكر لا يوافق شريعتنا ومبادئنا ، ويتعارض مع أمر من أمور ديننا فإننا نجعله تحت أقدامنا ، ولا نهتم به ولا نوافق على شئ منه .

هذه الكلمة سمعتها بنفسى ولم يبلغنى أحد بها ، فإن وثق القارئ فى كاتب هذا البحث ، قبل ما يقول وإن لم تكن هناك ثقة فإن التشكيك أصبح عادة للبشر .

الأزهر يتميز بأن به مجموعة من كبار العلماء هم الذين لهم الرأى والمشورة والفتوى الأخيرة بشأن أمر من الأمور أو قضية من القضايا أو القطع فى فتوى من الفتاوى المختلف فيها .

هذه المجموعة من العلماء يضمها مجمع هو : ” مجمع البحوث الإسلامية ” الذى هو تطوير لهيئة كبار العلماء قديما . هذا المجمع به خمسون عالما : ثلاثون من مصر وعشرون من البلاد الإسلامية ، وهؤلاء الأعضاء ينتخبون ـ كما هو الحال فى المجامع العلمية واللغوية ـ وغالبا ما يكونون فى أواخر حياتهم سنا وعلما .

وهؤلاء العلماء يقولون رأيهم دائما فى كل قضية تثار سواء كانت القضية خاصة بالأزهر ، أم عامة تخص أحوال الإسلام والمسلمين .

وإذا قالوا رأيهم فإنه يمثل شرعا رأيا جماهيريا على الأقل إن لم يكن رأيا إجماعيا ، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إجماع علماء الأمة ، فقال : ” إن أمتى لن تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ” [1] ، وفى رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم : ” إن الله لا يجمع أمتى أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار ” [2] وفى رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم : ” إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة “[3] ، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأمة معصومة فى اجتماعها على رأى ، والمقصود من الاجتماع هو اجتماع العلماء وأهل الحل والعقد ، وليس المقصود اجتماع العوام ، فالعوام قد يجتمعون على شئ لا يرضى الله سبحانه وتعالى . فما دام العلماء قد اجتمعوا على رأى يستند إلى دليل من القرآن والسنة ، فلا يكون هذا الرأى مخالفا للشرع بحال من الأحوال .

ولو اجتمع أكثرهم على رأى فالغالب على الظن أنه هو الرأى الصحيح ، لقوله صلى الله عليه وسلم ـ فيما روى عنه ـ : ” …….. فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ” .

هؤلاء العلماء يعبرون دائما عن رأيهم بعد دراسة وفحص وتدقيق ، وهؤلاء العلماء نثق برأيهم ، لأنهم أولا : أعلام ، وثانيا : صالحون [4] .

والرأى الذى يعبرون عنه ينشر فى مجلة الأزهر الشهرية ، التى تصدر عن المجمع كما ينشر الرأى فى الوقائع المصرية والجرائد الرسمية .

والمجمع هو الهيئة العليا الإسلامية التى تقوم بالدراسة فى كل ما يتصل بالبحوث الإسلامية ، كما أنه يعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول ، وآثار التعصب السياسى والمذهبى ، وتجليتها فى جوهرها الأصيل الخالص ، وتوسيق نطاق العلم بها لكل مستوى وفى كل بيئة ، وبيان الرأى فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة ، وحمل تبعة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة [5]

وبالأزهر هيئات أخرى مثل : المجلس الأعلى للأزهر ، وإدارة الثقافة والبعوث الإسلامية ، بالإضافة إلى الجامعة والمعاهد الأزهرية .

ومع ذلك فإنك تجد من يتهم الأزهر ورجاله بأنه قد دخله الفكر الغربى والأمريكى ، وتسيطر عليه الأوامر الأمريكية .

وفى الحقيقة ينبغى علينا كما نقدم النقد دائما نقدم الحق فى أوانه أيضا ، فلماذا لم يذكروا شيخ الأزهر عندما اعترض على توريث الدولة للميت مع ورثته ! ، ولماذا لم يذكروا اعتراض شيخ الأزهر على جمع أموال الزكاة عن طريق الجهات الحكومية خوفا من عدم وصولها إلى مستحقيها! ، ولماذا لم يذكروا ما قاله شيخ الأزهر عندما أصدر بيانا نشرته جريدة الأهرام – ردا على ما قاله عضو الكونجرس الأمريكى والمرشح للرئاسة الجديدة والذى دعا إلى ضرب الكعبة والمسجد النبوى – قال شيخ الأزهر فيه : إننا سنكون القوة الروحية التى ستقف وراء المسلمين ليدافعوا عن مقدساتهم بكل ما أوتوا من قوة .

ولكن عين النقد لا ترى سوى جانبا واحدا .

إن الأزهر قد وقف صامدا أمام قرارات كثيرة ومؤامرات شتى ، ولكن النقاد لا يذكرونها.

إننى قرأت فى إحدى الجرائد المعارضة مرة أن أمريكا تتدخل فى المناهج الأزهرية ، وأنها طالبت الأزهر أن يحذف آيات الجهاد وموضوعات الجهاد من الكتب المقررة على طلبة الأزهر ، وقد تم ذلك وحذف الأزهر هذه الموضوعات !

وعندما تفحصت بدقة هذا الموضوع ـ فأنا لست ممن يسيرون وراء الكلام دون تحقيق ـ وجدت الأمر على خلاف ذلك ، ووجدات الآيات لم تحذف والموضوعات الجهادية كذلك لم تحذف .

وقبل أن ينشر الكاتب هذا الكلام ألا يتعب نفسه قليلا ويتأكد من الحقيقة قبل نشرها .

بل الأعجب من ذلك أنه جاءنى أحد الأخوة الذين قرأوا هذا الكلام ، وجاء يكرر أمامى هذا الكلام ويتهجم دون وعى . ومن حسن الحظ ساعتها أن امتحان السنة الأولى الثانوية الأزهرية فى الفقه كان فى يدى إذ أحضره لى أحد الأخوة ، وكانت أكثر الأسئلة تدور حول الجهاد وفرضيته ، فأريته للذى يحدثنى ويتهجم على الأزهر ، وقلت له : ليس كل ما تقرأ تصدقه .

لا شك أننا نعيش زمنا به كثير من المغالطات ، ولا شك أن الأزهر دخله بعض الوهن فى إعلانه عن رأيه ، وفى وجود سبل للتعبير عن هذه الآراء ونشرها ، ولكنه ظل صامدا وسيظل ـ بإذن الله ـ صامدا طيلة العصور القادمة ، لأن الأزهر هو المؤسسة التى جعلها الله سببا لحفظ هذا الدين ، والابتعاد به عن التشدد والتطرف والغلو ، والوصول بهذا الدين إلى عمقه ووسطيته التى كان يسعى من أجلها السلف الصالح والصحابة والتابعون .

ما نود أن نراه فى صحافتنا وفى إعلامنا هو توقير الأزهر لمساعدته على الاستمرار فى القيام بدوره ، وأن يكون النقد نقدا بناء نسعى من خلاله إلى التعديل والتغيير وقبول الرأى الآخر لنصل إلى أسمى درجات الكمال المرجوة .

أما أن يكون الإعلام والصحافة مجرد سب وقذف وتأويل على غير المراد ، فهذا سعى إلى الإفساد وليس رغبة فى الإصلاح ، لأن هذا الكلام بهذه الصورة يؤدى إلى تحطيم مكانة الأزهر فى قلوب العامة ، كما يؤدى إلى تشويه الأزهر فى عيون الآخرين .

وإن إثارة التهجم على الأزهر فيه أيضا تدعيم لخطط التشدد والتطرف ، لأن الذين يشككون فى الأزهر وفى قدرته على الدعوة وعلى التصدى للفكر المنحرف ، كأنهم يقولون للناس بطريق أوبآخر : اسمعوا لهؤلاء الدعاة غير المتخصصين ، اسمعوا لهؤلاء الدعاة المتشددين ،  ولاتسعموا لهؤلاء الأزهريين .

فهذا هو الذى يصل إلى الناس بطريقة غير مباشرة .

وبذلك فإن هؤلاء المتهجمين على الأزهر يعطون الفرصة للإرهاب أن ينتشر ، ويعطون الفرصة للفكر المتشدد أن يستمر ، وأن يأخذ طريقه إلى الناس ، وإلى قلوبهم .

منذ فترة من الزمن [6] ـ وفى التسعينيات من القرن الماضى ـ تهجم بعض الكتاب الشيوعيين والعلمانيين على لجنة الفتوى بالأزهر ، عندما أصدر اللجنة فتواها بوجوب الحجاب وفرضيته ردا على قرار وزير التعليم آنذاك ، فاتهموا اللجنة بأنها تكفر المجتمع ونظام الحكم ، وأنها تتكلم بلغة الإرهاب ، ومن العجب أنهم اتهموا اللجنة بعدم مشروعيتها!

وبالرغم من أن هذه اللجنة لها سندها الشرعى والقانونى ، فإن هؤلاء قد اتهموها بهذا الاتهام . فقانون إصلاح الأزهر سنة 1896 هو أول من وضع الأساس لهذه اللجنة ـ وإن كانت الفتوى قبل هذا التاريخ من واجبات الأزهر ـ  وفى سنة 1935 كان قرار تجديد إنشاء اللجنة [7] ، وتم إعادة تشكيل اللجنة فى سنة 1938 ، وفى سنة 1959 تم إعادة تكوين اللجنة ، وكذلك فى سنة 1965 ، وكذلك فى سنة 1984 تم إعادة تنظيم اللجنة ، وفى سنة 1990 تم إنشاء لجان الفتوى على مستوى الجمهورية ، وفى الوقت الحاضر فإنه يستند وجود لجنة الفتوى قانونا إلى القانون رقم 103 لسنة 1961 .

وهذه اللجنة منذ إنشائها وهى تلقى تقدير المسلمين واحترامهم بسبب منزلتها الرفيعة التى تحتلها فى قلوب المسلمين ، وسمو رسالتها التى تبصر الناس بأمور الدين ، فهى صوت الأزهر .

وما زالت اللجنة محل ثقة ، لأنها تقوم بأشرف رسالة بجهد متواصل فى طريق الفتوى والاجتهاد ، واستخراج الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع الفقهاء .

وهذه اللجنة لم تقصر فى واجبها فى وقت من الأوقات .

وهذه اللجنة يتوافر فى أعضائها شروط صعبة تؤهلهم لهذه العضوية وهذا المكان ، والتى من أهمها : العلم ، والأمانة العلمية ، والتقوى ، والورع ، ونبل الغاية .

وصل الأمر بهؤلاء العلمانيين أن يشككوا فى هذه اللجنة التى تقدم رسالة خير ، والتى يتحقق فيها وفى أعضائها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” …. إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ” [8]

ولم يكتف هؤلاء بنقض لجنة الفتوى فقط بل أشهر هؤلاء سلاحهم فى وجه المفتى أيضا ، لأنه أفتى بنفس الفتوى التى تخص حجاب المرأة ، فعندما قال المفتى : ” إن كل مسلمة بالغة لا تلتزم بستر ما أمر الله تعالى بستره مهما كان شأنها ومهما كانت صفتها هى آثمة وعاصية ”

عندما قال ذلك وصفوا قوله بأنه قول قاس شديد لم يعهد صدوره من فضيلة المفتى الذى عرف بالسماحة والوداعة ، ولعله فرط منه فى حماس الرد علينا .

هم يريدون هذه السماحة من المفتى التى تصل إلى إبطال ما فرضه الله سبحانه وتعالى.

والهدف من هذا الهجوم كله ربما يكون ، أو من المؤكد أنهم يريدون بذلك أن تكون الأحكام المتعلقة بالشرع الحنيف على الهامش ، وأن تكون الحياة حرة بغير قيد أو حكم.

واضطر الأزهر بعد ذلك أن يرد مرة أخرى فى جريدة الأهرام ، وفى مجلة الأزهر على هذه الكتابات التى ليس من ورائها إلا إثارة الشكوك .

فعلماء الأزهر يعلنون حكم الدين فى الأمور الدنيوية ، حتى لا ينسب إليهم كتمان العلم وحتى يؤدوا ما فرض الله عليهم .

فالأزهر دائما رافض لأى فكر يأتى من الخارج ويتعارض مع الشريعة ، كما نوهنا من قبل فى حديثنا .

والأزهر يدعو إلى الحق ، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن ، ويتخير من الآراء المذهبية الرأى المناسب .

الأزهر له دور كبير وعظيم أيضا فى رد الفكر المنحرف وتبنى الوسطية ونبذ التشدد والفرقة ، فلم يرض الأزهر فى يوم من الأيام أن يدخل عليه ما يشوشه ، بل إنه ظل مدافعا عن الدين بالدليل العقلى والنقلى .

أما عن الفكر المنحرف أو الوارد من الخارج ، ورد الأزهر عليه ، بل رفضه إذا خالف الشريعة الإسلامية السمحاء ، فإن الأمثلة كثيرة ولا حصر لها إلا أن ذلك واقع وقائم وحقيقى ، فقد كان لمجمع البحوث الإٍسلامية منشورات كثيرة ترد الفكر المنحرف والغربى ، وتثنى على الفكر المعتدل الذى يوافق الشريعة الإسلامية حتى وإن كان قائله غير مسلم .

ولكن هؤلاء الذين يتهجمون على الأزهر بالليل والنهار لا يطلعون ، فقد سألت أحدهم مرة وهو يتهجم على الأزهر ، فقلت له أتقرأ مجلة الأزهر ؟ قال : لا . قلت له : وكيف تحكم على الفكر وعلى المؤسسة وأنت لا تعلم شيئا عنها البتة .

فمجلة الأزهر هى أبسط شئ يعبر عن الأزهر ومجمعه ، فضلا عن منشوراته وبحوثه التى تنشر بكثرة وبلا حصر .

من الأمثلة على ذلك :

كتاب : الرد على كتاب الفريضة الغائبة .

كتاب : الإسلام وأصول الحكم فى الميزان .

كتاب : ملاحظات علمية على كتاب المسيح فى الإسلام للدكتور ميشال الحايك

وغير ذلك كثير .

وهذا بخلاف المقالات الكثيرة والمتنوعة والمتعمقة التى ترد هذا الفكر .

وهذه الكتب وأسماؤها ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر ، فهذه الكتب والدراسات لا تحصى.

كما أن الأزهر ومجمعه يقوم يوميا بمراجعة الكتب التى ترد إليه ، ويقول رأيه فيها ، وإذا كانت هذه الكتب تحوى فكرا منحرفا عن شريعتنا فإنه ينبه على ذلك بوضوح .

دور الأزهر فى الرد على الفكر المخالف لشريعتنا :

* عندما وضعت اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة [9] ، والتى افتتحت بموادها التى بلغت ثلاثين مادة ، منها ست عشرة مادة نصت على ما يجب وما يمتنع بالنسبة للمرأة وواجبات الدول الموثقة نحو الالتزام بتلك الأحكام وبتنفيذها ، وباقى المواد فى تنظيم سبل ووسائل التصديق على هذه الاتفاقية ، وانتخاب لجنة تتبع الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة تقوم على تنفيذها ، وقد نظمت المواد ( 17 – 30 ) تشكيل هذه اللجنة وخطة المتابعة ، والتصديق وسائر الإجراءات المتعلقة بمتابعة التنفيذ والتحكيم .

وهذه الاتفاقية فى جملتها تعبر عن رغبة المجتمع الدولى فى تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة مستهدفة بذلك القضاء على التحيز أو التمييز ضد المرأة .

وقد قام الأزهر بنقد ونقض هذه الاتفاقية ، وبيان أن تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة يتطلب إحداث تغيير فى الدور التقليدى للرجل وكذلك فى دور المرأة فى المجتمع والأسرة ، فيه تجاوز لطبيعة كل من الرجل والمرأة وما استكن فى هذه الطبيعة المتغايرة من الكثير من الخصائص والوظائف العضوية والنفسية وإن تساويا فى الإنسانية .

وبين الأزهر أن نصوص الإسلام فى مصدريه الأساسيين ـ القرآن والسنة ـ لا يجيزان كل هذا التغيير الذى تبتغيه هذه الاتفاقية فى المبررات التى سيقت فى افتتاحيتها .

فالأمر الذى لا تقره قواعد الإسلام هو استهداف التغيير فى الدور التقليدى لكل من الرجل والمرأة ، فطبيعة الخلقة تختلف ، ولكل وظيفته ، وتحديد المسئولية عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله : ” كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع فى أهله ومسئول عن رعيته والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها … ” [10]

وبين الأزهر فى نقده لهذه الاتفاقية أن القرآن الكريم عنى بشئون المرأة فى أكثر من سورة ، حتى عرفت إحدى السور بـ ( سورة النساء الكبرى ) وعرفت أخرى بـ ( سورة النساء الصغرى ) وهما : سورة النساء ، وسورة الطلاق .

فالمرأة لم تحظ بهذه المكانة فى شريعة أخرى ، ولا فى أى مجتمع إنسانى على مر العصور.

وبين الأزهر أيضا أن بعض القضايا التى جاءت فى هذه الاتفاقية جاء تقليدا لمجتمعات بعيدة عن المنهج الإسلامى ، وبعضها جاء وليدا لعادات وأعراف توارثها الناس .

* وأيضا عندما صدر كتاب المسيح فى الإسلام [11] للدكتور / ميشال الحايك أصدر الأزهر كتابا ينقده ويعلق عليه وذلك فى سنة 2006 م .

فقد صدر هذا الكتاب لمؤلف كاثوليكى مارونى لبنانى درس فى الجامعة اليسوعية والجامعة الكاثوليكية ، وحصل على الدكتوراه فى أصول الدين من جامعة السوربون بباريس ، وعمل أستاذا للدراسات الإسلامية بالجامعة الكاثوليكية ببيروت .

وهذا الكتاب صدرت منه الطبعة الأولى سنة 1960 م بعنوان ( المسيح إمام المسلمين) ، ثم صدرت طبعته الثانية سنة 1961 م بعنوان ( المسيح فى الإسلام ) ، وصدرت الطبعة الثالثة بنفس الاسم سنة 2004 م .

وقد صدر هذا الكتاب بإذن وتمثيل من المؤسسة الدينية المارونية .

وقد انتقى المؤلف عبارات الكتاب من مؤلفات التصوف الباطنى المليئة بالأساطير والخرافات ، وقد تناول الكتاب الحديث عن المسيح فى القرآن ، وزكريا ويحيى ، ومريم البتول ، ومعجزات عيسى فى طفولته ، وعن الحواريين ، وعن مواعظ المسيح ، وعن المسيح كإمام للسائحين ، وعن رفع المسيح .

وقد قام المؤلف بتجاوزات ، وذلك بالافتراء على القرآن الكريم والإسلام وبعض علماء المسلمين ، كى يشهدوا لعقائد المسيحية التى تخالف وتناقض العقيدة الإٍسلامية .

وأيضا عندما صدر كتاب ( الفريضة الغائبة ) أصدر الأزهر ردا ونقدا على الكتاب بعنوان (نقض الفريضة الغائبة ـ فتوى ومناقشة ) [12] .

كتاب الفريضة الغائبة احتوى على بعض تفسيرات لبعض النصوص الشرعية ، وعنى بفريضة الجهاد ، داعيا إلى إقامة الدولة الإسلامية مدعيا أن حكام المسلمين اليوم فى ردة ، وأنهم أشبه بالتتار ، ويحرم التعامل معهم ، أو معاونتهم ، ويجب الفرار من الخدمة فى الجيش ، لأن الدولة كافرة ، ولا سبيل للخلاص منها إلا بالجهاد وبالقتال ، وأن أمة الإسلام تختلف فى هذا عن غيرها فى أمر القتال كأمر الله فى القرآن ، وأن القتال فرض على كل مسلم ، وأن هناك مراتب للجهاد وليست مراحل ، وأن العلم ليس هو كل شئ ، فلا ينبغى الانشغال بطلب العلم عن القتال ، وأن آية السيف نسخت من القرآن مائة آية وأربعا وعشرين آية .

وقد تم فى الرد على هذا الكتاب مناقشة الآراء والقضايا التى يحتويها هذا الكتاب ، والرد عليه بطريقة علمية من خلال القرآن والسنة وآراء علماء الأمة .

* وأيضا عندما صدر كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) لعلى عبد الرازق أصدر الأزهر كتابا لنقده والرد عليه وعنوانه : ( كتاب الإسلام وأصول الحكم فى الميزان ) [13] هذا فضلا عن الذين ردوا على هذا الكتاب ونقضوه من علماء الأزهر الأعلام ، أمثال : محمد بخيت المطيعى ، ومحمد الخضر حسين ، وعبد الوهاب خلاف ، ومحمد أبو زهرة ، ومحمد الغزالى … وغيرهم.

وكتاب الإسلام وأصول الحكم بدأ تأليفه على عبد الرازق فى سنة 1915 وقضى فيه تسع سنوات قبل سقوط الخلافة ، والذى دفعه إلى ذلك هو البحث عن تاريخ القضاء الشرعى الذى هو فرع من فروع الحكومة ، وركن كذلك ، مما دفعه لدراسة الحكومة فى الإسلام والخلافة .

وقد حاول المؤلف أن تكون الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة ، لا صلة لها بالحكم والتنفيذ فى أمور الدنيا ، مما دفعه أن يقرر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جهاده فى سبيل نشر دعوته للملك لا للدين .

وحاول المؤلف أن يثبت أن مهمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا مجردا عن الحكم والتنفيذ ، وحاول المؤلف أن ينكر الإجماع المنعقد على تولية حاكم أو خليفة يقوم على تنفيذ الشريعة وتطبيقها .

وحاول أن يقرر أن حكومة الخلفاء الراشدين لم تكن دينية بل كانت دنيوية .

وقد تم الرد على هذا الكتاب بالأدلة والبراهين العلمية .

* ومن أجمل ما قام به الأزهر وعلماؤه ما أعد من كلمة خالدة [14] ، قدمت وأهديت لهؤلاء الضباط الذين قادوا ثورة 1952 م ، قدمت هذه الكملة وهى باقة من سياسة هذا الدين التى تنزلت على محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ليعالج بها مواقف شديدة حدثت . هذه الكلمة أعدت لتكون نورا وضياء يستضئ به أصحاب الثورة فى علاج مشاكل مصر .

وقد نشر الأزهر هذه الكملة فى كتاب أسماه ” من سجل الخالدين ” قدم فيه المؤلف هذه الكملة التى نادى بها أبناء العروبة والإسلام وشباب الوطن وأبناء الأزهر الشريف ـ هذا المعهد العلمى العتيد كعبة العلوم والمعارف ـ نادى هؤلاء جميعا أن يقلبوا صفحات ذلك الكتاب ليروا العزة والعظمة والملك الذى اغتصبه الغربيون ، ليروا تراث أمتهم ويتخذوه نبراسا لهم .

وقد تعرض الكتاب إلى :

تأسيس الدولة على الشورى بين الأحرار ، وأن الشورى حق لأهل الرأى والمعرفة ، وضرب نماذج مختلفة لاستشارات الرسول صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد وغزوة الخندق ، وغير ذلك من الأمور . كذلك نبه على الشورى فى أمر الحاكم العام وكيفية تنصيبه . وضرب المثل باختيار أبى بكر وعمر ، ولماذا بايع الأزهر محمد على ، فإنه كان على رأس الأسرة العلوية وبايعه ليتخلص من بقية المماليك وحروبهم ومظالمهم ، ويحمى شعب مصر من سطوات تالية ، ولم يبايعه الوطن لتستحلبه الأسرة وتجنى منه إتاوات للأمراء والأميرات ، فذلك أمر لا يقره أحد .

كما تعرض الكتاب لحاجة الدعوة الإسلامية إلى الجيش ، وكيف أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المحاربين والمدافعين عن دعوته وقومه . وتعرض كذلك لكيفة البيعة الأولى والثانية ، وإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالقتال ، ونشأة الجيش فى الدولة الإٍسلامية وكيفية تدريبه .

كما تعرض الكتاب لواجب الأغنياء ، وكيف كان موقف الأغنياء فى الصدر الأول تجاه الضعفاء والفقراء ، وما واجب الأغنياء تجاه أمتنا فى عصرنا الحاضر .

كما تعرض الكتاب لأخلاق الصدر الأول فى الإسلام ، من إنكار الذات ، وترك الأثرة ، ورعاية المصلحة العامة وجعلها فوق كل اعتبار .

كما تعرض الكتاب للصورة المثالية لولاة الأمور ، وبدأ ذلك بالحديث عن ولاة الأمور فى عصور الدولة الإسلامية الأولى .

كما تحدث الكتاب عن الفدائية والرغبة فى القتال .

كما تحدث الكتاب عن الدروس الحربية للقائد الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم عن حظـر النشر ، وتدارك الضرر ، وسلاح الحدود ، والإعـدام عقـوبة للخائن.

كما وضح أن الإيمان لا يجتمع أبدا مع حب الأعداء .

* وقد كان للأزهر مواقفه أيضا مع العلمانية [15] ، فقد صدرت عدة إصدارات وألقيت أبحاث كثيرة وندوات عن العلمانية ومدى خطرها على الإسلام . ومن هذه الإصدارات على سبيل المثال كتاب ” العلمانية والإسلام ” الذى وضح فيه المؤلف كيف فرض الاستعمار فى القرن التاسع عشر العلمانية فى تعليمنا وتشريعنا وتفكيرنا وسلوكنا وسياستنا واعتقادنا ، ففصل بين الإسلام وحكم الدولة ، وأبعد الإٍسلام عن مجالات الحياة العامة ، وجعل الإٍسلام داخل المسجد وفى قلوب الناس يمارسونه اعتقادا فقط ، ولا يطبقون شيئا فى حياتهم العملية .

كما أن الاستعمار الغربى يحاول منذ الحرب العالمية الثانية أن يفرض علينا علمانية من نوع آخر متطرف يحاول فيه إلغاء الدين عقيدة ، ويفرضها علينا كحل لمشكلة إزدواج السلطة ، وكحل لتحقيق ما يسمى بالعدالة الاجتماعية من وجهة نظرهم .

وقد تعرض الكتاب لمفهوم العلمانية ، كما تحدث عن ماركس والمسيحية ، ولينين فى تطبيق الماركسية ، وعن العلمانية المتطرفة .

كما تحدث عن الإسلام وموقفه من العلمانية ، ومفهوم الحكومة الدينية .

كما تعرض الكتاب للعلمانية فى التطبيق فى البلاد الأوربية وفى البلاد الإسلامية .

* ومن أروع ما قام به الأزهر وأصدره كتاب ” بيان للناس من الأزهر الشريف ” [16] حيث تعرض هذا الكتاب لمفاهيم عديدة وبين رأى الأزهر فيها بوضوح .

والكتاب مكون من جزأين :

ـ تعرض الجزء الأول فى مقدماته لمعنى الانحراف ، وهو الميل عن القصد ، كما تعرض للانحراف الفكرى ، والانحراف فى الرأى ، وهو التعصب لحكم اجتهادى ليس له دليل قاطع فى ثبوته أو دلالته .

ـ وتعرض كذلك للانحراف فى العقيدة ، وهو إنكار وجود الله عز وجل ، وكذلك الغلو فى الإيمان .

ـ كما بين أن أخطر أنواع الانحراف هو انحراف الفكر والبعد عن القصد ، لأن السلوك نابع منه ، ومتأثر به .

والانحراف له طرفان : أحدهما إفراط والآخر تفريط ، فى الرأى والعقيدة ، والخطورة عندما يجهر الإنسان بذلك ، ويحاول أن يفرض ذلك على غيره أو يستميله إليه .

والانحراف فى السلوك يكون غلوا أو إهمالا ، قد يضر بغيره عن طريق المحاكاة والقدوة ، وهنا تكون الخطورة .

ـ كما تعرض الكتاب لموقف الإسلام من الانحراف ، فالإسلام جاء ليقرر العقائد الأصيلة التى هى العمد الأساسية لحياة المجتمع ، والتى توارها الناس جيلا بعد جيل وجاء الرسل لتثبيتها والتشجيع عليها .

والإسلام ينهى عن الانحراف فى أى مجال : فنهى عن الإلحاد ، ونهى عن المغالاة فى الاعتقاد ، ونعى على التقليد الأعمى للآباء والأجداد ، ونهى عن الانحراف فى الاستدلال بالاعتماد على الظنون أو السفسطة أو التعجيز .

كما نهى عن تحكيم الهوى فى الاستدلال بالنصوص ، أو فى اختيار الأدلة والأقوال المرجوحة وإيثارها على القوية الراجحة .

كما نهى عن اختلاق الأدلة ونسبتها إلى مصدر التشريع .

كما نهى عن التطرف فى الحكم ، والتعصب للرأى الاجتهادى منعا للفتنة ، وسدا لباب النزاع .

فالاختلاف السياسى والتعصب للمذاهب والآراء جعل كثيرا من المغالين يستبيحون لأنفسهم تأييد آرائهم بوضع أحاديث كاذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وافترق المسلمون فرقا شتى بسبب التعصب ، وأشدها خطرا ما اتصل بالعقائد ، فوصل إلى تكفير بعضهم بعضا .

واختلاف الآراء فى الأحكام الفقهية الاجتهادية لا ينبغى أن يكون داعيا إلى التعصب لرأى منها والحكم عليه بأنه هو وحده الصواب ، وبأن غيره هو الخطأ .

وقد دعا الإسلام إلى القصد والاعتدال ونهى عن المغالاة والتطرف .

ـ وتعرض الكتاب أيضا لتاريخ التطرف ، من بداية موقف ابنى آدم الذى انتهى بأول جريمة وقعت على الأرض ، والتاريخ وقصص الأنبياء والمرسلين وقصص الملوك ، كل ذلك شاهد على هذه الحقيقة حقيقة التطرف . قال تعالى ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ) [17]

ـ وبعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان أول خلاف بينهم فى مكان دفنه ، وكان انحراف الأعراب الذين منعوا الزكاة ، وقام أبو بكر بالقضاء على الردة ، ثم تسلم عمر الزمام بعده ، وباستشهاده جاء عثمان ، وكانت العصبية التى انتهت باستشهاده ، ثم كان النزاع بين على ومعاوية ، وانتهاء الأمر بتعدد الفرق ، وهكذا استمر الخلاف ، واستمر تخطيط الاستعمار على مر العصور إلى ما نشاهده اليوم ، وظهر العنف فى السلوك فى خلال تاريخنا كله .

ـ وقد ظل الأزهر صامدا طوال عشرة قرون يرقب الخلافات فيقوم معوجها ، وينير الطريق أمام الراغبين فى الإصلاح .

ـ وكان لمصر بفضل الأزهر الشريف دور كبير فى نشر الدين واللغة فى العالم الإسلامى كله ، وذلك عن طريقين : أولهما : إيفاد العلماء للتعليم والقيام بالأنشطة الدينية ، وثانيهما : استقبال الطلاب الوافدين من جميع أقطار العالم للتعليم فى الأزهر ، ثم يعودون إلى بلادهم دعاة مصلحين يبلغون رسالة الأزهر فى كل مكان وبلد .

ـ وتعرض الكتاب كذلك لأسباب الانحراف وعلاجها ، وإن كان هناك عامل أساسى واحد تتجمع تحته هذه الأسباب ، وهذا العامل هو الاقتناع بالوضع الحالى والمطالبة بتغييره ، واعتقاد أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وهو الدين . وبخاصة أن الدين الرسمى لمصر حسب نص الدستور هو الإسلام .

ـ وهناك عوامل خلفتها ظروف طارئة ساعدت على إعلان التبرم بالواقع وعلى الانحراف فى السلوك : مثل كبت الحريات ، وعدم السماح بوجود متنفس للشباب ليعبر عن آرائه بحرية ، مما أتاح الفرصة لبعضهم أن يكون تنظيمات سرية أو علنية ولكن بشعار يتقى به المشكلات .

ـ وكذلك عدم التجاوب بين القاعدة والقمة وعدم التعاون بين الحاكم والمحكوم فى ترسيخ مبدأ الشورى والتناصح ، واحترام رغبة الجماهير مما نزع الثقة من نفوسهم نحو السلطات الحاكمة .

ـ وأيضا اختفاء القدوة الصالحة للشباب ، وعدم إتاحة الفرصة للمواهب أن تؤدى دورها عن ثقة فى إدارة دفة الحكم وفى التشريع ، وشيوع الوساطات والمحسوبيات والمجاملات .

ـ ومن العوامل المساعدة أيضا التصريح بسيادة القانون وعدم استعمال العنف ، فى الوقت الذى لم تحكم فيه الرقابة على المشبوهين والمتشردين بأغراضهم والتى يعوزها العالم المتخصص ليفسح المجال لكل دخيل على الدعوة أو لكل ذى غرض غير مشروع.

ـ من العوامل أيضا خلق حواجز بين الشباب والعلماء والمربين الموثوق بهم ، وتنفيرهم عن المساجد العامة خشبية المساس بأفكارهم عندما يسمعون درسا أو موعظة .

ـ ثم بدأ الكتاب علاج الانحراف ، وذلك بعلاج أسبابه ودواعيه ، فالإسلام يحرم على كل مسلم أن يرضى بالمنكر أو يسكت عليه ، ويوجب عليه أن يسعى فى تغييره بالوسائل المختلفة الفعالة وبالأسلوب الحكيم ، قال تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [18] ولكى يصلح هذا المجتمع ويكون مجتمعا مثاليا فلابد من اتباع هذا الدستور ـ القرآن والسنة ـ وتطبيقه . فهو الدستور الأمثل لمجتمع أمثل .

ـ وعلاج الانحراف يكون فى نطاقين أولهما : السلوك الذى نتج عنه ضرر ، وثانيهما : الفكر الذى أدى إلى هذا السلوك .

ـ وفى النطاق الأول لابد من تطبيق القانون العادل على المعتدين على الحقوق ، قال تعالى : ( من يعمل سوءا يجز به ) [19] ، وذلك بعد التحرى والتثبت . وفى النطاق الثانى لا يكون العلاج بالعنف ، فهذا يولد شعورا لدى المنحرفين بأنهم على حق ، فيثبتون على مبادئهم .

ـ إن القرآن الكريم عندما دعا المشركين إلى التوحيد كانت دعوته قائمة على الدليل والبرهان ، وتفنيد الشبه التى اعتمدوا عليها ، وشدهم إلى الإيمان بالله عن طريق قدرته التى تثير الإعجاب ، وعن طريق نعمه التى تدعو إلى الحب .

ـ والنبى صلى الله عليه وسلم حين جاءه رجل يطلب الترخيص له بالزنا ، فصاح الناس به هدأهم ثم دعاه فدنا منه وأخذ يحاوره ليصلح من فكره المنحرف .

ـ وسيدنا على ـ رضى الله عنه ـ أجرى بأسلوبه الحوار مع الخوارج حين أرسل إليهم عبد الله بن عباس .

ـ فإن الله عز وجل يقول : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ) [20]

ـ وقد بين الكتاب أن الأزهر كمؤسسة دينية وجهاز تعليمى وإعلامى ، يعنى بالدعوة إلى الفضيلة ومحاربة الرذيلة ، ويقاوم الانحراف ويعالج التطرف ، ولكن ليس الدور قاصرا على الأزهر وحده ، فلابد من الأجهزة الأخرى أن تقوم بدورها وبمسئوليتها .

ـ فالأزهر لم يغب عن الساحة أبدا ، فأبوابه مفتحة ، وهؤلاء المتطرفون هم الذين غابوا عنه ، فقد انصرفوا عن المساجد ، لأنها مساجد بدعة وضرار وحذرهم أمراؤهم أن يتصلوا بالعلماء ، خوفا من آرائهم ، وهناك حملات مسعورة ضد الدين والتدين فى الصحف والمجلات والأقلام ووسائل الإعلام ، الأمر الذى خوف الشباب من الالتحاق بالأزهر .

ـ ولم يقصر عالم من علماء الأزهر فى تلبية دعوة أو إجابة عن سؤال ، أو إلقاء ندوة. وشجع العلماء كل حركة تدعو إلى الخير .

ـ وعلماء الأزهر لم يغيبوا عن الساحة فهم أساتذة الدين واللغة فى المدارس والمعاهد والجامعة ، وفى الجمعيات ، وبين صفوف الجيش ، وهم أصحاب القلم الرفيع فى الصحف والمجلات .

ـ فالأزهر هو فخر الأمة جمعاء ، وفخر مصر على وجه الخصوص ، وهو الأمل المرجى فى الحفاظ على الدين واللغة .

ـ وتحدث الكتاب عن مصادر التشريع الإٍسلامى : القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، والإجماع والقياس .

ـ كما فصل القول فى كل هذا بالتساؤلات والإيضاحات ، فتكلم عن القرآن وعلومه ، وعلوم اللغة ، وكتب التفسير ، وتكلم عن السنة وعرضها على الكتاب والأحاديث المكذوبة والمرويات بالمعنى ، وطريق ثبوت السنة ، وتعارض الأحاديث وكيفية التوفيق بينها ، ومنزلة الخلفاء الراشدين ، واجتهاد الصحابة كما تحدث عن الاجتهاد والتقليد ومهمة المجتهدين ، وأثر التعصب للآراء الاجتهادية ، والقطعى والظنى ، والاختلاف فى الأحكام .

ـ كما تعرض الكتاب لقضية الإيمان والكفر ، ومفهوم الدين والإيمان وما يتحقق به الإيمان ، وصلة الإيمان بالأعمال ، والمعاصى ودلالاتها ، وموقف أبى بكر من المرتدين.

ـ كما تعرض الكتاب لمفهوم الإسلام ومفهوم الكفر ، وخطورة التكفير ، وبم يكون الكفر ، ومفهوم الفسوق والعصيان والنفاق ، وقتال المسلم . والحكم بما أنزل الله ، والطاغوت ، والتعامل مع الكفار .

ـ كما تعرض الكتاب لمفهوم الدولة الإسلامية : ومفهوم السلطة الحاكمة ( الإمام ـ الأمير ـ الخليفة ) والبيعة والترشيح ومهمة الإمام أو الحاكم  ، وعن الشعب وبيعته ، وعن طاعة الإمام ومداها ، وواجب الشعب تجاه ظلم الحاكم ، وانحراف السلطة الحاكمة ، وحق الشعب فى المساواة والحريات .

ـ كما تحدث الكتاب عن الدستور ومفهومه ، ومفهوم المجالس التشريعية ومهمتها والقوانين الوضعية ، ودار الإسلام ودار الكفر ، ومفهوم المجتمع الجاهلى.

ـ كما تحدث الكتاب عن الجهاد والدعوة ، وما هى مواصفات المنكر الذى يغير ؟ ، وهل الجهاد من أساليب الدعوة ؟ ، وأنواع الجهاد وحكمه ، وهل الإٍسلام انتشر بالسيف ؟ ، وهل الجهاد باق إلى يوم القيامة ؟ ، وهل الحروب اليوم جهاد ؟ ، وهل الخدمة العسكرية واجبة ؟ ، ومفهوم الهجرة ……. إلى غير ذلك .

ـ وفى الجزء الثانى : تعرض الكتاب إلى التعريف بالفرق والمذاهب الدينية كالشيعة والخوارج والبابية والقاديانية والوهابية والتصوف …. إلى غير ذلك .

ـ وتعرض كذلك إلى المذاهب الأخرى كالماسونية والروتارى والعلمانية والوجودية والشيوعية …. إلى غير ذلك .

ـ وتحدث الكتاب عن بعض القضايا الدينية وموقف الإسلام والأزهر منها ، والطريق الوسطى فيها مثل : قضايا العقيدة ، كالوسيلة ، والتوسل بالأنبياء أو بالصالحين أو بالأموات ، والشفاعة ، وحياة الأنبياء فى قبورهم ، وقضايا الأحياء والأموات والولاية والكرامة ، ورؤية النبى صلى الله عليه وسلم والنذور وعلم الغيب …. إلى غير ذلك.

ـ ثم تحدث عن السحر والرقى والتمائم والعدوى وتنظيم النسل … وتحدث عن زيارة الأضرحة وشد الرحال والتصوير .

ـ كما تحدث الكتاب عن الشرعية بين التقليد والتلفيق والبدعة ، ومغزى العبادات فى الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج …. إلى آخره .

ـ كما تحدث عن حجاب المرأة وعملها وتعدد الزوجات والطلاق والإجهاض ، والختان والزواج العرفى والتبنى ، وتنظيم النسل ، والتأمين ومعاملات البنوك ، واللحوم المحفوظة والتشريح ، ونقل الأعضاء ، والموسيقى ، وتحضير الأرواح ، وتمثيل الرسل ، والدين والسياسة ، وتطبيق الشريعة ، والحرب والسلام ، والاحتفال بالأعياد والمنظمات التعاونية .

ـ وفى النهاية قدم الكتاب بعض قراءات وتوصيات مؤتمرات مجمع البحوث الإٍسلامية .

ـ وهكذا يتعرض هذا الكتاب الكبير العظيم للقضايا التى تهم الشباب وتهم الأمة ، ويعرضها بمنهج وسطى دون تطرف أو غلو ، بل إنه يتعرض لشبه المغالين والمتطرفين ويرد عليها بالدليل والبرهان .


دور الأزهر فى الرد على الفكر المغالى :

وأما المناداة بالوسطية وترك التشدد والغلو فإن هذا أيضا من أهداف الأزهر خلال تاريخه ، وخير مثال على ذلك أن الأزهر لا يقتصر على دراسة مذاهب أهل السنة ، بل تتم فيه دراسة المذاهب الأخرى الموثقة والثابتة ، فقد اعتمد فى دراساته مذاهب الشيعة الزيدية والشيعة الإمامية ، والإباضية ( وهى فرقة معتدلة من فرق الخوارج ) ، والظاهرية ، بالإضافة إلى المذاهب السنية الأربعة ( الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ) .

وسوف نتحدث عن هذا الدور من خلال تناول كبار علمائه ، بالحديث عنهم وعن أعمالهم العلمية والفكرية .

الشيخ محمود شلتوت [21] :

كان شلتوت فقيها واسع الأفق ، ومفسرا واسع الاطلاع . حارب الجمود والعصبية المذهبية التى جعلت من المذاهب أديانا ، وفرقت بين المسلمين ، وندد بفكرة سد باب الاجتهاد فى الشريعة الإسلامية ، واعتبر ذلك حبسا للعقول ، وتعطيلا لكتاب الله ، ومجافاة لنصوصه الداعية إلى البحث والنظر . وله آراء إصلاحية نادى بها منذ سنة 1924 حتى لقى ربه .

ولد ببلدة منية بنى منصور بمحافظة البحيرة فى سنة 1893 . وحفظ القرآن الكريم ، ثم التحق بمعهد الإسكندرية الدينى سنة 1906 ، ونال الشهادة العالمية النظامية سنة 1918 ، وكان أول الناجحين .

وعين مدرسا بمعهد الإسكندرية الدينى سنة 1919 . وتابع نشاطه العلمى هناك وفى الدوائر العلمية ، وفى الصحافة ، فى كل ما يتصل بعلوم الدين من فقه وتفسير وحديث.

وفى سنة 1927 م نقل مدرسا فى القسم العالى ( الكليات الجامعية ) بالقاهرة ، ولما عين المرحوم الشيخ المراغى شيخا للأزهر تجاوبت فكرته الإصلاحية معه فى إصلاح الأزهر ، وأيد ذلك بعدة مقالات نشرت بالصحف . ثم نقل مدرسا للفقه الإسلامى بأقسام التخصص ( الدراسات العليا ) التى أنشئت يومئذ .

وفى سنة 1931 تعارضت آراؤه مع آراء المشرفين على الأزهر فى ذلك الحين ، فتركه إلى المحاماة والبحوث العلمية ، حتى أعيد إليه ثانيا سنة 1935 . وعين وكيلا لكلية الشريعة ، ثم مفتشا بالمعاهد الدينية .

وفى سنة 1941 عين عضوا فى جماعة كبار العلماء برسالة عنوانها : المسئولية المدنية والجنائية فى الشريعة الإسلامية .

وفى سنة 1950 عين مراقبا عاما للبحوث الثقافية الإسلامية ، ووضع أساسا لهذا المراقبة ولعلاقة مصر الثقافية مع العالمين العربى والإسلامى وغيرهما .

وفى سنة 1957 م عين مستشارا فى المؤتمر الإسلامى ، ثم عين وكيلا للجامع الأزهر ، ثم شيخا للأزهر من سنة 1958 إلى وفاته ، وقد اختير عضوا بمجمع اللغة العربية فى سنة 1946 .

وبعد إصدار القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها ، أصبح الشيخ شلتوت أول حامل للقب الإمام الأكبر ، كما أصبح عضوا ورئيسا لمجمع البحوث الإسلامية .

وشاءت الأقدار أن لا يسعد هو أو المجمع بلقاء فى يوم الافتتاح .

وللشيخ شلتوت محاضرات ومقالات فى مختلف النواحى الدينية والاجتماعية أذيعت ونشرت .

أما مؤلفاته فهى :

فقه القرآن والسنة ـ مقارنة المذاهب ـ يسألون ـ منهج القرآن فى بناء المجتمع ـ المسئولية المدنية والجنائية فى الشريعة الإسلامية ـ القرآن والقتال ـ القرآن والمرأة ـ تنظيم النسل ـ تنظيم العلاقات الدولية فى الإسلام ـ الإسلام والوجود الدولى للمسلمين ـ الإسلام عقيدة وشريعة ـ الفتاوى ـ توجيهات من الإسلام ـ تفسير القرآن .


جهوده :

بالرغم من جهود الإمام الشيخ شلتوت العديدة فى المجالات المختلفة ، إلا أننا سنركز فى بحثنا هذا على العناصر الآتية والتى تتعلق بكلامنا :

أولا : التقريب بين المذاهب :

دعوة الشيخ شلتوت إلى الوحدة من أسمى الدعوات التى كان يدعو إليها ، فقد رأى المسلمين وقد شتتهم الفرقة ، وضيعهم التعصب للمذاهب والآراء ، فكان هدفه هو العمل على التقريب بين المسلمين وإذابة الخلافات التى بينهم ، أو إبعادها على الأقل حتى لا تكون سببا فى التنازع ، كان هذا هو شغله الشاغل أن يحقق الوحدة بين المسلمين .

وقد رأى أن هذه الوحدة هدف له سبل حتى يتحقق . من أهم هذه السبل دراسة الفقه المقارن ، ليس بين المذاهب الأربعة السنية وحدها ، بل دراسة الفقه المقارن للتعرف على آراء الشيعة الزيدية والإمامية ، ومذهب الظاهرية والإباضية ، ودراسة مذاهب الكلام كالمعتزلة والأشاعرة .

إذ أنه فى الانفتاح على هذه الآراء والتوسع فيها ومعرفة أدلتها سبيل إلى الالتقاء بيننا ، فقد كان العلماء قديما ـ أئمة المذاهب وغيرهم ـ متحدين فيما بينهم ليس بينهم تكفير أو جمود ، مترفعين عن العصبية ، لأنهم كانوا متصلين ومنفتحين .

وإن الإيمان بالوحدة لا يستقيم إلا فى ظل عقل فسيح الفكر رحب النظر يستطيع فهم فقه الخلاف بين المذاهب .

عمل الشيخ شلتوت على التقريب بين المذاهب ، فسعى لإنشاء ” جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية ” ، وكان من أوائل العلماء الذين نادوا بفكرة التقريب خاصة بين السنة والشيعة ، فدعوة التقريب فى نظره هى دعوة التوحيد والوحدة التى هى دعوة الإسلام .

فآمن بالفكرة كمنهج قويم ، يقوم على أساس التعارف العلمى وتضييق الشقة الخلافية ، وليس معنى ذلك ألا يكون بينهم اختلاف فى الفروع ، فهذا شئ مستحيل ، ولكن المهم أن لا يجر هذا الاختلاف إلى التعصب والنفرة والفرقة والعداوة .

ولم يكن الشيخ شلتوت وحده من يفكر فى فكرة التقريب ، فقد وجد من يؤيدون هذه الفكرة ، ويسلكون نفس الطريق : منهم الشيخ محمد المراغى ، والشيخ مصطفى عبد الرازق ، والشيخ عبد المجيد سليم ، وكلهم قد تولى منصب شيخ الأزهر ، والسيد محمد تقى الدين القمى من كبار علماء الشيعة .

وقد أيد الفكرة بقلمه ولسانه وأسهم فيها كثير من أكابر العلماء فى العصر الحديث : منهم الشيخ على الخفيف ، والشيخ عبد العزيز عيسى ، والشيخ محمد المدنى ، والشيخ محمد الغزالى ، والشيخ سيد سابق ، وغيرهم كثير من علماء مصر .

وشاركهم فى هذا التأييد من كبار علماء الشيعة : السيد محمد الحسينى آل كاشف الغطاء ، والسيد شرف الدين الموسوى ، والسيد محمد جواد مغنية ، والسيد صدر الدين شرف الدين … وغيرهم .

وكانت الجماعة تصدر مجلة دورية هى : ” رسالة الإسلام ” .

وقد أنشئت جماعة التقريب بين المذاهب أو دار التقريب فى القاهرة سنة 1948 م .

وقد كان من آثار هذا التقارب أن قرر الأزهر دراسة المذهب الشيعى الإمامى والزيدى فى كلية الشريعة ، كما أن جامعة إيران قررت دراسة فقه السنة فى كلياتها .

وقد كان من آثار دار التقريب إصدار مجلة ” رسالة الإٍسلام ” التى تنشر الفكر التقريبى ، وتعمل على تجمع المسلمين ، وكانت ملتقى لكبار العلماء الساعين إلى هذا التقريب ، أمثال من ذكرنا من العلماء ، بالإضافة إلى علماء آخرين كتبوا فيها ، مثل : الشيخ هبة الدين الشهرستانى ، ومحمد صادق الصدر ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والدكتور محمد البهى ، والأستاذ محمود فياض ، والشيخ محمد على علوبة باشا ، والشيخ محمد عبد الله دراز ، والشيخ عبد المتعال الصعيدى ، والأستاذ محمد فريد وجدى ، والأستاذ أحمد أمين ، والدكتور على عبد الواحد وافى ، والأستاذ عباس محمود العقاد …. وغيرهم .

وقد كان للفتوى التى أصدرها الشيخ شلتوت ـ وهو فى منصب شيخ الأزهر ـ أثر فى دعوته ونبذ العصبية .

فقد ورد لفضيلته سؤال يقول فيه السائل : ” إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم ـ لكى تقع عبادته ومعاملاته على وجه صحيح ـ أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة ، وهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأى على إطلاقه ، فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية مثلا ؟ .

فأجاب فضيلته : ” إن الإسلام لا يوجب على أحد اتباع مذهب معين ، بل نقول : إن لكل مسلم الحق فى أن يقلد ـ بادئ ذى بدء ـ أى مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة أحكامها فى كتبها الخاصة ، ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ـ أى مذهب كان ـ ولا حرج عليه فى شئ . إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة ، فينبغى للمسلمين أن يعرفوا ذلك ، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة ، فما كان دين الله وما كانت شريعته تابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب ، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله ـ تعالى ـ يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه فى فقههم ، ولا فرق ـ فى ذلك ـ بين العبادات والمعاملات .

وهذا الذى سعى إليه الشيخ شلتوت نحن نؤيده لأن الفرقة من أخطر ما تتعرض له الأمة ، فالفرقة تضعف الأمة ، وتجعل من السهل أن ينالها عدوها ، فكلما تفرقت الأمة إلى جماعات وفرق ولا شئ يوحدها ، فإن ذلك يؤدى إلى القضاء عليها بسهولة عن طريق عدوها ، ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ” عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة …… ” .

والذى ينظر إلى التاريخ بشئ من الاستبصار ، فإنه يرى أن العدو كان ينال الأمة فى وقت فرقتها ، وكان العدو يرهب ويخاف ويقف متذللا وقت جمع الأمة ووحدتها . ولكن الناس لا يفقهون .

وقد حكى الشيخ شلتوت أنه تعرض لهجوم شديد بسبب قيامه بدعوته إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية ، كما تعرض لهجوم آخر بسبب فتواه بجواز التعبد بمذهب الشيعة الجعفرية ، وظلت الأسئلة والمشاورات والمجادلات فى شأن هذه الفتوى تتوارد عليه ، وهو ثابت على فكرته يؤيد بالرسائل ، ويرد على شبه المعترضين ، عن طريق مقال أو حديث أو بيان .

ولكن مما يدل على صحة دعوته وقبولها وعدم تعارضها مع الشريعة الإسلامية هو أن الأزهر الشريف نزل على حكم هذه الفتوى وهذا المبدأ ـ مبدأ التقريب بين المذاهب الإسلامية ـ وقرر دراسة الفقه على المذاهب الثمانية : الأربعة السنية ( الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ) والشيعة ( الزيدية والجعفرية ) وكذلك الظاهرية والإباضية ( وهى فرقة معتدلة من فرق الخوارج ) ، كما أن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية اعتمد أيضا فى موسوعته الفقهية المذاهب الثمانية السالفة الذكر .

فما قرره الأزهر وعلماؤه هو شبيه بالإجماع ، أو على الأقل برأى الأكثرية والجمهور ، ولا تجتمع أمة المسلمين على ضلالة ، كما أن ما عليه الأكثر يعطى للمرء طمأنينة بغالب الظن .

ثانيا : النظام السياسى :

بين الشيخ شلتوت أنه لابد من ربط الدين بالدولة والدولة بالدين ، ولا يتصور أحدهما بدون الآخر ، وأما السلطة الدينية ، فهى مرفوضة .

فالسيادة لله سبحانه وتعالى ، والحكم له ، وهو حقه . وحق الشعب يباشره نيابة عن الله . والحاكم وكيل للأمة والشورى أساس الحكم ، والتضامن الاجتماعى هو مسئولية الأفراد جميعا ، والرقابة الشعبية حق للأمة أن تراقب حكامها .

وعزل الخليفة يكون للأمة إذا ظلم ، وأهل الحل والعقد هم أهل العلم والرأى فى الأمة ، وهم الذين يعبرون عنها ، عن ترشيحها للخليفة ، وعن رأيها فيه ، كما أنه من حق كل إنسان أن يعبر عن رأيه . وهدف الحكم هو تحقيق السلام والسعادة والعزة فى الداخل والخارج .

والإسلام لا يخص أحدا بتفسير النصوص ، بل إن هذا الحق للمسلم المؤهل لذلك ، والخليفة ليس معصوما ، وليس له إلا النصح ، وإقامة الحدود ، وهو نائب عن الأمة تطيعه إذا قام بمهمته ، وتعزله إذا انحرف عن حدود الله .

كذلك كان وضع شيخ الإسلام والملا والقاضى والمفتى ، فوظيفة القاضى هو الفصل فى الخصومات ، ووظيفة المفتى هو بيان الحكم الفقهى ، وقوله ليس ملزما ، وللمستفتى مطالبته بالدليل أو استفتاء غيره .

وشيخ الإسلام والملا هما لقبان علميان شاعا فى بعض العصور والأقطار الإسلامية .

والشورى فريضة إسلامية ، وحق لجمهور الأمة ، وتكون فى كافة ميادين الحياة .

ثالثا : الغزو الفكرى :

ويرى شلتوت أن الشيوعية كفر وإلحاد ، بسبب فلسفتها المادية ، وليس بسبب نظريتها الاقتصادية ، فلو كانت مذهبا اقتصاديا لا يمس الإيمان ولا يهتك حرمته ولا يفتن الناس فى تدينهم ، لأمكن ألا نقول بعداوتها للإسلام .

ولكنها لا تؤمن إلا بالمادة وتنكر الألوهية والوحى والبعث ، وتقتحم فى سبيل مادتها كل ما قدسه القرآن وقدسته الشرائع السماوية ، من حرمات العقيدة والعبادة والمال والروابط الجنسية ، وما إلى ذلك من أسس الإسلام.

ومن هنا نرى أن شلتوت وقف بقوة أمام هذه الاعتقادات التى تفسد حياة المسلم والمؤمن بالله تعالى ، وكذلك كان رده على مسائل التطور والنشوء والارتقاء إلى غير ذلك من النظريات المخالفة للإسلام .

الشيخ المراغى [22] :

حياته :

ولد المراغى فى مارس سنة 1881 م فى بلدة المراغة التابعة لمحافظة سوهاج بالصعيد .

حفظ القرآن الكريم ، ثم التحق بالأزهر ليتلقى العلم على شيوخه .

وكان فى دراسته لا يقتصر على دراسة الكتب المقررة ـ وإن كانت هذه الكتب موسوعات عظيمة ـ إلا أنه كان يستعين بكتب أخرى تساعده على الإلمام بالعلم شأنه شأن كل من يريد التوسع فى المعرفة الدينية .

حصل على العالمية فى سنة 1908 وجلس للتدريس والتف الطلاب حوله لبراعته ودقته فى البحث وتعمقه فى التفكير وفصاحته فى اللغة .

عين بعد شهور قاضيا فى السودان ، ثم عين قاضى القضاة فى السودان .

وفى سنة 1907 تم اختياره للعمل كمفتش بديوان أوقاف مصر ، وكان يدرس بالأزهر فى نفس الوقت .

وتدرج المراغى فى مناصب المحاكم الشرعية ـ بعد ذلك ـ بمصر حتى وصل إلى منصب رئيس محكمة مصر العليا الشرعية .

وتدرج كذلك فى مناصب الأزهر حتى تولى مشيخة الأزهر فى سنة 1928 م .

وكان يجاهد فى إصلاح ورعاية الأزهر والنهوض بشئونه إلى المستوى الذى كان يرجوه أستاذه محمد عبده ـ حيث كان المراغى يتتلمذ على محاضراته ودروسه العلمية والدينية.

واستقال المراغى فى سنة 1929 م ، ثم عاد مرة أخرى ليكمل ما بدأه فى إبريل سنة 1935م .

والمراغى كان له أثر عظيم فى كثير من القضايا السياسية والإسلامية ، وفى الارتقاء بها والمجاهدة من أجلها .

إلا أننا فى هذا البحث سنركز على القضايا التى تخص بحثنا هذا .

إصلاح الأزهر والسعى إلى التقريب ووحدة الأمة :

كانت رغبة الإمام محمد عبده فى البداية لإصلاح الأزهر ، وتدريس العلوم المدنية مثل الرياضيات والتاريخ والجغرافيا ، كما كان عهده قديما ـ فقد بدأ الأزهر قبل ألف عام بتدريس هذه العلوم المدنية والطبيعية كالطب والتشريح وأيضا الفنون والآداب بما فى ذلك الموسيقى ، إلى جانب العلوم الشرعية والعلوم العربية .

فكانت رغبة الإمام محمد عبده أن يرجع الأزهر إلى الانفتاح على هذه العلوم ، ولكن عارضه مشايخ كثيرون ووقفوا أمام دعوته ، فأصيب بالإحباط واستقال من المجلس الأعلى للأزهر ومن الإفتاء ، ثم توفى بعد ذلك فى سنة 1905 م .

وظل تيار الجمود مظللا على هذا الزمان ، حتى تولى الشيخ المراغى مشيخة الأزهر عام 1928 م ، فحاول أن يقود مسيرة الإصلاح فأنشأ اللجان لدراسة واقع الأزهر واقتراح سبل الإصلاح ، وأنشأ تنظيمات جديدة تمثلت فى : الكليات الشرعية الثلاث : كلية الشريعة ، وكلية أصول الدين ، وكلية اللغة العربية ، كما أنشأ التخصصات داخل هذه الكليات .

كما أنشأ الدراسات العليا لهذه الكليات .

وكانت مقاصده من وراء الإصلاح : تعليم الأمم الإسلامية وهدايتها إلى أصول الدين ، وإحياء التراث الإسلامى العظيم ، وعرض الإسلام على الأمم غير المسلمة عرضا صحيحا ونقيا وبعيد عن الغلو والصور المشوهة له ، والعمل على إزالة الفوارق المذهبية وتضييق شقة الخلاف بينها .

وقد عمل أيضا على تنظيم التعليم قبل الجامعى .

كما عمل على تنظيم إنشاء ” لجنة الفتوى بالأزهر ” ـ وإن كان تاريخ إنشاء اللجنة قبل ذلك ـ إلا أنه نظم وطور فى عمل هذه اللجنة وفى كيفية تأدية واجبها .

كما عمل على إنشاء ” قسم الوعظ والإرشاد ” بالأزهر .

كما عمل على إعادة تنظيم ” هيئة كبار العلماء ” .

وعمل أيضا على إنشاء ” مراقبة البحوث الثقافية الإسلامية ” فى سنة 1945 م .

وهذا الإصلاح الغاية منه هو الوصول إلى عالمية الأزهر انطلاقا من عالمية الإسلام .

كما سعى سعيا دءوبا للعمل على وحدة الأمة الإسلامية ، والرجوع بالأزهر إلى مكانته التاريخية العالمية فى المحيط الإسلامى الكبير .

فقد كان المراغى يسعى دائما إلى تحقيق العالمية لهذه الجامعة العريقة .

وسعى المراغى إلى أن يدرس الفقه الإسلامى دراسة خالية من التعصب للمذاهب ، وأن يدرس الفقه مرتبطا بالأصول والأدلة ، والغرض النهائى من هذه الدراسة هو عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها من الكتاب والسنة وعدم المساس بالأحكام التى أجمع عليها العلماء .

أما الأحكام الاجتهادية والتى تتغير بتغير المذاهب وبتغير العصور والأماكن وبتغير العرف والأمم ، فهذه لا حرج من وجود الاختلاف فيها تبعا لهذه الأمور كلها .

قصد المراغى الجمع بين الأصالة والتجديد .

وقد واجه المراغى عقبات كثيرة لتحقيق أهدافه مما اضطره إلى الاستقالة فى سنة 1929 م .

لكن الطلاب والعلماء ـ ممن يبحوث عن التجديد ـ خرجوا فى المظاهرات التى فصل فيها العديد من العلماء والطلاب ، ولكن اضطرت الدولة فى النهاية إلى إعادة الشيخ المراغى مرة ثانية لمشيخة الأزهر فى سنة 1935 م .

فبدأ فى تنفيذ مشروعه الإصلاحى ، وحقق أغلب مقاصده واستعاد للأزهر كثيرا من اختصاصاته التى سلبت منه .


الشيخ يوسف الدجوى [23] :

ولد الشيخ يوسف الدجوى سنة 1287 هـ فى بلدة ” دجوة ” من أعمال القليوبية بمصر ، وحفظ القرآن الكريم فى صغره ، ثم ألحقه والده بالأزهر الشريف ، فتعلم وتبحر فى العلوم الدينية والعربية ، وأظهر جدارة فى كافة العلوم ، وحصل على العالمية بتفوق .

وتولى التدريس بالأزهر ، وارتفع ذكره ، حيث كان لعلمه وفهمه وذكائه أثر فى ذلك .

وكان يكتب فى الصحف اليومية والمجلات الدينية ـ ومنها مجلة الأزهر ـ بأسلوب رفيع ، ولاتساع علمه وبلوغه شأوا فى العلم ، فقد اختير عضوا بهيئة كبار العلماء . وكان لمقالاته وفتاواه أثر عظيم فى نفوس الناس .

وقد كان للشيخ الدجوى سند يصل رجاله إلى الإمام مالك ـ رضى الله عنه ـ .

وكان يجيز العلماء إجازة عامة فى الرواية بالسند المتصل ، ومن هؤلاء العلماء الذين أجازهم الشيخ محمد زاهر الكوثرى .

وقد توفى ـ رحمه الله ـ يوم الأربعاء الخامس من صف سنة 1365 هـ .

جهوده :

كان للشيخ الدجوى مواقف عظيمة وجهود كبيرة لتقديم المفاهيم الإسلامية الصحيحة التى تتسم بالوسطية والاعتدال ، كما كان له مواقف ضد من يصفون الدين بالتشدد والغلو ومجاوزة الحد ، فيقف أمام هؤلاء المتشددين فيفحمهم بالأدلة والبراهين ، ولا يستطيع المخاصم إلا أن يسلم له ، وقد تمتع بأسلوب شيق جذاب وعبارات ممتعة راقية سامية ، وسلاسة فى اللغة ، تجعل العامى يفهمه.

وقد تعرض الدجوى فى كتاباته لموضعات كثيرة وثرية : منها كلامه عن الإيمان ومناقشة الطبيعيين ، وكلامه عن ضرورة الدين ، وحرية الإنسان ، والتوحيد ، والشرك ، والحياة الروحية ، وحاجة الإنسان إلى الشريعة ، والغيرة على الدين ، ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وعظمته ، وكرامات الأولياء ، ومنزلة الشريعة .

كما أنه تعرض لتفسير بعض سور القرآن بأسلوب عصرى مميز يتشوق إليه القارئ .

كما أن له فتاوى عديدة فى مجالات كثيرة فقهية كمعاملات البنوك ، والصلاة خلف المخالف ، وشرب الدخان ، وثبوت شهر رمضان ، ومسائل فى البيع والربا والدين ، ومعاملات التجارة ، ومسائل فى الطلاق وتعدد الزوجات ، والسحر ….. الخ .

وقد كان الدجوى يدافع عن قضايا إسلامية هامة بالدليل والبرهان , وبلسان عذب .

فظل يدافع بقلمه ولسانه عن حملات التكفير التى انتشرت بين المسلمين المتعصبين والمتشددين بسبب عدم فهمهم للنصوص ودلالاتها .

وهذه من أهم القضايا التى كان يدافع عنها ، فإن قضية التكفير يندرج تحتها من الموضوعات مالايحصى ، فقد كان التكفير يحدث من المتعصبين مثلا بسبب رؤيتهم التوسل بالأنبياء كفرا ، أو بسبب رؤيتهم أن التبرك بآثار النبى صلى الله عليه وسلم كفرا ، أو بسبب رؤيتهم أن زيارة القبور والصالحين تؤدى إلى الشرك ……. إلى غير ذلك من الأمور التى يحكمون فيها بظواهر النصوص.

كما أن من أهم القضايا التى كان يدافع عنها الدجوى قضية التبديع ، فهذه أيضا منتشرة بين المتشددين ، فهم إن لم يكفروا غيرهم وصفوهم بالمبتدعين ، وذلك لأنهم يرون مثلا أن الصلاة فى المساجد التى فيها قبور بدعة ، أو يرون أن ارتفاع المآذن فوق المساجد بدعة ، أو يرون أن شواهد القبور ـ أيا كانت أنواعها ـ بدعة ، أو يرون أن الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بدعة ، أو يرون أن استعمال المسبحة فى الذكر بدعة …. إلى غير ذلك من الأمور .

الفصل الثالث

الأزهر قلعة الإسلام

 

بقلم الشيخ الدكتور

الغزالي عيد غزالي*

 

مقدمة

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد

لقد كان للأزهر الشريف دور رائد في توجيه الحياة بمختلف نواحيها بمصر خاصة والعالم الإسلامي عامة ؛ على مدى ما يزيد على ألف عام ، حيث قاد الحركات العلمية والفكرية والسياسية – دون منازع – داخل مصر ومعظم دول العالم الإسلامي طوال هذه الفترة . ففي مصر : كان الأزهر الشريف صانع تاريخها ، وقرين تقدمها وحضارتها ، ومن يريد هدم الأزهر فإنما يريد – في الحقيقة – هدم تاريخ مصر السياسي ؛ بدءا من مواجهة ظلم الحكام والولاة ، مرورا بالثورات الشعبية ، ومقاومة المحتلين من مختلف الجنسيات حتى الجلاء ورد عدوان 1956 م ، حيث وقف الرئيس عبد الناصر ([24]) على منبر الأزهر يحشد الجهود ، ويوحد المواقف ؛ حتى انتهى العدوان . وقد اخترت التاريخ السياسي للرد على من يقول بفصل الدين عن السياسة ؛ مخالفا تلك الوقائع التاريخية الثابتة . وإلا فإن تجاهل تاريخ الأزهر الشريف ؛ تجاهل لتاريخ مصر خاصة والعالم الإسلامي عامة  ؛ في كثير من المجالات .

ورغم ثبوت هذه الحقيقة على أرض الواقع ؛ إلا أن أعداء النجاح في كل صوره ؛ ما فتئوا يهاجمون الأزهر ؛ متجاهلين تلك الإنجازات الرائعة ؛ التي سطرها التاريخ ، واعترف بها العدو قبل الصديق ، ويتباكون على حال الأزهر دون السعي لإعادة مجده ، بل إن بعضهم ينادي صراحة بإنهاء دوره ، وإعلان وفاته رسميا .

وهذا الهجوم المغرض ليس جديدا ، فعلى مدى تاريخه الطويل تعرض الأزهر – جامعا وجامعة – لحملات من التشويه والاستقطاب والإضعاف ؛ من فئات وجهات مختلفة في العقيدة والهدف ، ومن العجيب أن تجد من بين المهاجمين من يحمل لواء الدعوة الإسلامية ؛ لكن بمفهوم ضيق لا يرى للحق إلا وجها واحدا ؛ إفراطا أو تفريطا ، ويرفض منهج الأزهر الوسط الذي يجمع الأقوال ويمحصها ، ويوازن بينها ، ويعطي لكل أمر قدره ؛ فلا يخلط بين العقيدة والشريعة ، ولا بين الفرائض والسنن والمستحبات ، ولا بين الحرام والمكروه .

ومنهم من يهاجم الأزهر من خلال ادعاء حرصه على الحرية والتقدم ؛ والخوف على الإسلام من الجمود ؛ متجاهلا أن الأزهر الشريف – وحده – هو الذي قاد مسيرة العلم والتقدم مئات السنين ، لكن الله – سبحانه – قيض له من يدفع عنه تلك الحملات جيلا بعد جيل ، فاستعصى على المغرضين والموتورين تحقيق أهدافهم ، رغم كثرة وسائلهم وتنوع خططهم .

ولا ينكر منصف أن هؤلاء قد نجحوا في تحقيق بعض أهدافهم ؛ في فترات مختلفة من التاريخ ، لكن كان المخلصون لهم بالمرصاد ، وفي كل مرة كانوا يحبطون سعيهم ويبطلون كيدهم .

ولا يخفى على كل ذي عقل رشيد ؛ أن هذا الهجوم على الأزهر الشريف أو محاولة استقطابه ، تدل دلالة واضحة – قبل أن تدل على حقد الحاقدين أو طمع الطامعين – على إدراك الجميع لمكانة الأزهر ورجاله التي يمكن أن تعيق أهدافهم ، أو تقضي على أطماعهم ، أو تساعد في تحقيق مآربهم .

وثمة حقيقة أخرى لا بد من بيانها وهي : أن الحديث عن ضعف الأزهر ووجوب إنهاء دوره ؛ قد واكب الدعوة إلى فصل الدين عن الحياة ، مما يدل بوضوح على الهدف الخبيث من هذه الدعوة ، وأن الأزهر الشريف – في الحقيقة – ليس إلا صرحا شامخا من صروح الإسلام ، وقلعة حصينة من قلاعه ، ولا يمكن فصل الدين عن الدنيا ؛ إلا بالقضاء على الأزهر والمؤسسات الدينية الأخرى في مختلف بقاع العالم الإسلامي .

وأخيرا وليس آخرا ؛ هل كان الأزهر وحده الذي تعرض للهجوم ومحاولة الاختراق ؟ وما مدى نجاح هذه المحاولات ؟

هذا ما سأحاول تفصيله من خلال الصفحات التالية

وعلى الله قصد السبيل وهو نعم المولى ونعم النصير

الغزالي عيد غزالي

نبذة عن  الأزهر الشريف

تم البدء في إنشاء الجامع الأزهر في 24 جمادى الأولى سنة 359 هـ / الموافق أبريل سنة 970 م ، وتم البناء في 17 رمضان سنة 361 هـ / الموافق 22 يونية 972 م ، وكان الهدف من بنائه ؛ أن الفاطميين كانوا من الشيعة الباطنية ؛ ففكروا في تشييده ( ليكون هذا الجامع مباحا فيه المناداة بالمذهب الخاص بهم في مصر ، ويكون خاصا بدعوة الفواطم ، ومقصورا على مذهبهم ، تحاشيا لاتخاذ جوامع أهل السنة للدعوة لمذهبهم ، وحتى لا يفاجئوهم بمذهبهم الجديد . ) ([25])

ثم قدر الله – U – أن يكون هذا الجامع منارة للعلم الشرعي الصحيح ؛ قرونا من الزمان .

وكانت الدراسة في الجامع الأزهر – في بدايتها – غير منظمة ، فكان العلماء يتطوعون بالتدريس ، وكان المستمعون غير منتظمين في حضور هذه الدروس ، بل كانوا مثل رواد المساجد يحضرون الدرس إذا تفرغوا أو أرادوا سماع شيء عن دينهم ، دون إلزام بوقت أو منهج دراسي  ، حتى تطور الأمر فأخذ شكلا منظما ، وبدأت الدولة والقادرون والراغبون في عمل الخير يوقفون الأموال لتوفير النفقات للعلماء والدارسين ، ( ويظهر أن الوزير ابن كلس ([26]) هو أول من فكر في اتخاذ الجامع الأزهر معهدا للدراسة المنظمة المستقرة … ففي سنة 378 هـ 988 م استأذن بن كلس الخليفة العزيز بالله ([27]) في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس ، يحضرون مجلسه ويلازمونه ، ويعقدون مجالسهم بالأزهر كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر ، وكان عددهم 37 فقيها . ) ([28])

ومن ذلك يتبين أن الدراسة النظامية بدأت بالأزهر الشريف بعد سبعة عشر عاما من إنشائه ، وكان عدد الفقهاء القائمين على التدريس به سبعة وثلاثين فقيها ، وكان وقت الدراسة مقتصرا على يوم الجمعة من بعد الصلاة حتى العصر فقط .

ولم يغفل حكام مصر في عصورها المختلفة مكانة الأزهر الشريف ، بل حاولوا دائما أن يتقربوا إلى الناس بعمارته والاهتمام بشئونه المختلفة ، ومن جهود مصر في الاهتمام بهذا الجامع الجامعة ؛ ما قررته من إصلاح وتطوير في مناهج الدراسة وإدارة الجامع الأزهر .

وقد تمثل هذا الإصلاح في :

( 1- إنشاء مجلس إدارة للأزهر سنة 1312 هـ .

2- ضبط مرتبات العلماء وطريقة توزيعها .

1- ربط المعاهد الدينية في مصر بالجامع الأزهر .

2- إصلاح نظام التدريس .

3- وضع نظم للامتحانات .

4- إصدار طائفة من القوانين للإصلاح . ) ([29])

وكانت هذه الإصلاحات إدارية يقصد منها تنظيم الدراسة بالأزهر الشريف وتحسين رواتب علمائه ، ودمج كل معاهد التعليم الديني في مصر تحت إشرافه ، وتوحيد مناهج الدراسة فيها .

ولا ينكر منصف أن الأزهر الشريف كان أول جامعة منظمة – بالمعنى الأكاديمي الحديث – فمنذ بداية العهد العثماني في مصر ؛ وفي عام 1100 هـ تقريبا ؛ بدأت مشيخة الأزهر رسميا باختيار الشيخ محمد عبد الله الخرشي ([30]) شيخا للجامع الأزهر ، وبعد وفاته ؛ تولى المشيخة الشيخ محمد علي البرماوي ([31]) ثم تتابع الأمر حتى اليوم ([32]) وكانت مهمة شيخ الأزهر تقتصر – في البداية – على تنظيم شئون المسجد ، ورعاية حلقات الدراسة به ، ثم تطورت مسئوليات شيخ الأزهر وصلاحياته ؛ تبعا للقوانين المنظمة للعمل بالأزهر الشريف حتى اليوم ، وقد صدر أول قانون منها في عهد الشيخ محمد العباسي المهدي ([33]) سنة 1287 هـ ، واشتمل على خمسة بنود تنظم امتحان الخريجين ، ودرجات منح الشهادة لهم ، وأن يصدر بها قرار عال ، وامتيازات الحاصلين عليها ، وأخيرا تحديد مواد الامتحان .

ثم صدر قانون سنة 1895 م في عهد الشيخ حسونة النوواي ([34]) وبمقتضاه تم تشكيل مجلس إدارة الأزهر ، كما حدد سن الالتحاق بالأزهر ، وأضاف علوما جديدة للدراسة ؛ فصارت 26 بدلا من 11 ، وفي سنة 1908 م صدر قانون آخر يحدد صلاحيات مجلس إدارة الأزهر ، وقسم علوم الدراسة إلى دينية وعقلية وعربية ، كما قسم الدراسة إلى ثلاثة مراحل كل منها أربع سنوات ، وبين الوظائف التي يشغلها خريجوا الأزهر ، وتوالت القوانين المنظمة لشئون الأزهر حتى صار إلى ما عليه الآن . ([35])

الأزهر الشريف ودوره في نشر الدعوة الإسلامية .

اكتسب الأزهر الشريف مكانته في العالم منذ قديم الزمان ، من خلال قيام علمائه بنشر العلوم خاصة العلوم الشرعية ، وقيام خريجيه بنشر الدعوة الإسلامية في الدول الإسلامية وغيرها ، وقد أصبح اسم الأزهر الشريف مرتبطا بهذه العلوم رغم دخول العلوم الأخرى فيه ، ومازال المتخصصون في العلوم الشرعية من خريجيه ؛ يشار إليهم بالبنان داخل مصر وخارجها .

ولم يقتصر دور الأزهر الشريف على أبناء مصر فقط ، بل حفل تاريخه بقصد العلماء والدارسين له من كثير من بقاع العالم ، وكان استقباله لهم دليلا على ريادته للعلم الشرعي في بلاد كثيرة ، وأنه صاحب رسالة علمية عالمية ، حيث ( نجد أن انفتاح أبوابه لمختلف الجنسيات من مختلف البلدان … جعل من هؤلاء الوافدين رسلا منتشرين في أنحاء العالم الإسلامي ، يحملون رسالة الأزهر وقيمته ، وبالتالي ينشرون له التقدير والاحترام . ) ([36])

وأصبح اسم الأزهر يمثل – لدى كثير من الناس – رمزا للعلم الشرعي المستمد من القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة .

ولم يقف دور الأزهر على الدعوة النظرية لمبادئ الإسلام ، بل كان له دور رائد في رفع الظلم الواقع على الناس ؛ دون التفرقة بينهم من ناحية الجنس أو الدين أو اللغة ، فقد ( شهد الشعب المصري … صورا من آيات الاستبداد والظلم … ولقد أثبت الأزهر – طوال هذه السنوات – أن المؤسسة التربوية لا تقف مهمتها عند حدود تلقين طلاب العلم مبادئه وحقائقه ، وإنما لابد أن تمتد هذه المهمة لكي تشمل التصدي لمشكلات المجتمع ، فكان أن دخل طرفا في العلاقة بين الحكام والمحكومين ، يفرض شخصية علمائه عليهم بالاحترام والتقدير ، ولا يغض الطرف عن العيوب والمثالب ، بل يقف لها كاشفا ناقدا ؛ بالكلمة وبالنصيحة ، ثم يبلغ الذروة بتحريك التجمعات الشعبية ؛ لإجبار الحكام لاستماع صوت الشعب ومطالبه . ) ([37])

فكان الأزهر سباقا إلى رفع الظلم عن الناس ، ناصحا للحكام بالحسنى ، فإن رفضوا الرجوع عن الظلم ؛ قاد الأزهر بعلمائه وطلابه الحركة الشعبية الساخطة ، حتى يعود الظالم إلى رشده ، ويقلع عن ظلمه .

ولم يتخلف الأزهر الشريف عن واجبه هذا لفترة طويلة من الزمن ، حيث ( كان علماء الأزهر وشيوخه – في الفترة التي سبقت الثورة الفرنسية كما كانوا فيما تلاها من الأزمات – زعماء الشعب وألسنة دفاعه ، يرون ظلم المماليك الطاغي ، وتجبر الولاة العثمانيين ، فيتقدمون الجموع ، ويقودون الثورات ، ويرسلون كلمة الحق في الإصلاح والعدل ، ولا تهدأ نفوسهم حتى يرتفع البغي ، وينتصر ما طالبوا به من إنصاف ، وإذ ذاك تستريح ضمائرهم المؤمنة ، فيهدءون ويقرون . ) ([38])

ولم يكن علماء الأزهر يستغلون تلك المكانة العظيمة لهم في قلوب الناس ، أو هيبتهم في قلوب الحكام ؛ لتحقيق مآرب شخصية ، مثل ما حدث من رجال الكنيسة في العصور الوسطى ، وإنما كانت مواقفهم ردا للظلم ، وإحقاقا للحق ، فاستعصت قناتهم على استمالة أهل الظلم لهم بالترغيب أو الترهيب .

وقد حاول الفرنسيون – في بداية احتلالهم لمصر – أن يستميلوا علماء الأزهر إلى جانبهم ؛ ليخدعوا الناس بهم ، ويتقبلوا الاحتلال دون الثورة عليه ، لكن علماء الأزهر لم تخدعهم حيلة الفرنسيين ، وكذلك عامة الشعب ، ( وذلك لأن المشايخ الكبار لهم عند عامة المسلمين هيبة العلم ، وطاعتهم واجبة علينا فيما هو طاعة لله – عز وجل – ورسوله – r – ولكن هيبة العلم ليست بمانعة جماهير الأمة من عصيانهم ، وترك طاعتهم إذا خالفوا أوامر الله وأوامر رسوله – r – بقتال الغزاة لدار الإسلام . ) ([39])

وقد كان علماء الأزهر الشريف على وعي تام بهذه الحقيقة ، فلم يستكينوا للمستعمر ، بل قادوا ضده الثورات في كل مراحله حتى تعرض الجامع الأزهر لأضرار بالغة ، فدكت مآذنه بالمدافع ، وانتهكت حرمته ، ففي ثورة القاهرة الأولى ” أكتوبر 1798 ” ( أخذت القنابل تضرب الأزهر وما حوله حتى تصدعت الجدران ، وانهارت الأبنية ، وسقط الألوف قتلى تحت الأنقاض ، وجرى الدم في الشوارع … كما أسر الفرنسيون زعماء الثورة من علماء الأزهر وأعدموهم في القلعة دون محاكمة ، وألقوا بجثثهم خلف الأسوار ، ثم قذفوا بها في النيل . ) ([40])

وفي آخر عهد الحملة الفرنسية ؛ أغلق الجامع الأزهر – لأول مرة – بعد عدة قرون لم تغلق فيها أبوابه ليلا أو نهارا ([41]) ومنعت الصلاة فيه ، حيث اتخذت سلطات الاحتلال الفرنسي بعض الإجراءات المريبة ضد طلاب الأزهر الشريف لاستفزازهم ، والتماس سبب للقضاء عليهم ( وبات واضحا أمام شيوخ الأزهر ما يراد به من سوء ، ورأوا دفعا للشبهات والشرور أن يغلقوا أبواب الأزهر ، مع ما يترتب على ذلك من تعطيل الدراسة والصلاة … وفي صباح اليوم التالي الجمعة 28 محرم سنة 1215 ” 21 /6 / 1800 ” تم إغلاق الجامع ، وتسمير أبوابه من جميع الجهات . ) ([42])

وقد ظل مغلقا أكثر من عام ([43]) ومع ذلك لم يهن علماء الأزهر وطلابه ، بل ظلوا في طليعة الثائرين حتى انتهى الاحتلال ، وعاد من حيث أتى ، وظل الأزهر شامخا بمواقف علمائه الرائعة في مواجهة كل التحديات .

هذه أمثلة من دور الأزهر الشريف في الدعوة الإسلامية عمليا ونظريا ، وتربية أجيال من الدعاة والأئمة ، تحمل إلى جانب العلم النافع العزة والكرامة ، ورفض الظلم بكافة أشكاله .

دفاع عن الأزهر الشريف .

حاول بعض المغرضين مهاجمة الأزهر الشريف ، والحط من منزلته السامية ، والتهوين من شأن علمائه ، لكن وقائع التاريخ تدحض هذه الاتهامات الباطلة ؛ ببيان وجه الحق فيما نسبوه إلى الأزهر وعلمائه .

ومن أمثلة ذلك :

1- أنه ( يدأب كثير من المغرضين على اتهام الأزهر ، واختلاق المقالب الشائنة لرجاله … وأعظم تهمة يمهدون لها بالعلل والأسباب ؛ هي دعوى تزلف الأزهريين للرؤساء ؛ من ملوك ووزراء ، والسير في ركاب أولي الأمر ، مهما اعتسفوا الجادة ، وتنكبوا السبل .

ونحن إذا تصفحنا مواقف تاريخنا الحديث ؛ نجد لأعلام الأزهر – في الذود عن الحق ، والوقوف في وجه الباطل – آيات رائعة … هناك العالم الأزهري الجريء الأستاذ حسن العدوي ([44]) … فقد كان هو وزملاؤه الأزهريون ؛ في طليعة رجال المؤتمر الوطني ؛ الذي أصدر قراره التاريخي بعزل توفيق ([45]) وتكليف الزعيم أحمد عرابي ([46]) بالدفاع عن الوطن ، بعد أن قرئت على الحاضرين فتوى أزهرية إسلامية ؛ بمروق الخديوي وخيانته … وحين انتهت الثورة إلى خاتمتها الأليمة ؛ تقدم الشيخ العدوي إلى المحاكمة بجنان ثابت ووقار مهيب ، فسأله الرئيس : هل أفتيت بعزل الجناب الخديوي ؟ فأجاب من فوره : لم تصدر مني فتوى بذلك ، ومع هذا فإذا تقدمت إلي بمنشور يتضمن هذه الفتوى فسأوقعه . ) ([47])

وكان يمكن له أن يكتفي بأنه لم يفت هذه الفتوى ، ولكنه أعلن أنه موافق عليها ، ومستعد للتوقيع عليها بالموافقة ، رغم أنه يواجه محكمة صورية لها سلطات مطلقة .

2- وفي قضية كتاب الإسلام وأصول الحكم التي هزت الأوساط الفكرية في مصر ؛ بسبب موضوع الكتاب ، وتوقيت ظهوره ، وصفة مؤلفه الوظيفية ، حمل كثير من المغرضين على الأزهر وعلمائه ، متهمين لهم بالجمود ، وممالأة السلطة الحاكمة ، والحجر على الأفكار الحرة ، لكن أحد علماء الأزهر الشريف ورجاله ، كتب مبينا حقيقة الأمر فقال : ( ما رأيت موقفا ظلم فيه الأزهر – عن عمد مقصود – كما ظلم في موقفه من كتاب الإسلام وأصول الحكم … إذ كل ما وجه إليه من الأراجيف وليد حقد موغل على الحق … وقبل كل شيء أعلن أن صاحب القضية الأستاذ علي عبد الرازق ([48]) – رحمه الله – باحث جاد اجتهد فأخطأ … وكان على الأزهر أن يعلن للناس خطأ المجتهد في أصول الدين بالدليل الناهض ، والحجة الواضحة … لقد اعترف الأستاذ علي عبد الرازق أنه بدأ يكتب كتابه عن الحكم في الإسلام منذ سنة 1915 م ([49]) … والخلافة الإسلامية قائمة في تركيا لم يفكر في إلغائها أحد … ولكن الذين يؤيدونه بالباطل … يرون أن يعلنوا للعامة أن الكتاب قد ألف بعد سقوط الخلافة ، وأن الملك فؤاد ([50]) قد طمع في أن يكون خليفة  وأن الأزهر يحاول أن يؤيد الملك لا أن يؤيد الإسلام ، وأن الباحث الجريء علي عبد الرازق قد تصدى للملك بكتابه ، والملك لا يؤيده غير الرجعيين من علماء الأزهر … أتكون الحرية في أن يجهر المخطئ بخطئه فيؤيده المبطلون ؛ ثم لا تكون الحرية في أن يقوم الأزهر بتصحيح الخطأ فيما يملك من الصواب ؟ فإن فعل ذلك فهو عدو الحرية ، ووجه الرجعية ، وصنيعة الحاكم ؟ ) ([51])

معنى ذلك أن تأليف الكتاب بدأ قبل سقوط الخلافة في تركيا بتسع سنوات ، ولم يكن الشيخ علي عبد الرازق يهدف إلى إسقاطها ، بل لم يكن يخطر على بال مسلم قط – في ذلك الوقت – سقوط الخلافة .

والأزهر الشريف ورجاله كانوا يدافعون عن منصب الولاية العامة والخلافة العظمى ؛ التي أفتى الشيخ علي عبد الرازق – وهو من أبناء الأزهر – بأنها ليست من أصل الدين ولا فروعه ، وإنما هي أمر مدني يتخير الناس فيها ما شاءوا ([52])

3- أن بعض الكتاب قد حاول تشويه السيرة النبوية ببتر أحداثها والتركيز على نقاط محددة بعد حكايتها بصورة مناقضة للحقيقة ( وقد كتب السيد عبد الرحمن الشرقاوي ـ وهو شيوعي معروف ـ سيرة على هذا النسق ([53]) حشاها بالدس والتدليس العلمي وتوجيه الأحداث بعنف في غير مسارها . وأصدرت مجلة الأزهر عدداً يحتوى جملة مقالات فضحت هذه السيرة السيئة، وحذرت منها دون جدوى .) ([54])

فالأزهر قام بدوره في بيان وجه الحق وكشف الباطل ، لكن كان هناك من يدعم الباطل ويرفض الحق ؛ فبقي الكتاب وتعددت طبعاته .

4- وكانت هناك اتجاهات مخلصة لدينها ومدركة لدور الأزهر الشريف حاولت الوقوف بقوة في وجه محاولات الاختراق والتهميش فقد كانت ( هناك مدرسة أخرى أقرب إلى مدرسة الرأي … هذه المدرسة لها ملامح بينة ، فهي وإن قامت على النقل ؛ إلا أنها تروج للعقل وتقدم دليله ، وترى العقل أصلاً للنقل، وهي تقدم الكتاب على السنة ، وتجعل إيماءات الكتاب أولى بالأخذ من الأحاديث الآحاد ، وهي ترفض مبدأ النسخ وتنكر إنكاراً حاسماً أن يكون في القرآن نص انتهى أمده ، وترى المذهبية فكراً إسلاميا قد ينتفع به لكنه غير ملزم ، ومن ثم فهي تنكر التقليد الأعمى ، وتحترم علم الأئمة ، وتعمل على أن يسود الإسلام العالم بعقائده وقيمه الأساسية ، ولا تلقي بالاً إلى مقالات الفرق والمذاهب القديمة أو الحديثة ، وقد حاولت هذه المدرسة أن تقود الأزهر وتفرض وجهتها على المسلمين ، ولكن التيارات العاصفة كانت أقوى منها فوقفتها أو جرفتها . ) ([55])

5- ومن محاولات المكر الاستعماري استخراج الفتاوى المبررة لباطلهم من علماء الأزهر الشريف ، وذلك منذ عهد بعيد ، واعتمدوا في ذلك على الخداع والتخفي ، حيث ( قام { ليون روش } الفرنسي برحلة إلى مصر والحجاز سنة 1842م متنكراً في زي حاج مسلم من أجل الحصول على موافقة من العلماء على نص فتوى جاء بها من الجزائر ؛ تجعل الجهاد ضد الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة ، ومن ثم ضرورة الرضا بحكم الفرنسيين في الجزائر، وعدم شرعية حركة المقاومة ؛ التي كان يقودها الأمير عبد القادر الجزائري ([56]) … لكن علماء الأزهر لم يوافقوه على تلك الفتوى … لقد أدرك الفرنسيون أن الفتوى سلاح نافذ وعظيم الأثر على أهل الإسلام ، فكتبوا تلك الفتيا على الطريقة الفرنسية ، وأرادوا تمريرها على علماء الأزهر والحجاز ، لكنهم خابوا وخذلوا. ) ([57])

6- حاول بعض العلمانيين ؛ النيل من بعض رموز الإسلام في القديم والحديث ، وكتبوا في ذلك كثيرا من المقالات ، فتصدى لهم الأزهر ببيان نشره فاضحا لموقف هؤلاء العلمانيين ؛ الذين تحصنوا بمناصبهم المختلفة من العقاب تحت زعم حرية الفكر . ومما جاء في بيان علماء الأزهر الشريف : ( لقد رأيناهم يغتالون التاريخ الإسلامي كلَّه فلا يرونَ فيه إلا سلسلةً من الْمجونِ والْمظالِم !! .. بل لَمْ يَسلَمْ من سِهامهم السابقونَ الأولونَ من المهاجرينَ والأنصار ، فرأيناهم يَرَوْنَ في أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه مُغتصباً لحقوق النبيِّ صلى الله عليه وسلم !! مُستحِلاً لقتال المسلمين بِما خاضه من حروب الرِّدَّة !! وينتصرون لإخوانهم المرتدِّين !! ناقلينَ في ذلك أحاديثَ الإفك من المستشرقين ، ضاربينَ عرض الحائط بحقائق الكتاب والسنة وإجماع المسلمين .. إننا من جانبنا نُعلنُ – إبراءَ للذمَّة – أنَّ مثل هذا التصرُّف العلماني ثورة على دين الأمة !! وعدوانٌ سافرٌ على مرجعيتها المقدَّسة كتاباً وسنة !! .. كما أنه من ناحية أخرى يُولِّدُ تطرُّفاً مُقابلاً نشهدُه في حوادث العنف التي تتابعت على مسرح الحياة المصرية في الآونة الأخيرة , وإننا بقدر ما نُعلنُ إدانتنا للتطرُّف الذي يُنسبُ إلى الدِّين ، وإنكارنا على ما يقعُ في هذا الجانب من أحداثٍ داميةٍ ، فإننا ندينُ وبنفس القدر هذا الغلوَّ في معاداة الإسلام ، ورفض شريعته ، وتزييف تاريخه ، وتشويه رموزه وأعلامه … إنَّ هذا الذي تشهده الساحةُ المعاصرةُ من استطالة دُعاة العلمانية واستماتتهم في عزل هداية الإسلام عن مسيرة هذه الأمة ، والزجِّ بِها في مجاهل الأرض وخوادع السُبل يُعدُّ خيانةً عُظمى لهذه الأمة وللحقيقة المجرَّدة !! وإنَّ التمكينَ لذلك يُعدُّ إعانةً على هذه الخيانة ، ومَسلَكاً عدائياً لا تصلحُ به دنيا ولا يبقى معه دين ! … إنَّ ثوابتَ هذه الأمة ومُحكِّماتِ هذه الْمِلَّةِ قد أصبحت عرضاً مُباحاً لهؤلاء يتخوَّضونَ فيه طعناً , وتسفيهاً , وتشويهاً , وتزييفاً بلا حريجةٍ دينيةٍ أو خُلُقيةٍ !! .. إننا نُعلنُ براءتنا إلى الله عزَّ وجلَّ من كلِّ دعوةٍ تُخاصم شريعة الله تعالى ، وتُجاهرُ أحكامها بالعداء ، ونُعلنُ أنَّ مثل هذه الدعوات امتدادٌ للوجود الاستعماريِّ في بلادنا ! وأنها لا تجتمعُ مع أصلِ الإسلام بحالٍ من الأحوال !! كما ندعو الصحفَ المصرية جميعها : القومية – أي الحكومية – منها , والمعارضة : أن لا تُسوِّدَ أعمدتها بإشاعةِ أحاديث الإفك التي يتداولها هؤلاء ، فإنْ أبتْ إلاَّ أنْ تفعلَ , فلا أقلَّ مِنْ أنْ تُتيحَ لحملَةِ الشريعةِ ودعاةِ الإسلام من المساحة ما يكفي لدفعِ التُهمة بالْحُجة ، ومقارعةِ الكلمة بالكلمة إحقاقاً للحقِّ ، وإبطالاً للباطل ، واتقاءً لسخط الله عز وجل ، فإنَّ هذا هو أدنى ما يُمكنُ قبوله منها باعتبارها تصدرُ في بلادٍ لا تزالُ تنتسبُ إلى الإسلام , وقد آلينا على أنفسنا – نحن الموقعين على هذا البيان – أنْ نقومَ بواجبنا تجاهَ ديننا وأُمَّتنا , وأنْ نصدعَ بكلمة الحقِّ لا نخافُ في الله لومة لائم ، كما اتفقنا فيما بيننا على التصدِّي لكلِّ ما يُثارُ حولَ الإسلام من شبهاتٍ ومفترياتٍ مِنْ خلالِ الحواراتِ والمناظراتِ العلميةِ الجادةِ لكلِّ مَنْ يرغبُ في الحوار والمناظرة ، لتكونَ نوعاً من استفاضة البلاغ , وإقامة الحجة على الكافة ، ليهلِكَ مَنْ هلكَ عن بيِّنةٍ ، ويَحْيَى من حَيَّ عن بيِّنةٍ ، … كما ندعو الأمة جميعاً إلى أنْ تكونَ على بيِّنة مِنْ أمرِ هؤلاء الذين يحرثونَ الطريقَ أمامَ أعدائها في الدنيا ، ويجرُّونها بدعوتهم إلى جحيم الْخُلد وشقاء الأبد في الآخرة !… هذا بلاغٌ لكم والبعثُ موعدنا وعند ذي العرشِ يَدْرِي الناسُ ما الخبرُ ) ([58])

محاولات الاختراق

لقد كانت محاولات الاختراق متعددة ولم تقتصر على الأزهر الشريف بل شملت عدة مؤسسات ورموز ( وقد كانت مصر بالذات من أبرز أهداف الغزو الصليبي بالإضافة إلى تركيا، لمحاولة القضاء على الإسلام في صورتيه السياسية والحربية ممثلا في الدولة العثمانية ، وفي صورتيه الروحية والثقافية ممثلا في الأزهر، ثم إذا تم إخضاع هاتين القلعتين بالذات، وإبعادهما عن الإسلام، فيمكن حينئذ تصدير الفساد منهما إلى بقية العالم الإسلامي، وبدلا من أن تكون الأفكار المطلوب بثها – والتي تمثل الغزو الفكري – عليها طابع لندن وباريس ، فينفر منها المسلمون في كل الأرض ، يكون الطابع مصنوعاً في القاهرة وإسطنبول ، فيسهل تقبل الناس له! ) ([59])

فالأزهر الشريف والخلافة الإسلامية كانا من قلاع الإسلام الحصينة نجح الأعداء في هدم إحداهما وهي الخلافة وبقيت الثانية حتى الآن شامخة تواجه جحافل المكر والطغيان

ومن المجالات المستهدفة بالاختراق التعليم وقد حقق الأعداء فيه تقدما ملحوظا لا ينكر فتم فصل التعليم المدني عن التعليم الديني وكان هذا من أعظم أهدافهم حيث ( أدرك المستعمرون أن أعظم وسيلة لإبعاد المسلمين عن دينهم هو أن يكونوا جهلاء به ، واتعظوا بمصير ( كليبر ) على يد طالب الأزهر: سليمان الحلبي ([60]) وبما ذاقوه من مقاومة في الهند والمغرب تزعمها علماء الشريعة وطلابهم، فوضعوا المخططات الماكرة لتقليص التعليم الديني تدريجياً، وإحلال التعليم اللاديني محله، وأشهر هذه المخططات مخطط كرومر ودنلوب في مصر، الذي انتهج سياسة بعيدة المدى دقيقة الخطأ في القضاء على الأزهر ومعاهده وكتاتيب القرآن، ووضع نموذجاً خبيثاً للدس على الإسلام وتشويه تاريخه خلال المنهج التعليمي، ولا أدل على نجاح هذه الخطة من بقاء آثارها إلى اليوم في مصر والدول العربية عامة ). ([61])

وأصبح خريجو هذه المدارس العلمانية هم المؤهلون لتولي الوظائف العليا والهامة في كل دولة ، وانفصل الدين عن واقع الحياة بانتشار الجهل بأحكامه بين كثير من الناس ، ووصل هؤلاء المفرغون دينيا إلى المناصب العليا المتحكمة في القرارات والمنفذة لها ؛ جهلا أو تبعية أو خوفا من ترك المنصب ، أو رغبة في الوصول إليه . ( ففى مصر مثلا وضع دنلوب مستشار وزارة المعارف في عهد كرومر منهجا تعليميا لمدارس تخرج علمانيين بعيدين عن تأثير الدين ، ويسر لخريجها (حتى من المدرسة الابتدائية) أن يجدوا وظائف في دواوين الحكومة ، بينما خريجو الأزهر لا يجدون بعد تخريجهم عملا يرتزقون منه ، فتحول تيار التعليم الحي عن الأزهر إلى تلك المدارس العلمانية . ) ([62])

وكان هذا التحول بداية السيل المدمر إذ نجح – ولأول مرة – في فصل العلوم وتصنيفها – تصنيفا زائفا – إلى علوم دين وعلوم دنيا ، رغم أن كل علم نافع يعتبره الإسلام من علوم الدين ومما يدل على ذلك قول الله – عز وجل – ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) ([63])

وفي الحديث الشريف ( عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم … ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة … ) ([64])

فالآيتان الكريمتان ذكرتا علوما مما صنفها هؤلاء على أنها من علوم الدنيا وختمتا بتقرير خشية العلماء من الله – عز وجل – والحديث الشريف ذكر العلم بصيغة النكرة الدالة على العموم فلم يفرق بين علم وعلم .

ومن مكرهم أن نشروا بين الناس تقديس الشهادات العلمية ، ثم استخدموا ذلك في اصطياد النوابغ من أبناء المسلمين ( وقد أدرك المستعمرون عقدة الشهادات في البلاد الإسلامية ؛ فوجهوا توصياتهم للجامعات الغربية بشراء من يستطيعون شراءه من أبناء المسلمين بالشهادات … تحت كل هذه المؤثرات المتعددة اندفع فريق من أبناء المسلمين إلى الجامعات الغربية لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه في مختلف العلوم ، بما في ذلك العلوم الدينية والعربية … وسقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين تحت الأيدي الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية ، وغدت خططها ومناهجها وتوجيهاتها ؛ تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وتمليه هذه الأيدي الخفية ، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها ؛ التي تخدم أغراضها في بلاد المسلمين ، وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها … وغدا كثير من الكتاب في العلوم الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي وفي اللغة العربية ؛ لا يرجع إلا إلى ما كتبه المستشرقون . ) ([65])

وهذه عجيبة العجائب إذ يتعلم العرب المسلمون لغتهم ودينهم ويحتكمون فيهما إلى غير العرب وغير المسلمين وهذا أمر لا يقبله عاقل ولا معتز بلغته ودينه ولم يسبقنا إليه أحد فمن ذا الذي يقبل أن يتعلم أصول دينه ولغته وفروعهما عل أيدي غيرهم ( هل يقبل اليهود والنصارى أن يتعلموا أصول ديانتهم وفروعها على أيدي علماء المسلمين ، وأن يأخذوا منهم الشهادات لذلك ؟ ) ([66])

إن هؤلاء المستشرقين قد استطاعوا اختراق مجال التعليم ، وفرض أنفسهم ودراستهم وأفكارهم عليه ؛ عن طريق تلاميذهم من أبناء العرب المسلمين .

وهذا فضلا عن مجافاته للعقل السليم يباين المنهج العلمي في الدراسة والتعليم ، ومع ذلك انطلت الخدعة على كثير من الناس ؛ حيث يعتقد كثير من الباحثين أن الجهود العلمية الكبيرة للمستشرقين كان الهدف منها نشر العلم ، وإحياء الثراث العلمي المندثر ، ولكن هذا الاعتقاد جانبه الصواب لمنافاته لعدة حقائق هامة منها : ( أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها مكتوبة أصلا للمثقف الأوربي وحده لا لغيره ، وأنها كتبت له لهدف معين … أن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها … وأن يكون قادرا على خوض ما يخوض فيه من الحديث مع من سوف يلاقيهم أو يعاشرهم من المسلمين … دون أن تضعف له حمية أو تلين له قناة … أما من حيث هي كتب أو دراسات علمية جديرة باحترام مثقف غير أوربي … فهذا عندئذ موضع نظر … والمستشرق فتى أعجمي ناشئ في لسان أمته وتعليم بلاده … ولكن هذا الفتى يتحول فجأة عن سلوك هذا الطريق ليبدأ في تعلم لغة أخرى … ويتعلم العربية … عن أعجمي مثله وبلسان غير عربي … وأحسن أحواله عندئذ أن يكون في منزلة طالب عربي في الرابعة عشرة من عمره ، بل هو أقل منه على الأرجح ، أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بأقوالهم أحد … فأعجب العجب إذن أن يعد أحد شيئا مما كتبه المستشرقون – في لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وديننا – داخلا في حد الممكن ، وأن يراه متضمنا لرأي حقيق بالاحترام والتقدير ، فضلا عن أن يكون عملا علميا أو بحثا منهجيا نسترشد به في شئون لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وديننا ، كما هو السائد اليوم في حياتنا الأدبية الفاسدة هذه ) ([67])

هذه الحقائق الواضحة غابت عن كثير من الذين بهرهم أسلوب المستشرقين ، أو المنقادين لكل وافد ، المتفاخرين بمعرفته ، وربما بعض المختصين في مجال الاستشراق ، فالمستشرق – بالفعل – لا يحق له أن يحكم على ما يخص ديننا أو لغتنا أو تاريخنا ، لأنه غير مؤهل علميا لذلك ، حيث إن علمه بهذه المجالات لا يتعدى علم القارئ المجتهد – على أحسن تقدير – كما أنه استقى فكرته عمن سبقه من المستشرقين ، وهم كثيرا ما يزيفون الحقائق ؛ لأن هدفهم الأساسي صرف أبناء جلدتهم عن اعتناق الإسلام ، ثم هدفوا من خلال تلاميذهم العرب إلى زعزعة العقيدة في نفوس المسلمين ، وعلى هذا فالاستدلال بأقوالهم فيما يخصنا عمل غير علمي ، لأنه استدلال بقول غير مختص ، أو مغرض ، أو هما معا .

ومن الجدير بالذكر أن الأزهر الشريف دخل في هذه الدائرة العجيبة فأرسل بعض أبنائه النابغين لنيل هذه الشهادات ، بل ووصل بعضهم إلى مراكز القرار والمناصب الدينية العليا كمشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف .

نذكر منهم :

1- الدكتور محمد البهي الذي ابتعث إلى ألمانيا سنة 1931 ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة وعلم النفس من جامعتي هامبرج وبرلين

2- الإمام الأكبر الدكتور عبد الرحمن تاج الذي ابتعث إلى فرنسا سنة 1935 وحصل على الدكتوراه في الدراسات الاستشراقية من جامعة السربون وتولى منصب شيخ الأزهر سنة 1954 : 1958 م .

3- الإمام الأكبر الدكتور محمد الفحام الذي ابتعث إلى فرنسا سنة 1935 وحصل على الدكتوراه في الدراسات الاستشراقية من جامعة السربون وتولى منصب شيخ الأزهر سنة 1969 : 1973 م

4- الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود الذي ابتعث إلى فرنسا سنة 1935 م وحصل على الدكتوراه في التصوف الإسلامي من جامعة السربون عين وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر سنة 1972 م وتولى منصب شيخ الأزهر من سنة 1973 : 1978 م

5- الإمام الأكبر الدكتور عبد الرحمن بيصار الذي ابتعث إلى انجلترا سنة 1950 وحصل على الدكتوراه في الدراسات الاستشراقية من جامعة أدنبرة  عين وزيرا للأوقاف في أكتوبر سنة 1978 م وتولى مشيخة الأزهر سنة 1979 : 1982 م . ([68])

ولا أدري لماذا بعث الأزهر أبناءه لنيل شهادات في علوم هو الحجة فيها ومرجعية العالم الإسلامي فيها إليه ، ولكن هؤلاء الأعلام لم يؤثر عنهم ما يدل على تأثرهم سلبيا بذلك ، بل كانوا من المشهود لهم – من الجميع – بحسن السيرة والإخلاص في خدمة الإسلام ، مما يبعد عنهم تهمة الاختراق .

ولم يأل أعداؤنا جهدا في سبيل تنفيذ أهدافهم ، بل استخدموا عدة أساليب للوصول إليها ، ( ومن تلك الأساليب أيضا التنصير عن طريق التعليم : وذلك إما بإنشاء المدارس والجامعات النصرانية صراحة ، أو بفتح مدارس ذات صبغة تعليمية بحتة في الظاهر ، وكيد نصراني في الباطن ، مما جعل فئاما من المسلمين يلقون بأبنائهم في تلك المدارس ؛ رغبة في تعلم لغة أجنبية ، أو مواد خاصة أخرى ، ولا تسل بعد ذلك عن حجم الفرصة التي يمنحها المسلمون للنصارى حين يهدونهم فلذات أكبادهم في سن الطفولة والمراهقة حيث الفراغ العقلي ، والقابلية للتلقي ، أيا كان الملقي !! وأيا كان الملقى ) ([69])

وقد آتت هذه الجهود ثمارها الخبيثة في كثير من المجتمعات الإسلامية والأمثلة على ذلك كثيرة ( وأقرب مثال على ذلك وجود الجامعات الأمريكية والفرنسية التي ثبت عملها في مجالات التنصير بين المسلمين ، ومجالات خدمة الوجهة الغربية ، كالعمل الاستخباري لصالح الحكومات التي تدعم هذه المؤسسات التعليمية العليا . وتخرج الجامعات مجموعات كبيرة من أبناء المسلمين يكون لها زمام المبادرة في شغل المناصب العليا ؛ ذات التأثير الإداري والثقافي والأدبي والسياسي ، بل والديني أحيانا . وتُلمَّع هذه المجموعة المتخرجة من الجامعات الأجنبية ، وتُعطى الهالة الإعلامية ، وتساند بعضها في المناسبات العلمية والثقافية والأدبية وغيرها . ([70])

ومن المجالات التي تعرضت للاختراق من قبل المستشرقين أيضا بعض المؤسسات العلمية الهامة منها المجامع اللغوية العربية حيث ( استطاعوا أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي بمصر والمجمع العلمي بدمشق والمجمع العلمي ببغداد … فمن المستشرقين الذين اشتركوا في المجالات العلمية الرسمية …

1- ه . ا . ر . جب ([71]) … 2- لوي ماسينيون ([72]) … 3- د . س . مرجليوث ([73])) ([74])

إلى هذه الدرجة وصل الاختراق لمجال التعليم ، وبعض المراكز العلمية الهامة المنوط بها الحفاظ على تراث الأمة الحضاري والثقافي ، فهل حدث مثل هذا في الأزهر الشريف؟

الجواب : لا . وذلك لأن الأزهر الشريف – رغم كل محاولات إقصائه عن الساحة الإسلامية – ما زال يحتفظ بمقومات كثيرة تحميه من الاختراق إلى هذه الدرجة التي وصل إليها غيره من المؤسسات ، لعل من أهمها قوانينه التي تمنع دخول غير المسلمين فيه – معلمين أو متعلمين – وكذلك سلطة إدارته في فصل من يثبت عليه محاربته للإسلام أو عمالته لأعداء الدين ، وسحب الشهادات العلمية منه ، وأبرز مثالين على ذلك ما حدث مع الشيخ علي عبد الرازق والدكتور صبحي منصور . حيث تم عزل الأول من منصبه الشرعي وإخراجه من جماعة كبار العلماء ، وتم فصل الثاني من جامعة الأزهر وسحب شهادة الدكتوراه منه .

ولا ينفي ذلك أن جهود الأعداء قد حققت بعض أهدافها ففي مجال التعليم الأزهري حاول المستعمرون القضاء على التعليم الديني بالقضاء على الأزهر أو إضعافه على الأقل ( وأصبحت السياسة التعليمية في عهد الاستعمار ترتكز على دعامتين:

الدعامة الأولى : إضعاف الأزهر بعزله عن الحياة التعليمية العامة.

الدعامة الثانية : رعاية التقدم المدني في التعليم، وهذا التقدم يرتكز بدوره على إبعاد الثقافة الإسلامية إبعادا تاما عن مناهج التعليم وعلى تشويه تاريخ العرب والمسلمين وفي الوقت نفسه إحلال تاريخ أوروبا والشعوب الأوروبية محل التاريخ العربي والإسلامي . ) ([75])

وقد حققوا نجاحا ملحوظا في تحقيق الدعامة الثانية – كما سبق بيانه – غير أنهم فشلوا فشلا ذريعا في تحقيق الدعامة الأولى بسبب فضل الله تعالى أولا ، ويقظة علماء الأزهر الشريف وحمية الإسلام في نفوس كثير من المسلمين ثانيا ، وإن كان هذا لا ينفي تحقيق بعض التقدم المحدود في بعض أوقات الضعف وتسلط الظلم والطغيان .

ومن ذلك :

1- أن المستشرق الإنجليزي وليم ولكوكس وكان من المناهضين للغة العربية ( قد وفد إلى مصر سنة 1883 م مع أوائل عهد الاحتلال ، وتولى الإشراف على تحرير مجلة الأزهر سنة 1893 أي بعد عشر سنوات من قدومه وذلك لمدة أشهر فقط ، وقد كان لهذا المستشرق نشاط ظاهر وتحمس ملح … ففي سنة 1893 م ألقى في نادي الأزبكية محاضرة بعنوان : { لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين إلى الآن } وقد ضمن هذه المحاضرة الدعوة الملحة إلى الكتابة بالعامية وهجر الفصحى ، ونشر هذه المحاضرة بالعربية في مجلة الأزهر إذ كانت هذه المجلة تحت إشرافه باعتباره ممثلا لقوة الاحتلال الأجنبية . ) ([76])

ومن الجدير بالذكر أنه كان مهندسا للري !!! فأعجب ما شئت عن أهليته للكلام عن اللغة العربية ، وتسلطه على مجلة الأزهر الناطقة بلسانه ، ولكنه لم يستمر طويلا بسبب جهود رجال الأزهر والغيورين على الدين واللغة .

2- أن الرئيس الاندونيسي السابق سوكارنو ( قدم إلى مصر، فاستقبل أعظم استقبال وطلب الرئيس جمال عبد الناصر من الأزهر الشريف منحه أعلى شهاداته العلمية، فمنح ” العالمية ” الفخرية في العقيدة والفلسفة من كلية أصول الدين !!!

ولا أدرى لماذا لم يمنح العالمية في تفسير القرآن وشرح السنة تمشياً مع القول النبوي الكريم: ” إذا لم تستح فاصنع ما شئت ” ؟! إن سوكارنو كان من ألد أعداء الإسلام، وكانت انحرافاته الجنسية الطافحة موضع القيل والقال ، ولا ريب أن إعطائه أي وسام من الأزهر كان تحقيراً للأزهر نفسه ) ([77])

وهذا من عجائب الزمان وغرائب أهل السلطان .

3- فرض مقابلة بعض أعداء الإسلام بل وكل الملل على رجال الأزهر وداخل حرمه حيث إنه ( في يوم ما جاء إلى صحن الأزهر وفد يجمع بين جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار ولويس عوض وتوفيق الحكيم وآخرين لا أذكرهم .. كان فيلسوف الوجودية وعشيقته مدعوين لزيارة القاهرة وإلقاء محاضرات بها .. من الذي استقدم إلى عاصمة العروبة والإسلام هذا الفرنسي الكفور ليلقى فيها بذور انحلاله ؟! ) ([78])

يا ترى ماذا كان يقصد هؤلاء من زيارة الأزهر وتدنيس حرمته ، وهم معروفون إما بالإلحاد التام أو بالعلمانية الخادعة ؟ ومن الذي أجبر بعض رجال الأزهر على استقبالهم ، والسماح لهم ببث دعايتهم المغرضة من داخل أعرق جامعة إسلامية ؟!!!

محاولات إضعاف الأزهر أو القضاء عليه

تعرض الأزهر الشريف لمحاولات متعددة لإضعافه أو القضاء عليه ، وكانت هذه المحاولات منذ عهد ازدهار الأزهر ، وحمله لواء الدفاع عن المظلومين ، أي منذ العصر المملوكي ، لكن كان هذا الدور واضحا تماما منذ عهد الشيخ عبد الله الشرقاوي ([79]) أثناء الحملة الفرنسية على مصر وظل كذلك إلى عهد قريب ، ولذلك تعرض الأزهر لتلك المحاولات التي صدرت عن كثير من الطامعين في السيطرة والنفوذ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، وقد سبق بيان بعض هذه المحاولات وصمود الأزهر في مواجهتها ، ومنها أيضا : أن محمد علي باشا ضاق ذرعا بوقوف الأزهر في وجه أطماعه ومظالمه ، فأراد أن يضعفه ويعزله عن المشاركة في أمور الحياة ، ( وضايق محمد علي باشا العلماء والفقهاء والأزهريين في لقمة العيش , وسيطر على الأوقاف التابعة للأزهر وضمها للدولة ، وبالتالي أحكم السيطرة على المشايخ القائمين على التعليم من رجال الأزهر ، وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية للناشئة من أبناء المسلمين ، لم تنج من غائلة محمد علي ؛ فقد ذكر الجبرتي – رحمه الله – أن كثيراً من المكاتب أغلقت بسبب تعطل أوقافها واستيلاء محمد علي عليها … إن هذه السياسة التدميرية – التي نهجها محمد علي والتي فرضت قهراً على المسلمين – كانت تنفيذاً للمخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها للرحيل ، وهو أمر أكده المؤرخ الإنكليزي أرنولد توينبي في قوله : ( كان محمد علي ديكتاتوراً أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في مصر ) ([80])

وكان من أعماله أيضا أن أخذ النابهين من أبناء الأزهر ؛ وأرسلهم في بعثات تعليمية إلى الخارج ؛ خاصة إلى فرنسا ؛ ليتعلموا فيها علوما أخرى غير علوم الأزهر ، فأفرغ الأزهر من النابهين وفصلهم عنه ، رغم أنه كان بإمكانه أن يستقدم الخبراء بهذه العلوم إلى مصر ، لكن الهدف كان فصل هذه العلوم عن الأزهر لإضعافه ، وما كان ذلك ليتحقق بإدراج هذه العلوم داخل الأزهر .

إلا أن ( شيوخ الأزهر أدركوا خطورة الخطوات التي يتبعها محمد علي الذي ضرب – باسم التحديث – النهضة الحقيقية لرفعة الأمة ؛ بإيجاد المدارس العصرية التي تعد ضربة موجعة ضد الأزهر والأمة والنهوض الفكري . أدرك الأزهريون ذلك ؛ فتصدوا للطغاة من قبل أن تصلهم حرية الرأي والعدالة المصدرة من فرنسا . هذا الوعي من جانب المشايخ في الأزهر حدث لأنهم أدركوا أن وراء خطوات محمد علي ما وراءها من اقتسام الإِمبراطورية العثمانية وفصل مصر عن تركيا .

أما رفاعة الطهطاوي ([81]) فقد أوحى له الفرنسيون بإنشاء مدرسة الألسن التي كانت مركزا لبث الحضارة الغربية بين طلبتنا باسم العلم والثقافة ، عندما استقدمت مصر أساتذة من فرنسا لتدريس المواد في تلك المدرسة ؛ التي شوهت حضارة الإسلام ؛ وبذلك حقق الفصل بين الأزهر من جهة وعلوم العصر من جهة ثانية ، وأحدث انقساما بين النخبة التي يرى أطرافها نقائض لبعضهما . ) ([82])

وكان سبب الانقسام : أن حامل هذه الدعوة مسلم بل ومن أبناء الأزهر ، ومما يلفت الانتباه أنه كان مجرد واعظ للبعثة ، ولم يكن ضمن أعضائها المستهدفين بالتعليم ، وكان من المفترض أن يعود إلى مصر كما ذهب رجلا من رجال الأزهر ، لكن كان للمستشرقين رأي آخر فاستقطبوه ، وكان ما كان من أمره .

( ثم جاء كرومر وقال: “جئت لأمحو ثلاث: القرآن والكعبة والأزهر”، وجاء تقرير لورد دوفرين إلى اللورد جرانفيل وزير خارجية إنجلترا بعد الاحتلال البريطاني لمصر محدداً الخطة التي توقف نمو الأزهر وتركز على التعليم المدني وترفع من شأن العامية وتخفض من شأن القرآن … ويعلق اللورد لويد ( المندوب السامي في مصر) بعد كرومر بعشرين عاماً في كتاب له تحت عنوان ( مصر منذ أيام كرومر ) على خطة التعليم فيقول :

“إن التعليم الوطني ( في مصر ) عندما قدم الإنجليز كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين ، والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي ، وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الديني ، فلو أمكن تطوير الأزهر لكانت هذه خطوة جليلة الخطر ، فليس من اليسير أن يتصور لنا أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكاً بأساليبه هذه ، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها ؛ فعندئذٍ يصبح الأمل محصوراً في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح” اهـ ) ([83])

وهذه محاولة أخرى يعترف بها الأعداء ، ويتباهون بما حققوه منها ولم ينس هؤلاء – كعادتهم – أن يلبسوا الباطل ثوب الحق لخداع البسطاء والغافلين من المسلمين .

( وفي السنوات الأخيرة استطاع الرافضة في ظروف أن يفتتحوا في القاهرة دارا سموها دار التقريب ، وهي أجدر أن تسمي بدار التخريب لأن غايتها الأولي والأخيرة هي تخريب عقائد المسلمين وتقريبهم نحو ضلال الرافضة ، وتهديم الجامع الأزهر كما صرح بذلك يوماً ما رئيس تلك الدار – القحي – في مجلس خاص نقله عنه أحد أصدقائنا الثقات , وقد استطاعت هذه الدار أن تشتري مجموعة من علماء السوء ، ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أُجراء لديها ومروجين لأباطيلها. وحينما توصل بعض هؤلاء إلى مراكز عالية في بعض المؤسسات العالمية الإسلامية حاولوا فرض تدريس مذهب الرافضة رسميا ) ([84])

ورغم ذلك تصدى لهم كثير من علماء الأزهر وناظروهم وفضحوا باطلهم في بعض وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة .

وما زال علماء الأزهر الشريف يقومون بدورهم المنوط بهم – رغم كل شيء – ومواقفهم في مواجهة كثير من الأحداث شاهد على ذلك ، وإن كان بعض هذه المواقف ليس على المستوى المأمول ؛ فليس ذلك عن تقصير من أكثرهم ، ولكن لعوامل أخرى تحد من حريتهم ، وعدم وجود سلطة فعلية لهم ، وبدلا من أن يهاجم بعض الناس الأزهر وعلماءه عليهم أن يقفوا بجانبهم ؛ كما وقفت جماهير الأمة من قبل فاستطاعوا نصرة الحق ودحض الباطل ، فعلماء الأزهر أفراد والأمة قوة لا يستهان بها .

من خلال ما سبق عرضه من عناصر يتبين أن الأزهر قد تعرض لمؤامرات ومكائد من جهات مختلفة لفترة طويلة من الزمن ، وبأساليب متنوعة ، لكنه استعصى عليها جميعا ، وباءت بالفشل الذريع ، وما حققته من نجاح كان جزئيا من حيث الأثر أو من حيث الزمن ، ولهذا أستطيع أن أقول – ثقة بالله وتوكلا عليه – : { إن للأزهر ربا يحميه } وأسأل الله العلي القدير أن يديم حماه على الأزهر الشريف وعلمائه ما بقيت السماوات والأرض ، إنه على ما يشاء قدير وهو نعم المولى ونعم النصير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


الفصل الرابع

الأزهر ودوره بين التاريخ والواقع

د. محمد نور الدين*

مفتتح

لماذا الكلام الآن عن الأزهر الشريف ودوره التاريخي في العالم الإسلامي وفي حياة المسلمين أنفسهم وهل نحن في حاجة الآن إلي الدخول في حديث قد يبدو مكروراً وتقليب لأوراق تاريخية ربما مللنا من التحديق في حروفها .

الحقيقة أننا ألآن وفي تلك اللحظة بالذات بحاجة ماسة إلي الحديث عن الأزهر الشريف ليس من باب التغني بالأمجاد والتاريخ التليد وإن كان موجوداً وليس من باب البكاء علي حاضر متراجع وأن كان أمراً واقعاً

أنما الكلام الآن هو محاولة للتأمل والتدبر والتطلع للمستقبل ليس لأننا فقط نريد أن يستعيد الأزهر دوره وهيبته ، وإنما لأننا في حاجة ماسة لكل ما أنشأ الأزهر من أجله من قيم سمحة في حاجة إلي العلم والتنوير الذي قام به الأزهر الشريف منذ قيامه ولسنوات طويلة حتى صار الأزهر الجامع والجامعة منارة العالم الإسلامي ودرته الغالية

نحتاج الأزهر ببساطة لأنه في الليلة الظلماء يفتقد البدر .

التاريخ والنشأة

بناه جوهر الكاتب الصقلي (إلياس الصقلي) قائد جند أبي تميم معد بعد عام من فتح الفاطميين لمصر، وبعد أن أنشأوا قاعدة ملكهم الجديدة مباشرة (القاهرة جمادى الأولى عام 259 رمضان 361). وفتح للصلاة في شهر رمضان عام 361هـ (حزيران – تموز سنة 972) وبني المسجد في الجنوب الشرقي من المدينة على مقربة من القصر الكبير الذي كان موجوداً حينذاك بين حي الديلم في الشمال وحي الترك في الجنوب. وكتب جوهر بدائر القبة نقشاً تاريخه عام 360هـ. وتجد نصّه في المقريزي (الخطط، ج2، ص273، س24-26) . وقد اختفي النقش منذ ذلك التاريخ وزاد كثير من ولاة الفاطميين في بناء المسجد وحبسوا عليه الأوقاف، نضرب مثلاً لذلك العزيز نزار (365-386هـ ـ 976-996م) فقد جعله معهداً علمياً وأنشأ به ملجأً للفقراء يسع 35 شخصاً.

ويروى أن البناء الأول للمسجد كان به صورة طيور منقوشة على رأس ثلاثة أعمدة حتى لا يسكنه طير ولا يفرّخ به. ولما جاء الحاكم بأمر اللَّه (386-411هـ ـ 996-1020م) زاد في بناء المسجد وحبس الأوقاف عليه وعلى غيره من المساجد. وتجد ثبتاً بهذه الأوقاف فيما ذكره المقريزي (ج2، ص273 وما بعدها) من أخبار عام 400هـ. وفي عام 519هـ (1125م) أنشأ العامر فيه محراباً وحلاّه بالنقوش الخشبيّة. وما زالت هذه النقوش محفوظة في دار الآثار العربية بالقاهرة.

وإنشاء الفاطميين لهذا المسجد يفسّر الاسم الذي أطلق عليه، فقد قيل إنّ الأزهر إشارة إلى السيدة الزهراء وهو لقب فاطمة بنت الرسول محمد (ص) التي سميّت باسمها أيضاً مقصورة في المسجد (المقريزي، ج2، ص275، س16). وقد زاد المستنصر والحافظ في بناء المسجد شيئاً قليلاً.

وتغيّر الحال في عهد الأيوبيين، فمنع صلاح الدين الخطبة من الجامع وقطع عنه كثيراً مما أوقفه عليه الحاكم. وانقضى نحو قرن من الزمان قبل أن يستعيد الجامع الأزهر عطف الولاة ووجوه البلاد عليه، ولما جاء الملك الظاهر بيبرس زاد في بنائه وشجّع التعليم فيه وأعاد الخطبة إليه في عام 665هـ = 1266-1267م.

وحذا حذوه كثير من الأمراء. ومنذ ذلك العهد ذاع صيت المسجد وأصبح معهداً علمياً يؤمه الناس من كل فجّ، ولقي الأزهر من عناية البلاد الشي‏ء الكثير. وزاد في مجده أن غزوات المغول في المشرق قضت على معاهد العلم هناك، وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار مدارسه الزاهرة. وفي عام 702هـ (1302-1303م) خرّب زلزال المسجد، فتولّى عمارته الأمير سهاد ثم جددت عمارة الجامع في عام 725هـ (1325م) على يد محتسب القاهرة محمد بن حسن الأسعردي (من سعرد في إرمينيه). وحوالى ذلك العهد بنى الأميران طيبرس وأقبغا عبد الواحد مدارس بالقرب من الأزهر، إذ بنى طيبرس المدرسة الطيبرسنية عام 709هـ (1309-1310م) وبنى أقبغا عبد الواحد المدرسة الأقبغاوية عام 740هـ (1340م) وقد ألحقت هاتان المدرستان بالأزهر فيما بعد. وقد جدّد الطواشي بشير الجامدار الناصري بناء المسجد وزاد فيه حوالى عام 761هـ (1360م) ورتب فيه مصحفاً، وجعل له قارئاً، ورتّب للفقراء طعاماً يطبخ كل يوم، ورتّب فيه درساً للفقهاء من الحنفية، وجدد عمارة مطبخ الفقراء. وقد سقطت منارة الجامع عام 800هـ (1397-1398م) فشيّدها في الحال السلطان برقوق وأنفق عليها من ماله. وسقطت المنارة مرتين بعد ذلك (817هـ-1414م-1415 و827هـ -1423-1424م) وكان يُعاد إصلاحها في كلّ مرّة. وحوالى ذلك العهد أنشأ السلطان برقوق صهريجاً للماء وشيّد سبيلاً وأقام ميضأة. وشيّد الطواشي جوهر القنطبائي المتوفي عام 844هـ (1440-1440م) مدرسة بالقرب من المسجد، وكان قايتباي أكثر الناس رعاية للجامع الأزهر في القرن التاسع الهجري، فقد أكمل ما زاده في بناء المسجد عام 900هـ (1494-1495م) أي قبل وفاته بوقت قصير. وكان له الفضل كذلك في إقامة منشات للفقراء والعلماء. وقد أثبتت النقوش بيان ما زاده في المسجد ويذكر ابن إياس (ج2، ص167، ص22 وما بعدها) أنه كان لهذا الوالي عادة غريبة، فقد اعتاد الذهاب إلى الجامع الأزهر متخفيّاً في زي مغربي ليصلّي وليسمع ما يقوله الناس عنه، على أن ابن إياس لم يذكر لنا النتيجة التي أفضى إليها هذا العمل، وبنى قانصوه الغوري اخر المماليك (906-922هـ ـ 1500-1516م) المئذنة ذات البرجين.

وفي العهد العثماني كان الفاتح سليم شاه كثيراً ما يزوره ويصلّي فيه، وقد أمر بتلاوة القران فيه وتصدّق على الفقراء المجاورين طلبة العلم الشرعي (تاريخ ابن إياس، ج3، ص116، و132 و246 و309 و313). وتجدر بنا الإشارة إلى الزاوية التي أقيمت ليصلّي فيها المكفوفون وسمّيت بزاوية العميان، فقد بناها عثمان كتخدا القزدوغلي (قاصد أوغلي) في عام 1148هـ (1735-1736م). ويظهر أنّ عبد الرحمن كتخدا المتوفي (عام 1190هـ-1776م) كان من أقارب عثمان القزدوغلي، وكان عبد الرحمن من أكثر الناس إحساناً إلى الأزهر. فقد بنى مقصورة وأحسن تأثيثها، وأقام قبلة للصلاة، ومنبراً للخطابة، وأنشأ مدرسةً لتعليم الأيتام، وعمل صهريجاً للمياه، وشيّد له قبراً دفن فيه، ووسط المباني الجديدة بين المدرسة الطيبرسية والمدرسة الأقبغاوية (التي حرف اسمها إلى الإبتغاوية فيما بعد).

ولم تكن النهضة في عهد محمد علي تعطف على الأزهر أوّل الأمر ولكن الخديويين في العهد الأخير بذلوا جهدهم للإبقاء على ما لهذا الجامع من مجد وصيت.

شهد الأزهر أول حلقة درس  تعليمي عندما جلس قاضي القضاة [[أبو الحسن علي بن النعمان]] في (صفر [[365 هـ]]/[[أكتوبر]] [[975]]م) ليقرأ مختصر أبيه في [[فقه آل البيت]]. ثم قام الوزير [[يعقوب بن كلس]] الفاطمي بتعيين جماعة من الفقهاء للتدريس و أجري عليهم رواتب مجزية، وأ قام  لهم دوراً للسكن بجوار المسجد. وكان يطلق عليهم المجاورون وبهذا اكتسب الأزهر لأول مرة صفته العلمية باعتباره معهداً للدراسة المنظمة. وظل الأزهر علي هذا المنوال من تدريس ال[[فقه]] [[شيعة|الشيعي]] وتعليم وتأهيل دعاة مذهب [[فاطميون|الفاطميين]]. حتي توقفت الدراسة به تماما في [[أيوبيون|العصر الأيوبي]] لأن الأيوبيين كانوا يعملون على إلغاء المذهب الشيعي، وتقوية [[سنة|المذهب السني]] بإنشاء مدارس لتدريس [[حديث نبوي|الحديث]] و[[الفقه]] كما كان متبعا في [[جامع عمرو بن العاص|جامع عمرو]] ب[[الفسطاط]] أيام الفاطميين. و قل الإقبال على الأزهر. لكنه استرد  مكانته في [[مماليك|العصر المملوكي]] بعدما أصبح  تدرس فيه الفقه و[[المذاهب السنية]] فقط. فشهد إقبالا وازدحم بالعلماء والدارسين، وبحلقات العلم التي  كانت تضم العلوم الشرعية واللغوية من [[فقه]] و[[حديث نبوي | حديث]] و[[آداب]] و[[توحيد]] و[[منطق]] و[[علم الكلام]]. و[[علم الهيئة]] و[[الفلك]] و[[الرياضيات]]  كالحساب و[[الجبر]] و[[الهندسة]]. وكان الطالب يلتحق بالأزهر بعد أن يتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وحفظ القرآن  دون التزام بسن معينة ليتردد على حلقات العلماء ويختار ما يريد من العلماء القائمين على التدريس. وكان الطالب غير ملتزم بالانتظام في الدراسة؛ فقد ينقطع عنها لفترة ثم يعاودها. ولم تكن هناك لوائح تنظيمية تنظم سير العمل أو تحدد المناهج والفرق الدراسية وسنوات الدراسة. والطالب  لو  أصبح مؤهلا للتدريس والجلوس موقع الشيوخ استأذنهم وقعد للدرس. فإذا لم يجد فيه الطلاب ما يرغبون من علم، انفضوا عنه وتركوا حلقته، أما إذا التفوا حوله، ولزموا درسه، ووثقوا فيه، فتلك شهادة بصلاحيته للتدريس. بعدها يجيزه شيخ الأزهر. فيحصل علي شهادة الإجازة في التدريس. وظل هذا النظام متبعا حتى [[الخديوي إسماعيل]] عندما أصدر أول قانون للأزهر سنة (1288 هـ]]/[[1872]]م) لتنظيم حصول الطلاب على [[الشهادة العالمية]]، وحدد المواد التي ييمتحن فيها الطالب بإحدى عشرة مادة دراسية شملت [[الفقه]] و[[أصول الفقه |الأصول]] و[[الحديث]] و[[التفسير]] و[[التوحيد]] و[[النحو]] و[[الصرف]] والمعاني والبيان والبديع والمنطق. و طريقة الامتحان بأن  يقوم الطالب بالجلوس فوق أريكة المدرس، والممتحنون أعضاء اللجنة يتحلقون حوله في وضع الطلبة. فيلقي الطالب درسه. ويقوم الشيوخ بمناقشته في مختلف فروع العلم. وقد يستمر الامتحان لساعات طويلة لا تقطعها اللجنة إلا لتناول طعام أو لأداء الصلاة. حتى إذا اطمأنت  من تمكن وتاهيل وحفظ الطالب أجازته وأعطته درجات لتحديد مستواه. فالدرجة الأولى تمنح للطالب الذي يجتاز جميع المواد أو معظمها، والدرجة الثانية للذي يقل مستواه العلمي عن صاحب الدرجة الأولى، ولا يسمح له إلا بتدريس الكتب المتوسطة، أما الدرجة الثالثة فحاملها لا يُسمح له إلا تدريس الكتب الصغيرة للمبتدئين. ومن كان يرسب  في الامتحان فكان يمكنه  إعادة الامتحان  مرة أخرى أو أكثر دون التزام بعدد من المحاولات. ويحق لمن حصل على الدرجة الثانية أو الثالثة أن يتقدم مرة أخرى للحصول على الدرجة الأعلى. وفي عهد [[الخديوي عباس حلمي الثاني]] صدر قانون سنة ([[1314 هـ]]/[[1896]]م) لتطوير الأزهر. وقد حدد القانون سن قبول التلاميذ بخمسة عشر عاما مع ضرورة معرفة القراءة والكتابة، وحفظ القرآن وحدد المقررات التي تُدرس بالأزهر مع إضافة طائفة جديدة من المواد تشمل الأخلاق و[[مصطلح الحديث]] والحساب والجبر و[[العروض]] و[[القافية]] و[[التاريخ الإسلامي]] والإنشاء ومتن اللغة ومبادئ الهندسة وتقويم البلدان. وأنشأ هذا القانون شهادة تسمى “الأهلية” يتقدم إليها من قضى بالأزهر ثماني سنوات ويحق لحاملها شغل وظائف الإمامة والخطابة بالمساجد، وشهادة أخرى تسمى “العالمية”، ويتقدم إليها من قضى بالأزهر اثني عشر عاماً على الأقل، ويكون من حق الحاصلين عليها التدريس بالأزهر.

وصدر المرسوم الملكي  رقم 26 لسنة [[1936]]م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها للقيام على حفظ الشريعة الإسلامية وأصولها وفروعها واللغة العربية وعلى نشرها, وتخريج علماء يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة بالمعاهد والمدارس. وحدد المرسوم اختصاص هيئة كبار العلماء وقصر  كليات الأزهر على ثلاث هي:  كلية الشريعة و كلية أصول الدين و كلية اللغة العربية. كما حدد دور المعاهد الأزهرية في تزويد الطلاب بثقافة عامة في الدين واللغة، وإعدادهم  لدخول كليات الأزهر دون غيرها


الأزهر في ظل الدولة الفاطمية

لا يمكننا أن نتحدث عن الأزهر دون أن نتحدث عن الدولة التئ أنشأته وكانت لها الفضل الأول في جعله منارة للفكر والتسامح  في العالم الإسلامي بل أن جزء كبيراً من دور مصر التاريخي في العالمين العربي والإسلامي لم تكتسبه مصر إلا من وجود الأزهر الشريف علي أرضها.

تكن دولة الخلافة الفاطمية في المغرب، تظهر على مسرح الدنيا العربية و الإسلامية، أو تعيش طويلا لو لا أن يكون من مبادئها التنظيم و الإدارة، و إقامة العدل، و إحلال النظام، و قد وضعوا منذ بادئ الأمر نصب أعينهم مبدأ منافسة العباسيين و إنهاء حالات الظلم و التعسف و الفساد التي تسببوا بها، و هكذا بالنسبة للأمويين، فوضعوا القواعد و أقاموا الأعمدة، و تطلعوا إلى الديار المصرية التي هي مهوى أفئدتهم، فأرسلوا إليها الدعاة للقيام بالدعوة و كسب الأنصار و المؤيدين، و كان ذلك في وقت مبكر من ظهور دولتهم. و قد نجحوا على هذا الصعيد، بعد ذلك راحت القيادة الفاطمية تمهد للعمل العسكري بغية فتح مصر على يدها و ضمها إلى دولتها، إذ تم إرسال ثلاث حملات عسكرية إلى الديار المصرية في عهد .

الخليفة المؤسس المهدي

أ ـ الحملة الأولى: كانت في سنة 301هـ، و كان يقود الجيش الفاطمي القائد الكتامي (جناسه ابن يوسف) و قد نجح في احتلال الإسكندرية و الوجه البحري، إلا أن جيش الخليفة العباسي المقتدر بقيادة (مؤنس الخادم) سرعان ما استردهما من الفاطميين و أرغم جناسه على التراجع، و أبدى قطاع واسع من الشعب المصري موقفا ميالا لصالح الفاطميين بغية التخلص من تسلط العباسيين.

ب ـ الحملة الثانية: تحت سنة 307 هـ من قبل الأسطول البحري الفاطمي بقيادة ولي العهد (القائم بأمر الله)، و تمكن الفاطميون من احتلال الإسكندرية و الجيزة و الوجه البحري، إلا أن جيش الخليفة العباسي بقيادة مؤنس الخادم، تمكن ثانية من إلحاق الهزيمة بالجيش الفاطمي و اجباره على التراجع.

ج ـ الحملة الثالثة: تمت ما بين سنة 321 ـ 324، و كان يقود الجيش الفاطمي الكبير هذه المرة القائد الكتامي (حبش بن أحمد) و في هذه المرة نجح الفاطميون في احتلال معظم أرجاء مصر و ضمها لدولتهم، مما دعا زعماء البلاد و الشيوخ إلى المثول للحكم الفاطمي و إعلان الطاعة و الولاء، و قد اتفقوا على توقيع معاهدة صلح اعتبروا فيه أنفسهم من رعايا الدولة الفاطمية.

و مع ضم مصر، أصبحت الدولة الفاطمية تشتمل على ثلاث ولايات: هي مصر وتعتبر مركز الخلافة العامة، و الشام و أفريقية، و نواب الخليفة فيها يعرفون بـ (الولاة)، و للشام واليان هما والي دمشق و والي الرملة و يشمل حكمه سائر فلسطين، و كان القطر المصري ينقسم إلى أربعة اقاليم أو ولايات هي: ولاية قوص و هي أعظمها، و كانت تشمل الوجه القبلي كله، و الشرقية و الغربية و الإسكندرية و هي أقلها. و أما أفريقية فقد لبثت مدى حين تابعة للخلافة، ثم استقلت بشؤونها فيما بعد. و أستأثر الأمراء البربر بالسلطان فيها، و لبثت صقلية كذلك تابعه من الناحية الدينية للخلافة عصرا حتى انتهت بالسقوط في يد الفرنج النورمان في سنة 462 هـ (1072 م)، و كانت أعمال الحرمين و اليمن أيضا تابعة للخلافة الفاطمية من الوجهة المذهبية، يُدعى فيها الخليفة الفاطمي، و لكنها كانت مستقلة بشؤونها.

الدولة الفاطمية و الحرب مع الروم البيزنطيين

اتجهت سياسة الفاطميين بعد أن امتد نفوذهم إلى مصر في عهد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358 هـ / 969م إلى استعادة المدن التي استولى عليها البيزنطيون في شمال الشام، و لقد كان الفاطميون بعيدي النظر حين أدركوا أن الجيوش البرية وحدها لا تكفي لحماية العالم الإسلامي و إنقاذ الوطن العربي، فأنشأوا أسطولا ضخما حمى البلاد من الهجمات البيزنطية ثم دافع عنها بعد ذلك في الحروب الصليبية.

و إلى جانب ذلك فأن الفاطميين وضعوا منذ الساعة الأولى لحكمهم خطة هي أن يقوم هذا الحكم على قواعد ثابتة من العلم و المعرفة، و خططوا كما يقال اليوم لسياسة تعليمية شاملة ترتكز على إنشاء جامعة كبرى، ثم على تفريغ العلماء للعلم، ثم أرسلوا يستدعون العلمــاء من الخارج و قد اشتــد هذا المــنهج و اتسع و قوي بعد إقامة الوحدة بضم البلاد الأخرى إلى مصر، و إنشاء القاهرة و إقامة الأزهر

و لما قامت الدولة الفاطمية بمصر ما لبثت الحركة العقلية أن لقيت ملاذها في قيام الجامعة الفاطمية الكبرى، التي تمثلت بـ (الجامع الأزهر) الذي أقيم في البداية ليكون مسجد الدولة الجديدة و منبرها الرسمي، ثم أنشئت فيه منذ عهد العزيز بالله تلك الحلقات الدراسية التي استحالت فيما بعد إلى جامعة حقة، و كانت الدولة الفاطمية تعني منذ قيامها بناحية معينة من الدراسات الدينية هي الناحية المذهبية، و أنشئت (جامعة دار الحكمة) الشهيرة في عهد الحاكم بأمر الله.

و أيضا أنشئ منصب داعي الدعاة ليشرف على بث الدعوة على يد نوابه و نقبائه، و تولي تدريس الأصول الشيعية و فقه آل البيت(ع) منذ البداية، جماعة من الفقهاء الممتازين، و في مقدمتهم بنو النعمان. و أولى الحاكم الفاطمي الحركة العقلية شيئا أو جانبا من رعايته، فأجزل النفقة لجامعة دار الحكمة كما هو بالنسبة للجامع الأزهر، و زودها بخزائن الكتب الجليلة، وعقد مجالس المناظرة للعلماء و الأدباء، و غمرهم بصلاته، و قرب إليه عدة من أقطاب المفكرين و الأدباء، أمثال الكاتب و المؤرخ الكبير محمد بن القاسم بن عاصم شاعر الحاكم و جليسه، و أبي الحسن علي بن محمد الشابشتي الكاتب صاحب الديارات، و قد توفي سنة 390 هـ، و ابن يونس العلامة و الرياضي و الفلكي الشهير و غيرهم.

كما نبغ في مجال علوم الطب عدة من أكابر الأطباء، منهم محمد بن أحمد سعيد التميمي طبيب العزيز بالله، و أبو الفتح منصور بن مقشر النصراني، ثم طبيب ولده الحاكم من بعده.

و ازدهرت الحركة الفكرية المصرية نوعا ما خـــلال النصـــف الأول مـــن القرن الخامس، بـــيد إنها ضعفت في أواخر هذا القرن في عهد المستنصر بالله، و كانت هـــذه الفترة غـــاصة بالمحن و الأحـــداث و الفتن الداخلية و الخارجية، فلم تلـــق الحركة الأدبــية كثــــيرا من الرعاية أو التعضيد، بيد إنها عادت في أوائل القرن السادس فانتعشت، و استمرت على انتعاشا و قوتها حتى نـــهاية الدولة الفاطمية سنة 567هـ / 1172م.

و في الفترة الأخيرة من عصر الدولة الفاطمية، ازدهرت حركة الكتابة في مجال النثر من حيث براعته وروعة إسلوبه و افتنانه، و تعاقب فيها من ديوان الإنشاء عدة من أئمة البيان الرائع، الذين جعلوا من رسائلهم الحلافية و الديوانية نماذج من الفصاحـــة الباهــرة، و كـــان من هؤلاء أبو الفتوح الدمياطي شيخ القاضي الفاضل، و ابن الخلال.

و من ابرز الفلاسفة الكثيرين الذين تأثروا بالعقائد الشيعية عامة و الفاطمية خاصة أحمد حميد الدين الكرماني فيلسوف الدعوة وحجتها في العراق و صاحب الكتب الفلسفية الفاطمية مثل كتاب راحة العقل و كتاب المصابيح و كتاب الأقوال الذهبية و غيرها، و كذلك المؤيد في الدين و غيره.

و لعل أشهر عالم رياضي شهدته مصر الفاطمية هو الفيلسوف أبو علي محمد بن الحسن الهيثم الذي تضاهي مرتبته العلمية مرتبة اينشتاين في العصر الحديث.

لقد تفرد الفاطميون بإنشاء دور الكتب الكبرى في الإسلام و بلغت تلك الدور حداً عجيباً، و اجتمع فيها من أمهات الكتب و مصادر العلوم المختلفة. من مآثر الفاطميين التي لا يزال المسلمون يستفيدون منها حتى اليوم جامع الأزهر، و قد شرع القائد الفاطمي جوهر في بناء الأزهر بأمر من المعز عندما شرع في بناء مدينة القاهرة يوم السبت لست بقين من جمادي الأولى سنة 359هـ، و تم بناؤه في التاسع من رمضان سنة 361هـ، ثم جدد فيه العزيز بالله و الحاكم بأمر الله ثم جدده المستنصر بالله و الحافظ لدين الله. و كان هذا المسجد محل رعاية الخلفاء الفاطميين و عنايتهم فلم يقصروا في تجديده و الزيادة فيه، و وقفوا لمؤذنيه و خدمه وسائل نظافته و انارته و فرشه ما هو مذكور في كتب التاريخ

يحدثنا العلماء والمؤرخون أن مصر لم تستفد من ولاتها الذين حكموها منذ الفتح الإسلامي قدر ما استفادت وانتفعت من الفاطميين على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية، وأن بناء القاهرة والجامع الأزهر لهما خير دليل على ذلك . . والتاريخ يحدثنا عن نهضة واسعة في الحياة الفكرية والأدبية في العصر الفاطمي كما يحدثنا عن ازدهار العلوم الفلسفية والرياضيات والفلك والتنجيم والطب.

وفي هذا المجال يقول الدكتور محمد كامل حسين: . . في العصر الفاطمي نرى تطورا جارفا في الحياة الفكرية ولا سيما في العلوم الفلسفية على اختلاف ألوانها وفنونها . إذ ازدهرت هذه العلوم ورعاها الخلفاء الفاطميون .

بل كان هؤلاء الخلفاء من العلماء المبرزين في بعض هذه العلوم . وخاصة في الإلهيات والفلك . . وقد اهتم الفاطميون برصد النجوم واهتموا بعلماء الرياضيات اهتماما خاصا . . كما اهتموا بالشعر واتخذوه وسيلة من وسائل دعوتهم السياسية .

وكان الفاطميون أساتذة فن الدعاية واتخذوا لها كل الوسائل الممكنة في عصرهم وجندوا للدعاية كل من يفيدهم في هذا المضمار . . ولا أكاد أعرف دولة من الدول الإسلامية أقامت للشعراء هذا التمجيد . أو اهتمت بهم هذا الاهتمام فلا غرو إذا ازدهر الشعر المصري ازدهارا لم يعرف من قبل . .

ويقول الدكتور عبد المنعم ماجد:. . ويرجع الفضل إلى الفاطميين في خلق أهمية مركز مصر الدولي للتجارة . إذ أنهم عرفوا مزايا الموقع الجغرافي لمصر في مفترق القارات لتربط بين عالمين ولكي يسهل الفاطميون نقل التجارة بين الشرق والغرب فتحوا القنال بين النيل والبحر الأحمر وهو ما عرف في عهد المستنصر بالخليج الحاكمي نسبة إلى الحاكم بأمر الله . .

ووفقاً للكاتب المهم الأستاذ صالح الورداني (الشيعة في مصر) فقد ذكر الرحالة ناصر خسرو عندما مر بمصر في تلك الفترة: أن المصريين كانوا في حالة حسنة جدا . وأنه رأى أموالا يملكها بعض المصريين لو ذكرها أو وصفها لما صدقه أحد . فهي لا تقع تحت تحديد أو حصر . وهي للنصارى والمسلمين على السواء . .

وذكر أيضا : وقد رأيت الأمن والعدل فيما رأيت من بلاد العرب والعجم في أربعة مواضع : الأول بالدشت أيام نشكر خان . والثاني بالديلم أيام أمير الأمراء جستان بن إبراهيم والثالث بمصر أيام المستنصر بالله أمير المؤمنين . والرابع بطبس أيام الأمير أبي الحسن بن محمد. فلم أسمع على كثرة ما سافرت بهذه الجهات عن الأمن ولم أره .

لقد أصحبت مصر لأول مرة في التاريخ مركز الحكم والتوجيه وتحولت القاهرة إلى عاصمة للعالم الإسلامي كما أصحبت منارة العلم وقبلة المتعلمين وذلك بفضل الفاطميين الشيعة .

وكانت الدولة الفاطمية تمتد من أقصى المحيط الأطلسي إلى الفرات وبلغت دعوتها إلى أقصى انتشارها ووصل غناها إلى الذروة . وهكذا كان حال الدولة الفاطمية حين تسلمها المستنصر بالله الخليفة الثامن من خلفاء الفاطميين. وكانت الدولة الفاطمية في خلافة الظاهر والد المستنصر في غاية الاستقرار والرفاهية ولأجل ذلك مال الظاهر إلى الدعة والراحة ولما جاء المستنصر ركن إلى هذا الحال . .

وقد ازدهرت الحركة العمرانية في عهد الفاطميين كما ازدهرت صناعة النسيج واشتهرت مصر بصناعة أنواع خاصة من النسيج .

وكانت الحكومة تقوم بكسوة موظفيها في الصيف والشتاء وكسوة العامة من الفقراء والمحتاجين . . ولم تكن المواكب المترفة غاية الترف التي كانت تخرج في شوارع القاهرة في المناسبات الدينية كعيد الفطر والأضحى وبداية رمضان وكذلك في عيد ميلاد الخليفة – هذه المواكب تشير في دلالة واضحة إلى حالة الرخاء والسعة التي كانت تعيشها في تلك الفترة . .

ويروي المؤرخون الكثير عن عدل المستنصر ورحمته بالناس فقد كان يعطي الدواء لمن يطلبه المجان ويخالط الناس ويسمع شكواهم وقد أحبته الرعية حبا شديدا . .

كما يروى أن النفقة على قافلة الحج في عهد المستنصر بلغت مائتي ألف دينار ولم تبلغ هذه النفقة مثل ذلك في دولة من الدول حيث كانت تشمل ثمن الطيب والشمع والحماية والصدقة وأجرة الجمال ومعونة خدم القافلة ومن يسير معها من العسكر الذين بلغت نفقاتهم في عهد المستنصر ستين ألف دينار زيادة على مرتباتهم أو ألف دينار في اليوم . .

وبلغ عدد المساجد في مصر آنذاك ستة وثلاثون ألف مسجد في جميع المدن والقرى ولكل مسجد يقع في حدود الدولة من الشام إلى القيروان نفقات يقدمها الخليفة المستنصر من زيت وحصير وسجاجيد للصلاة ورواتب للقوام والفراشين والمؤذنين وغيرهم . .

واعتاد خلفاء الفاطميين أن يقيموا في قصورهم الولائم الفاخرة في الأعياد لعامة الناس حيث تقدم لهم الفطرة وهي حلوى من دقيق وفستق ولوز وبندق وتمر وزبيب وعسل وهي تنشر كالجبل الشاهق على مائدة طويلة بالإيوان الكبير . .

وفي عيد الأضحى كان الخليفة ينحر بنفسه الأضاحي إيذانا منه ببدء النحر . وكانت تنحر في فترة العيد ما يزيد على الألف رأس توزع لحومها على الموظفين وطلبة العلم والقائمين بشئون الجوامع . .

إن الدولة الفاطمية التي استقرت بمصر فكانت أوفرها بين الدول بهاء وأبقاها أثرا وما زال الجامع الأزهر غرس الدولة الفاطمية اليانع يقوم منذ ألف عام أثرا خالدا ورمزا باهرا لهذا العصر الزاهر وهذه الدولة المستنيرة العادلة وربما كان العصر الفاطمي بين عصور مصر الإسلامية الغابرة أجودها من هذه الناحية بالدرس والتمحيص وأحفلها بالمواقف الشائقة وأكثرها سحرا وفتنة وأبعثها إلى التأمل والعطف لأن الخلافة الفاطمية بالرغم مما كان يحيق بأصولها وأمامها من الريب فقد كانت بنظمها الطريفة ورسومها الفخمة وخلالها الباهرة تنثر من حولها فيض من العظمة والبهاء وتطبع العصر بطابع عميق من روحها الباذخ كما يحدثنا التاريخ .

ويؤكد الخبراء في هذا الصدد أنه في أيام هذه الدولة أخذت أنوار الحضارة الإسلامية تنبثق من هذه المدينة الزاهية على أرجاء الأرض . وأخذ الفن المصري الإسلامي يتألق في جميع نواحيه .

الأزهر والمقاومة

كان الأزهر الشريف علي مر العصور منارة للمقاومة ضد أعداء الأمة كما كان منارة للعلم والتنوير فمن رحاب الأزهر الشريف وبقيادة علمائه خرجت دائما المقاومة لتدافع عن الأمة من مخاطر المستعمرين والطامعين فمن مقاومة الحملة الفرنسية بقيادة شيخ الأزهر عمر مكرم مروراً بثورة الوحدة الوطنية في 1919 إلي لجوء القوي الوطنية إلي صحن الجامع الشريف ليعلنوا مناصرة المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان تاريخ طويل من الفهم والوعي للدور الحقيقي لهذا الصرح العظيم

ولما غزا الفرنسيون مصر، تصدى علماء الأزهر وطلابه للفرنسيين ، ولم يقتصر دورهم على المقاومة العسكرية فحسب ، ولكن تعداه إلى مقاومة الغزو الفكرى أيضا، فقد حاول نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية بخبثه ودهائه أن يطرح مسائل خاصة بالقضاء المدنى والجنائى وما يجب وضعه لإصلاحه ، ومسألة المواريث والتشريع الذى يكفل ضبطها ، فى ديوان القاهرة الذى أنشأه بونابرت – وكان علماء الأزهر أعضاء فيه – بغرض زعزعة الثقة فى التشريع الإسلامي ، تمهيدا للقضاء عليه واستبدال التشريع الفرنسى به ، غير أن علماء الأزهر تنبهوا لهذه المقترحات ووقفوا لها بالمرصاد.

أما مقاومة جنود الحملة ،  فقد قاد علماء الأزهر الثورة ضد الفرنسيين فيما عرف باسم ثورة القاهرة الأولى فى أكتوبر عام 1798 م ، وكان الأزهر مركزا للثورة ، وبين أروقته تشكلت لجنة للثورة اعترف بها نابليون نفسه فى مذكراته حيث قال ” إن الشعب قد انتخب ديوانا للثورة ، ونظم المتطوعين للقتال، واستخرج الأسلحة المخبوءة ، وإن الشيخ السادات انتخب رئيسا لهذا لديوان ” وذكر فى تقريره إلى حكومته عن ثورة القاهرة الأولى ” وإن لجنة الثورة كانت تنعقد فى الأزهر “

وبعد رحيل الفرنسيين عن مصر،  كان لعلماء الأزهر الدور العظيم فى تولية محمد على حكم مصر عام 1805م ، وإجبار السلطان العثمانى على الاعتراف برغبة الشعب المصرى ، وكانت هذه هى المرة الأولى التى يتولى فيها نائبا عثمانيا حكم مصر برغبة الشعب عن طريق زعامته المتمثلة فى علماء الأزهر

وفي ثورة الشعب المصري عام 1919 ضد الاحتلال البريطاني كان للأزهر الدور الأبرز حيث فتح أبوابه لتنطلق منها مظاهرات الشعب المصري ضد الاحتلال واحتضن الأزهر الشريف زعماء الثورة ووقف بجوارها كما ضرب المثل في تمسكه بوحدة المصريين مسلمين ومسيحيين ووقوفهم جميعاً ضد الاحتلال ولا ينسي أحد مشهد اعتلاء القساتوسة لمنبر الأزهر للدعوة للوحدة والثورة ضد المحتل

ذلك المشهد الذي لم ينمحي من ذاكرة المصريين رغم كل محاولات الفرقة

وفي عام 1956 عام العدوان الثلاثي علي مصر أدرك الزعيم جمال عبد الناصر بفطرته وبعد نظره قيمة الجامع الأزهر ودوره التاريخي في نفوس المصريين والعرب جميعاً فكانت خطبته الشهيرة من فوق منبره الذي دعا فيها للمقاومة ومحاربة الغزاة فكان لخطبة الأزهر مفعول السحر في جمع المصريين ضد الاحتلال حتي تحقق النصر وجلاء الغزاة واستعادة مصر لقناة السويس .

أما الآن فلا يجد المثقفون الوطنيون ملاذا غير الجامع الأزهر لتنطلق منه صراختهم الداعية للوقوف خلف المقاومة في كل شبر من اعالم العربي في العراق وفلسطين ولبنان ولم تكن الحرب الصهيونية في 2006 علي لبنان سوي شاهد آخر علي أهمية الجامع الأزهر الذي خرجت منه المظاهرات لتهتف للمقاومة ولحزب الله وزعيمه السيد حسن نصر الله حتي تحقق النصر المبين علي يد المقاومة التي خذلتها الدول ولكن أنصفتها الشعوب ووقفوا معها بفطرتهم وثقتهم في أن السبيل الوحيد لنهضة الأمة نابزين كل الكلمات الجوفاء عن حزب الله وقائده ومؤكدين أن مسألة الخلاف ما بين السنة والشيعة ما هي إلا لعبة يلعبها الأعداء ليثيروا الفتنة والضغائن في جسد الأمة .

ثم ماذا بعد :

لا شك أن حرصنا علي الأزهر الشريف ودوره التاريخي يحتم علينا أن ننظر بعين النقد إلي الحال التي وصل إليها هذا الصرح العظيم والأسباب التي أدت إلي حالة الضعف التي وصل إليها  لنحاول أن نضع أيدينا علي الدواء

يبدو لأول وهلة أن جميع الحكام الذين تعاقبوا علي حكم مصر أدركوا تأثير الأزهر ومكانته في نفوس المصريين  وحاولو جميعاً استمالة  الأزهر إلي جانبهم بل وسعوا في أوقات كثيرة للسيطرة عليه والتدخل في شئونه وكان لهذه المحاولات أثراً سيئاً علي الدور الذي يقوم به الأزهر الشريف فلم يعد الأزهر يتمتع بذلم الاستقلال الذي كان يقوم من خلاله بدوره الكبير في الحياة المصرية والإسلامية بشكل عام

وقد بدأ الدور السياسي لشيخ الأزهر يبرز في ظل مشيخة الإمام محمد الحفني (1757 ـ 1767)، الذي بلغ في هذا المضمار شأنا عاليا، رسم الجبرتي ملامحه قائلا: كان شيخ الأزهر محمد الحفني قطب رحى الديار المصرية، ولا يتم أمر من أمور الدولة وغيرها إلا بإطلاعه وإذنه.

وقاد احتجاج الشيخ أحمد العروسي على إساءة الوالي العثماني أحمد أغا لأهالي الحسينية إلى صدور فرمان سلطاني بعزل هذا الوالي. واضطر خلفه إلى أن يحضر إلى الأزهر ليسترضي علماءه. وبعد العروسي كان الأزهر على موعد مع رجل زاوج بين الدين والسياسة، في الفكر والحركة،

وهو الشيخ عبد الله الشرقاوي (1793 ـ 1812)، الذي عاصر هبات المصريين ضد الحملة الفرنسية، وكان واحدا من رموز الشعب آنذاك، وحشد طاقة الأزهر في طليعة مقاومة الاحتلال، وعينه نابليون بونابرت ضمن عشرة في «مجلس الشورى» الذي أنشأه لاسترضاء المصريين.

وكان الشرقاوي ممن أخلعوا الولاية على محمد علي واشترطوا عليه الحكم بالعدل، لكنه نقض العهد، وتخلص من مشايخ الأزهر ومن بينهم الشرقاوي. أما الشيخ الشنواني (1812 ـ 1818) فكان دائما يسدي النصائح لمحمد علي، رغم عزوفه عن الاتصال بمن بيدهم السلطة، وقد كان أيضا من قادة الحركة الوطنية إبان الحملة الفرنسية.

وكان الشيخ حسن العطار من قادة الحركة الوطنية ضد الحملة الفرنسية، وتولى المشيخة بعد تدخل شخصي من محمد علي، وكان يميل إلى الاحتفاظ بعلاقة «متوازنة» مع السلطة، مبررا ذلك بأن مصلحة الأزهر تقتضي ذلك. أما الشيخ إبراهيم الباجوري (1847 ـ 1860)، فقد حرص على إعلاء كرامة علماء الأزهر في مواجهة السلطة، وكان عباس باشا الأول يحضر دروسه، ولم يعبأ باعتراض رجال الحكم على قيامه بتعيين هيئة من العلماء تحل محله في القيام بأعمال المشيخة حين أنهكه المرض.

وفي ظل مشيخة الإمام محمد مأمون الشناوي، أصدرت مجموعة من العلماء بيانا شهيرا دعت فيه إلى الجهاد ضد إسرائيل بعد صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947. وأدت المواقف الوطنية للإمام عبد المجيد سليم إلى عزله، إثر معارضته لفساد الملك فاروق قائلا عبارته الشهيرة، حين قرر الملك تخفيض المخصصات المالية للأزهر: تقتير هنا وإسراف هناك، في إشارة إلى بذخ فاروق. واستمر الخلاف بين الملك والأزهر في عهد الإمام إبراهيم حمروش (1951 ـ 1952)، فأعفي من منصبه بعد أن رفض طلب فاروق عدم اشتغال علماء الأزهر بالسياسة.

و لكن كانت أبرز المحاولات للسيطرة علي الأزهر وإخضاعه للنفوذ الحكومي تلك التي جرت يعد ثورة يوليو 1952 وذلك بعد أن أدرك رجال الثورة أن الأزهر هو أحد أعمدة الحكم في مصر لأصدرت عدة قوانين في العهد الناصري بخصوص الأزهر وبقدر ما كانت تلك القوانين تسعي لإعادة تطوير وهيكلة الأزهر بقدر ما كانت تسعي في نفس الوقت إلي تكريس السيطرة الحكومية عليه وإحكام قبضة الدولة علي شئونه فبعد ثورة يوليو مال شيوخ الأزهر في الغالب الأعم إلى تأييد توجهات السلطة. فالإمام محمد الخضر حسين (1952 ـ 1954) وهو تونسي الأصل، وصف الثورة بأنها أعظم انقلاب اجتماعي مر بمصر منذ قرون، لكنه لم يلبث أن قدم استقالته لخلاف مع الرئيس جمال عبد الناصر حول إلغاء المحاكم الشرعية.

وجارى خلفه الشيخ عبد الرحمن تاج (1954 ـ 1958) عبد الناصر في خلافه مع محمد نجيب فأفتى سريان عقوبة التجريد من شرف المواطنة على من يتآمر ضد بلاده، قاصدا بذلك نجيب، وهاجم الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية 1954، من خلال بيان أخذ عنوان «مؤامرة الإخوان»، اتهم الجماعة بأنها تشوه الدين الإسلامي. وأفتى الشيخ شلتوت بعدم تعارض قوانين الاشتراكية مع الإسلام، كما سبقت الإشارة. ولم يجاهر برفض القانون رقم 103 لسنة 1961، الذي أعطى رئيس الجمهورية حق تعيين شيخ الأزهر، ووكيله، وتحجيم صلاحياته عبر تعيين وزير يختص بشؤون الأزهر.

وسار الشيخ حسن مأمون (1964 ـ 1969) على الدرب نفسه، فكان موقفه سلبيا من القانون، المذكور سلفا، إذ صدر حين كان مأمون عضوا في مجلس الأمة ورئيسا للمحكمة الشرعية. وبات أول من طبق عليه هذا القانون حين تولى مشيخة الأزهر.

وكان مأمون من المدافعين عن القوانين الاشتراكية، ووصف الإخوان بأنهم «مجرمون». ولما جاء الفحام، أيد «ثورة التصحيح»، كما تقدم، وأيد خلفه الدكتور عبد الحليم محمود موقف السادات من القوى اليسارية بعد أحداث 17 و18 يناير 1977 الشهيرة

وفي السنوات الأخيرة وبعد معاهدة كامب ديفيد سعي نظام السادات إلي كسب تأييد الأزهر للمعاهدة ليجد لنفسه سنداً شرعياً في توجهات الجديدة والحقيقة أنه نتيجة للسيطرة الشديدة للدولة علي شئون الأزهر لم تجد السلطة وقتها معارضة ذات شأن من شبوخ الأزهر لتلك المعاهدة

الأمر الثاني الذي أثر كثيراً في إضعاف الأزهر هو الهجمة الوهابية الشرسة ضد الإسلام الوسطي الذي يمثله الأزهر الشريف وتم تسخير الأموال السعودية لنشر الفكر الوهابي في مصر ومحو دور الأزهر بما يمثله من فكر معتدل ورصدت الملايين لظهور نجوم جدد في مجال الدعوة يحملون ذلك الفكر وينشرونه بين الناس وفي حربها ضد عبد الناصر والفكر القومي شهرت السعودية سلاح الدعوة الوهابية لمواجهة نفوذ الأزهر ودعاته الشافعيين حول العالم بعد أن أطبق عبد الناصر على الأزهر لأغراضه السياسية. وهنا سخرت السعودية قدراتها المالية البترولية الهائلة لنشر الفكر الوهابي. احد التقديرات يقول ان حوالي سبعين مليار دولار من عوائد النفط الضخمة، انفقت على هذا المشروع. فبُنيت مئات الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية، ليس في السعودية فقط ولكن حول العالم أيضا. وأخذت الجامعات الإسلامية السعودية تقذف بعشرات الآلاف من الخريجين، من سعوديين وغيرهم. ومنحت البعثات والمساعدات للطلبة المسلمين من آسيا وافريقيا وبقية دول المنطقة للدراسة في المعاهد السعودية. وشيدت المساجد والمراكز الإسلامية الضخمة لنشر العقيدة الوهابية. وطبعت ملايين الكتب وارسل الدعاة السعوديون في البداية، ثم جُيِّش خريجو المعاهد السعودية الاجانب لهذا الغرض

كما بدأت الأموال السعودية في أنتاج شرائط الكاسيت لمشايخ الفكر الوهابي والتي أنتشؤت بما يشبه الوباء علي أرصفة مصر وشريط الكاسيت الذي يتكلف عادة خمسة جنيهات علي الأقل تباع نسخته الأصلية علي الأرصفة بجنيهين

كانت الأشرطة هي البداية حتي وصلنا إلي القنوات الفضائية التي تنشر الأفكار الوهابية والتي وصل عددها الآن لأكثر من 6 قنوات تبث ليل نهار أفكار التشدد والتعصب الديني وتعصف بالبقية الباقية من الإسلام المصري المتسامح الذي أرسي الأزهر دعائمه .

كل هذا والأزهر لا يحرك ساكناً تجاه انتشار تلك الأفكار  وما زال يستخدم حتي الآن وسائل بالية في التعبير عن نفسه وأفكاره بينما تبتكر الوهابية كل يوم وسائل جديدة للوصول للناس ونشر أفكارهم .

ولا يجب ونحن نبحث عن أسباب ما حل بالأزهر من ضعف أن نتجاهل المواقف الذي أتخذها الأزهر نفسه وجعلت الناس ينصرفون عنه شيئاً فشيئاً فمولاة الأزهر الدائمة للحكام وإصدار الفتاوي التي تتفق مع سياستهم لدرجة ٌاستقبال حاخامات إسرائيل في مشيخة الأزهر ومهاجمة المقاومة وضع المزيد من الحواجز بين الأزهر والناس

وليس من سبيل لإصلاح الأزهر وعودته ليؤدي دوره التاريخي إلا بأن يسعي لاستعادة استقلاله والوقوف في وجه الفكر الوهابي المتعصب والانحياز للمقاومة

من مصادر الدراسة

عبد الرحمن الجبرتي – عجائب الآثار في التراجم والأخبار – دار الجيل – بيروت.

عبد العزيز محمد الشناوي – الأزهر جامعا وجامعة – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – 1984.

محمد عبد الله عنان – تاريخ الجامع الأزهر – مكتبة الخانجي – القاهرة – 1378هـ – 1958.

علي عبد العظيم- مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن منشورات مجمع البحوث الإسلامية القاهرة 1398هـ – 1978م.

حسن الأمين / موسوعة دائرة المعارف الشيعية.

الدكتور عارف تامر / الموسوعة التاريخية الفاطمية.

محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله و أسرار الدعوة الفاطمية وجه الفكر الوهابي المتشدد وأن يكون في خندق المقاومة مع الناس.


 

 

 

 

الفصل الخامس

التقريب بين المذاهب الإسلامية

وجهود علماء الأزهر فى إنجاحه

 

 

 

 

 

محمود سامى عبد القادر محمد*

 

التقريب بين المذاهب الإسلامية

يعيش العالم الإسلامي حاليا حالة انقسام مذهبى لا سابق لها فى التاريخ مع أن الواجب على المسلمين الآن ضرورة الوحدة الشاملة فى كل المناحى لا سيما محاولة تقريب المذاهب وبيان أن أصول وعقائد الإسلامية واحدة لأنها تصدر من معين واحد وهو الدستور الخالد القرآن الكريم بجانب السنة النبوية وكون الاختلاف إنما يأتى فى بعض الفرعيات الثانوية والتى لا يؤدى الاختلاف فيها لأى مغنم للمسلمين على اختلاف أطيافهم ومذاهبهم لذا حاول بعض المستنيرين من علماء هذه الأمة توجيه الجهود لتوحيد المذاهب أو على الاقل محاولة التقريب بينها حتى لا يستغل أى عدو متربص وما أكثرهم هذه الأيام هذه الخلافات لتأجيج المذهبية بين المسلمين ومحاولة الوقيعة بين سنة وشيعة الأمة بل الأخطر هو تمذهب المذهب الواحد لفروع عدة فأصبح الاختلاف بين فروع الفرع الواحد وهذه طامة كبرى وترجع المحاولات الأولى لعلماء الأمة من جميع المذاهب لتوجيه الأهداف لإيجاد لغة مشتركة بين المذاهب الإسلامية إلى منتصف القرن الماضى من طريق العلامة محمد تقى القمى المتوفى 1990م والتى بدأت عام 1947م بعد زيارته للقاهرة واستطاع أن يؤسس “دار التقريب بين المذاهب الإسلامية” بمساعدة مجموعة من علماء الأزهر الشريف رغم الأجواء الملتهبة آنذاك فقد كثرت التهم والطعون على العلماء الذين شاركوا فى هذه المحاولة الحميدة. والجميل أن خليطا من العلماء اشترك فى هذه المحاولة – شيعة وسنة وزيدية وغيرها من المذاهب ولقد تعرضت هذه الجهود لتحديات صعبة حسب قول فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر ولكن مع إخلاص وصلابة هؤلاء العلماء اجتازوا هذه الصعاب بنجاح باهر واستطاعوا أن يضعوا اللبنات الأولى لأول محا ولة جادة للتقريب بين المذاهب الإسلامية رغم الجهل المطبق الذى سيطر على أتباع كل مذهب واعتبار أشياع كل مذهب مخالفيهم من المذاهب الأخرى من الضالين حتى وصل الأمر لحد التكفير والتفسيق لكل طرف من الطرف الآخر.

والمهم فى هذه المحاولة أن العلماء استطاعوا أن يضعوا أيديهم عبر البحوث والمقالات على الأسباب “الاجتماعية والسياسية والدينية” التى أدت لهذا التمذهب وتضخم حالة الاحتقان التى سيطرت على أنصار كل مذهب تجاه مناصرى المذاهب الأخرى وبيتوا الخرافات والأساطير التى ساعدت على انتشار هذا الجهل .

ولقد تعددت أنشطة دار التقريب بين المذاهب وتوسعت باتجاه تحقيق أهدافها رغم تأثرها بالظروف السياسية آنذاك والتى أثرت عليها حتى جعلت مسيرة التقريب تتوقف فى النهاية لكنها للحق لم تنحرف عن أهدافها ويكفى أصحابها والمشاركين فيها ما أنجزوه فى سبيل هذه الدعوة خصوصا مجلة ” رسالة الإسلام” التى صدر العدد الأول منها عام 1949م واستمرت حتى العدد 60 فى عام 1972م وعندما نتصفح هذه المجلة العلمية المستنيرة تطالعنا أسماء عدد من العمالقة الأفذاذ أمثال: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيح محمد رضا الشبيبى والسيد هبة الدين الشهرستانى والسيد صدر الدين الصدر ومحمد جواد مغنية والسيد مسلم الحسينى الحلى ومن الجانب السنى شارك شيخ الأزهر محمود شلتوت والدكتور محمد البهى والأستاذ محمد عبد الله دراز والشيخ عبد المتعال الصعيدى ومحمد فريد وجدى والأستاذ عباس محمود العقاد ومن الشخصيات الإسلامية العامة من مصر والدول العربية شيخ الأزهر عبد المجيد سليم والشيح الإمام حسن البناء مؤسس جماعة الإخوان المسلمين والذى كانت له جهود متميزة ومشكورة فى هذا المجال وعلى مؤيد إمام الشيعة الزيدية باليمن وأمجد الزهاوى من علماء العراق والحاج أمين الحسينى من مجاهدى فلسطين والشيخ الألوسى وغيرهم.

وإذا كان علماء الشيعة الإمامية هم من وقفوا وراء هذه الحركة التقريبية ودعموا وشجعوا كل متعاطف معها لتفعيل أعمالها فقد أثمرت هذه الجهود عندما أصدر شيخ الأزهر الإمام محمود شلتوت فتواه التاريخية بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية فهذه الفتوى أذابت جبالا من الكراهية والشك والمقاطعة بين أهم مذهبين فى العالم الإسلامى السنة والشيعة.

وقد تبع هذه الفتوى حلقات وندوات نقاشية كمحاولة جادة للتقريب وإفهام العامة بأن هذه المذاهب الإسلامية على تعددها إلا أنها فى الاصل واحدة لأنها من أصل واحد “القرآن والسنة” ونتج عن كل هذا إنشاء “مجمع الفقه الإسلامى” وما ساهم به فى هذا المضمار عن طريق الكتب والرسائل التى أعدها القائمون عليه. وقد انتقل علماء مجمع الفقه الإسلامى من التنظير إلى الناحية العملية . فمثلا يتصدى المجمع لقضية من القضايا فيدرسها علماء المجمع من جميع جوانبها الفقهية والعلمية فينيرون الطريق لعامة الناس. لكى لا تختلط عندهم الأمور حتى نحفظ للمسلمين دينهم ما داموا متمسكين بأصل هذا الدين وهما القرآن والسنة.

وما يهمنا فى هذه النقطة أن نقرر أن مجمع الفقه الإسلامى قد نجح فى وضع الأسس واللبنات الأساسية لأى عمل مستقبلى يهدف للتقريب بين المذاهب الإسلامية لأنه أنتج تراثا فكريا تصالحيا جربت فيه الأطراف المختلفة سلوك طريق الدليل والبرهان والحوار بالتى هى أحسن معرض الاجتهادات والعقائد المذهبية الخاصة ليطلع عليه المخالفون وليتعرفوا عليها من أقلام أصحابها ألسنتهم وليس من كتابات خصومهم ومخالفيهم كما شكل هذا التراث الذى احتضنته مجلة “رسالة الإسلام” وثيقة تاريخية مهمة يمكن عرضها للكشف عن النوايا السيئة التى يختبئ وراءها المعادون لأى تقريب لأن البحوث التى أنجزت ونشرت فى مجلة رسالة الإسلام وتحدثت عن المذاهب الإسلامية الفقهية والسياسية الإسلامية كانت بحوثا علمية انتهجت الموضوعية وقدمت الأدلة والبراهين على حجم الاختلافات المذهبية وحصرتها فى إشكالات معروفة ومحددة كما وضحت وعرفت باتجاهات المذاهب الإسلامية المختلفة.

لا يمكننا أن نلم بجميع الجهود والآثار التى اسفرت عنها حركة التقريب بين المذاهب وما قامت به الدار فى القاهرة من أعمال جليلة فى هذا المضمار والحقيقة أن أعمالها لم تتوقف بإغلاق الدار بل ظهرت آثارها فى عدد من الأعمال والندوات والمؤتمرات بل إن الجهود الجديدة التى تقوم بها بعض المؤسسات الآن مثل مجمع التقريب بين المذاهب فى طهران تتخذ من دار التقريب بين المذاهب الإسلامية فى القاهرة نموذجا وقدوة لها معتمدة كذلك على ما أنجزته من تراث فكرى تقريبى. ولا يجب أن ننسى موسوعة الفقه الإسلامى المقارن المعروفة باسم موسوعة عبد الناصر الفقهية والتى أعدها مجموعة من علماء الأزهر الشريف من اساتذة الفقه الإسلامى وأصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1386 هجرية ولقد أشرف وشجع على هذا العمل وزير الأوقاف المصرى آنذاك أحمد عبد الله طعيمة وكان هذا العمل نتاج عمل مشترك بين العلماء الأزهريين المصريين واخوانهم من علماء سوريا وفى عام 1961م صدر العدد النموذجى من هذه الموسوعة ورغم ظروف الانفصال وانهيار الوحدة بين مصر وسوريا إلا أن وزير الأوقاف حينئذ الشرباصى أصدر أوامره لإعادة تشكيل اللجنة ومتابعة مشروع الموسوعة حتى صدرت فى عشرين جزءا عرض فيه الفقه الإسلام على المذاهب التسعة نقلا عن أهم المصادر الفقهية المعتمدة لدى هذه المذاهب وبذلك حقق هذا المشروع أهم المطالب العلمية فى عرض اجتهادات وآراء المذاهب المختلفة ألا وهو الموضوعية العلمية واعتماد مصادر الفرق والمذاهب فى التأريخ لها والكتابة حولها.

وبنظرة موضوعية على الموضوع المهم وهو التقريب بين المذاهب الإسلامية نجد أن لعلماء الأزهر الشريف الدور البارز فيه حتى أن مؤسسة الأزهر الشريف قررت تدريس المذهب الجعفرى كأحد المذاهب المعتمدة لطلاب الأزهر الشريف ففى البداية يرى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر أنه لا فرق بين المذهب الشيعى أو السنى.

وأن كل من يشهد أن لا إله إلا الله فهو مسلم وأن الخلاف إن وجد فهو خلاف فى الفروع وليس فى الثوابت والأصول والخلاف موجود فى الفروع بين السنة أنفسهم والشيعة كذلك وكل من يحاول الوقيعة بين سنى وشيعى فهو مأجور وعلينا جميعا التوحد لصد الهجمة الشرسة التى يتعرض لها الإسلام من أعدائه وشيخ الأزهر يرى أن التقريب بين المذاهب أمر إيجابى ويجب السعى إليه وتشجيعه لأنه من أبر الأعمال ومن التعاون على البر والتقوى.

أما الشيح محمود عاشور – وكيل الأزهر- فيقول: العالم الإسلامى يواجه استعمارا قويا يشكل نفسه لتفتيت وحدة الأمة الإسلامية ويحاول إشاعة الخلاف بين السنة والشيعة حتى لا يلتفتوا لقضاياهم الأساسية . والشيخ عاشور يرى أن التقريب بين الشيعة والسنة من المحكمة أن يحدث ليس على أساس تنازل أحد الطرفين عن شئ من قناعاته للآخر بل على أساس جامعية الإسلام وأنه يحتوى كل المذاهب تحت لوائه الخالد القرآن ثم السنة النبوية.

ويرى فضيلة الشيخ عاشور أن الشيعة قد تجاوز كثيرا من ثقافة السب واللعن وأصبح هذا شيئا من الماضى فإيران الإسلامية الآن قوة إقليمية كبرى والحكم بيد العلماء الشيعة ومع هذا لا نسمع فى خطبهم وأحاديثهم المذاعة مباشرة أى تهجم أو سب ولعن للصحابة ولأمهات المسلمين حتى أيام الحرب العراقية الإيرانية وكذلك الحال لشيعة لبنان وقد أصبحوا القوة الأبرز حاليا فى لبنان خاصة بعد نصهم المؤزر على الصهاينة لم نسمع على فضائية المنار ما يسيء لأئمة الإسلام أو الخلفاء وأجلاء الصحابة وأمهات المؤمنين.

إن فى ذلك دلالة واضحة على تجاوز واقع الشيعة المعاصر لكثير مما كان يؤخذ على الشيعة فى أزمنة غابرة  وقد يكون بعض الأفراد منهم مازالوا متأثرين ببعض الآراء والمواقف السابقة لكنهم لا يشكلون حالة عام.

ويقول الدكتور عبد الصبور مرزوق الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية: جميع المسلمين وكل العرب مستقبلهم محفوف بالمخاطر وليس أمامهم طريق غير إعادة أعمال مفهوم الأمة الذى أكد عليه القرآن الكريم والمذهب الشيعى له أتباع أقوياء وله دول وأنظمة ولا يمكن إجبارهم على التخلى عن مضمون الفكر الشيعى فإيران التى بلغت من القوة السياسية والعسكرية ما جعلها تتحدى أمريكا وتؤكد أنها تمتلك قوة ردع هائلة تستطيع أن تذيق أمريكا وإسرائيل الكثير فى حالة تعرضها لعدوان منهما هل تفعيل أن أهدم هذه القوة أو افرط فيها لصالح أمريكا وإسرائيل أعدى أعداء الأمة الإسلامية جمعاء وإذا استحضرنا أقوال الأحمق “بوش” فى بداية فترة رئاسته الثانية حينما قال: إن هدفه أن لا يدع رجل دين بذقن ولا رجلا يحرم شرب الخمر أو يطلب من زوجته الحجاب وهذا الكلام قاله علانية ونشر بالصحف ونتمسك بقضايا هامشية كل من السنة والشيعة فى مهب الريح وكلهم مستهدفون سواء من أمريكا أو من إسرائيل.

ويرى د. عبد الصبور مرزوق أنه ثبت بالدليل القاطع أنه لا يوجد لدى الشيعة ما يسمى ” بقرآن فاطمة” فهو غير صحيح على الإطلاق واعتبر أن ثمار التقريب بين المذاهب تكللت باعتماد المذهب الجعفرى كأحد المذاهب التى تدرس فى الأزهر الشريف، كما أن فتوى الشيخ محمود شلتوت فى الستينات قد اثارت جدلا واسعا وهى جواز التعبد بالمذهب الإمامى الشيعى وقد عضد الشيخ محمد الغزالى هذه الفتوى التى تقول: إن الإسلام لا يوجب على أحد من اتباعه اتباع مذهب معين بل إن لكل مسلم الحق فى أن يقلد – بادئ ذى بدء- أى مذهب من المذاهب المنقولة. نقلا صحيحا والمدونة أحكامها فى كتبها الخاصة ولمن قلد مذهبا من المذاهب أن ينتقل لغيره أى مذهب كان ولا حرج عليه فى شئ من ذلك وان مذهب الجعفرية المعروف بالإمامية الاثنى عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة  فينبغى على المسلمين أن يعرفوا ذلك وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة فما كان دين الله وما كانت شريعته لمذهب معين فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه فى فقههم ولا فرق فى ذلك بين العبادات والمعاملات.

عندما صدرت هذه الفتوى أقامت الدنيا ولم تقعدها وهاجت الناس وماجت إلى درجة أن البعض لجأ إلى شيوخ الأزهر ورجال الدين ليجدوا لديهم رأيا آخر وكان منهم الشيخ محمد الغزالى رحمة الله عليه الذى أيد ما جاء بالفتوى حيث قال لمن سأله عن كيفية إصدار شيخ الأزهر فتواه بأن الشيعة مذهب إسلامى كسائر المذاهب المعروفة؟ .. ماذا تعرف عن الشيعة؟ فقال السائل: ناس على غير ديننا فقال الشيخ الغزالى للرجل: ولكنى رأيتهم يصلون ويصومون كما نصلى ونصوم، فتعجب السائل وقال: كيف هذا؟ فقال الشيخ: والأغرب أنهم يقرأون القرآن مثلنا ويعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم مثلنا ويحجون إلى بيت الله الحرام مثلنا.

وعلى موقع إسلام أون لاين “islamonline” لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوى كلمة بعنوان “مبادئ التقريب” والتى دعا فيها الدكتور القرضاوى بضرورة وحتمية الحوار بين المذاهب الإسلامية واستشهد بالمؤتمرات التى عقدت للتقريب بين الأديان فى ايطاليا ومصر وقال هل يعقل أن يكون هناك حوار ونقاش بين علماء الإسلام والمسيحية ولا يكون هناك نفس الحوار بين العلماء المسلمين أنفسهم اليس هذا من أولى الأولويات أليس الحديث يقول: ابدأ بنفسك ثم بمن تعول.

ترى هل ما بيننا نحن –المسلمين- من الخلاف أوسع وأكبر ما بيننا وبين اهل الأديان الأخرى؟ ولماذا لا نتحاور بغية التفاهم والتقارب؟! إن اللقاء والحوار وتبادل الأفكار يساعدنا على أن يفهم بعضنا بعضا ونقترب من بعضنا البعض ونزيل الجفوة وننشئ المودة ونزيح كثيرا من الشبهات والغوامض إذا خلصت النيات وصحت الأهداف وقويت العزائم وغلب العقل على الهوى والحكمة على التهور على أن هناك عاملا يدعو الأمة لتجاوز خلافاتها الثانوية ألا وهو الخطر الداهم الذى يهدد كيان الأمة جمعاء إن لم تقف له بالمرصاد إنه خطر تجمعت فيه اليهودية والصليبية والوثنية رغم ما بينها وبعضها من خلافات ولكن جمعهم العدو المشترك وهو الإسلام وصدق الله العظيم إذ يقول “وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولى المتقين” الجاثية 19.

وكما فى القول: تشتت شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب.

فإذا جاز للأمة – وما هو بجائز- أن تفترق فى الأيام الرخاء والعافية فلا يجوز لها التفرق فى أيام الشدة والبلاء فإن الشدائد تجمع المتفرقين والمحن توحد لمختلفين والأخطار تقرب المتباعدين ورحم الله شوقى حين قال “إن المصائب يجمعن المصابين”.

وهناك فتاوى كثيرة وكتابات متعددة لعلماء أفاضل من أفزاز المسلمين نادوا فيها بضرورة التكاتف والتعاضد بين جميع المسلمين سنتهم وشيعتهم لأن الأخطار محدقة والعدو حين يضرب لا يفرق بين مسلم شيعى أو سنى ومن أمثال هؤلاء فضيلة الدكتور محمد الحبيب بن خوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولى كذلك فضيلة الدكتور الشيخ فيصل المولوى من الجماعة الإسلامية بلبنان المنتمى لجماعة الإخوان المسلمين. هذه الكتابات تدعو جميعها لضرورة الوحدة ونبذ الخلافات التى لا تسمن ولا تغنى من جوع.

خاتمة

إن المسلمين مطالبون بضرورة الانتباه لما يحاك ضددهم من مؤامرات صليبية صهوينية اجتمعت على ضرورة تفتيت العالم الإسلامى لدويلات وكيانات وكانتونات لا قيمة لها ليسهل للأعداء السيطرة التامة على العالم الإسلامى ولن يتأتى هذا إلا بتأجيج الصراعات والخلافات بين المسلمين أنفسهم لأن المسلمين إذا شغلوا بما بينهم كان من السهل ضربهم كلهم وعندما نستحضر كلمات الرئيس الأمريكى جورج بوش منذ فترة بسيطة أن أمريكا ستعمل جاهدة على إنشاء طوق سنى لمنع التمدد الشيعى فى المنطقة وكأن بوش أصبحى حامى حمى السنة فى المنطقة والمدافع عن مصالحهم ولهذا يستحثهم على إقامة خط دفاع سنى للوقوف فى وجه التمدد الشيعى والذى لا أظنه إلا قاصدا إيران الإسلامية ولكن يجب أن لا نلومه كل اللوم فبعضه يجب أن يوجه لأناس من جلدتنا هم أول من أطلقوا مصطلح الهلال الشيعى وهو عبد الله الثانى ملك الأردن ويجب أن نوجه بعض اللوم أيضا لمن قيلت عندهم وهم آل سعود الذين سمحوا لسيدهم بوش أن يتهجم على الشيعة فى العالم وعلى رأسهم إيران لمصالح سياسية بحتة ومحاولة احتواء وحصار إيران عن طريق تجييش العرب السنة وشحنهم ضد إخوانهم الشيعة فى المنطقة متخذين من “فرق تسد” منهاجا ونبراسا لتطبيقه واقعيا وما يحدث فى لبنان ليس ببعيد ومحاولة تقوية جانب موالى للقرب ضد الجانب المقاوم لسياسات أمريكا وإسرائيل ظاهرة للعيان، فعلى المسلمين أن يفيقوا من غفوتهم وعليهم أن يعلموا أن العدد حينما يضرب لن يفرق بين مسلم ومسلم بل أكاد أجزم أنه لن يفرق بين عربى مسلم وعربى مسيحى فالعرب والمسلمون ايا كانوا مستهدفون بكل الطرق والوسائل ولن يكل العدو أو يهدأ حتى يرى العالم الإسلامى شراذم وفتاتا ليسهل ابتلاعه . يقول الله تعالى ” وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” صدق الله العظيم.

ويقول المعصوم صلى الله عليه وسلم “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويقول صلى الله عليه وسلم “إذا تقاتل المسلمان فالقاتل والمقتول فى النار.. الخ” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نسأل الله العظيم أن يجمع شمل الأمة الإسلامية على الحق وعلى راية الجهاد والنصر.


* أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بالأزهر الشريف

* من علماء الأزهر الشريف

 

[1] الحديث أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك

[2] الحديث أخرجه الترمذى عن ابن عمر

[3] الحديث أخرجه أبو داود عن أبى مالك الأشعرى

[4] من هؤلاء الأعضاء السابقين على سبيل المثال لا الحصر : الشيخ عطية صقر ، والشيخ الشعراوى ، والشيخ عبد الرحمن تاج ، والشيخ محمود شلتوت ، والشيخ عبد المجيد سليم …… وغيرهم .

[5] ارجع إلى : الأساس الشرعى والقانونى للجنة الفتوى بالأزهر : عبد الله مبروك النجار ، سلسلة البحوث الإسلامية ، مطابع الأزهر ، سنة 1995 ، ص 7 وما بعدها .

[6] المرجع السابق .

[7] كان أعضاء اللجنة فى هذا الوقت ثلة من العلماء ، أمثال : الشيخ شلتوت ـ وعبد الرحمن تاج والشيخ السبكى والشيخ دراز والشيخ المرصفى والشيخ العدوى

[8] أخرجه أبو دواد والترمذى وابن ماجه

[9] إرجع إلى : حول اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة من المنظور الإسلامى ، جاد الحق على جاد الحق ، 1995

[10] أخرجه البخارى ومسلم .

[11] ارجع إلى : ملاحظات علمية على كتاب المسيح فى الإسلام : محمد عمارة .

[12] ارجع إلى : نقض الفريضة الغائبة : جاد الحق على جاد الحق ، وعطية صقر ، سنة 1414 هـ .

[13] ارجع إلى : كتاب الإسلام وأصول الحكم فى الميزان : محمد رجب البيومى ، 1414 هـ .

[14] من سجل الخالدين ، مصطفى مجاهد عبد الرحمن ، 1415 هـ .

[15] العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق ، محمد البهى ، 1415 هـ .

[16] بيان للناس من الأزهر الشريف ، الأزهر

[17] البقرة / 213

[18] الرعد / 11

[19] النساء / 123

[20] النحل / 125

[21] المجمعيون فى خمسين عاما ، مجمع اللغة العربية ، ص 340 ، 341

نظرات إسلامية من ثمار الشيخ شلتوت ، جـ الأول ، الجزء الثالث .

الإمام الأكبر الشيخ شلتوت ، تجديد الدنيا بالدين ، محمد عمارة .

فى ذكرى الشيخ شلتوت ، أحمد عمر هاشم ، نصر فريد واصل ، عبد الله مبروك النجار .

[22] الشيخ المراغى والإصلاح الدينى فى القرن العشرين ، محمد عمارة ، ص 27 وما بعدها .

مختارات من تراث المراغى ، مجمع البحوث الإسلامية ، ص 71 وما بعدها .

الاجتهاد ، محمد مصطفى المراغى ، ص 8 وما بعدها .

[23] مفاهيم إسلامية ، مقالات وفتاوى يوسف الدجوى ، مجمع البحوث الإسلامية ، جـ 1 ، جـ 2 .

* من علماء الأزهر الشريف

([24]) جمال عبد الناصر ( 1336 – 1390 هـ = 1918 – 1970 م ) جمال عبد الناصر بن حسين بن خليل ابن سلطان عبد الناصر . ثائر عسكري حكم مصر ثمانية عشر عاما . ولد في قرية بني مر بمحافظة أسيوط . وانتقل إلى القاهرة وعمره ثماني سنوات … وحصل على ( البكالوريا ) سنة 1936م … ودخل الكلية الحربية (37) وتخرج سنة (1938) ودرس بها . وتخرج بكلية أركان الحرب (42) وشارك في حرب فلسطين (48) وجرح وشفي وعاد وحوصر في الفلوجة . وخرج مع زملائه ناقمين على من بأيديهم السلطان في مصر، عسكريين ومدنيين . وقاموا ( 1952 ) بالثورة البيضاء على فاروق ( آ خر ملوك مصر ) فنزل عن العرش لطفل له اسمه أحمد فؤاد ، لم يلبثوا أن خلعوه وأعلنوا الجمهورية وسموا لرئاستها أحد كبار الضباط ( محمد نجيب) وتولى جمال رئاسة الوزراء . وأذيع أن نجيب يريد إبعاد الجيش عن الحكم وإعادته إلى المدنيين ، فحجزه جمال في بيته ، وتسلم الزمام ( 1954 ) وانتخب رئيسا للجمهورية ( 56 ) وفي أيامه خرج آخر جندي بريطاني من الأرض المصرية (56) ، فأمم شركة قناة السويس ، وحول مصر إلى النظام الاشتراكي (1961) … وعلى أثر اجتماع عقده رؤساء الدول العربية في القاهرة وودعهم جمال ، وقف قلبه فجأة وتوفي بعد ثلاث ساعات . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 2 ص 134 ، 135

([25]) الأزهر في ألف عام د /  أحمد محمد عوف ص 37

([26]) ( ابن كلس ( 318 – 380 هـ = 930 – 990 م ) يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن هارون بن كلس ، أبو الفرج . وزير ، من الكتاب الحساب . ولد ببغداد . وسافر به أبوه إلى الشام . ثم أنفذه إلى مصر ، فاتصل بكافور الإخشيدي ، فولاه ديوانه بالشام ومصر ، ووثق به فكان يشاوره في أكثر أموره . وكان يهوديا ، فأسلم في أيامه ( سنة 356 ) ثم انتقل إلى المغرب الاقصى فخدم ” المعز ” الفاطمي العبيدي ( سنة 363 ) وتولى أموره … وفي سنة 368 لقبه المعز بالوزير الأجل . ثم اعتقله سنة 373 ، وأطلقه بعد شهور ، فعاد إلى القاهرة ، وفيها ” العزيز ” ابن ” المعز ” فولي وزارته ، وعظمت منزلته عنده . وصنف كتابا في ” الفقه ” على مذهب الباطنية ، يعرف بالرسالة الوزيرية ، أخذه عن المعز وابنه العزيز . وكان يعقد المجالس في الجامع العتيق ، فيقرر المسائل الفقهية على حسب مذهبهم . وتوفي في أيام العزيز ، فألحده بيده ، وأمر بإغلاق الدواوين أياما بعده . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 8 ص 202 ، 203 و سير أعلام النبلاء تصنيف الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ج 16 ص 442 : 444

([27]) ( العزيز بالله ( 344 – 386 هـ = 955 – 996 م ) نزار ( العزيز بالله ) ابن معد ( المعز لدين الله ) ابن المنصور العبيدي الفاطمي ، أبو منصور . صاحب مصر والمغرب . ولد في المهدية ، وبويع بعد وفاة أبيه ( سنة 365 هـ ) وكانت في أيامه فتن وقلاقل . وكان كريم الأخلاق ، حليما ، يكره سفك الدماء ، مغرى بصيد السباع ، أديبا ، فاضلا . وفي زمنه بني قصر البحر وقصر الذهب وجامع القرافة في القاهرة . وهو الذي اختط أساس الجامع فيها ، مما يلي باب الفتوح ، وبدأ بعمارته ( سنة 380 ) وخطب له بمكة . وطالت مدته ، إلى أن خرج يريد غزو الروم ، فلما كان في مدينة بلبيس أدركته الوفاة . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 8 ص 16 و سير أعلام النبلاء تصنيف الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ج 15 ص 167 : 173

([28]) دور الأزهر في السياسة المصرية د / سعيد إسماعيل على ص 25 ، وانظر : قصة الأزهر لجمع من الأدباء والمفكرين ص 48 ، والأزهر جامعا وجامعة أ / محمد كمال السيد ص 16 ، 17

([29]) قصة الأزهر لجمع من الأدباء والمفكرين ص 64

([30]) ( محمد بن عبد الله الخراشى المالكى أبو عبد الله أول من تولى مشيخة الأزهر كان فقيها فاضلا ورعا من كتبه الشرح الكبير على متن خليل والشرح الصغير على نفس المتن وهما مذهب المالكية وغيرهما أقام وتوفى بالقاهرة ) موسوعة الأعلام ص 202

([31]) ( البرماوي (000 – 1106 هـ = 000 – 1894 م) إبراهيم بن محمد بن شهاب الدين بن خالد، برهان الدين البرماوي الأنصاري الأحمدي الأزهري: شيح الجامع الأزهر. من فقهاء الشافعية نسبته إلى برمة (بكسر الباء) في غربية مصر. له كتب، منها (حاشية على شرح القرافي لمنظومة غرامي صحيح – خ) في مصطلح الحديث، و (حاشية على شرح فتح الوهاب لزكريا الانصاري – خ) ثلاثة مجلدات، و (حاشية على شرح الرحبية – خ) في الفرائض، بخطه في مكتبة زهير جاويش ببيروت، و (حاشية على شرح غاية التقريب – ط) فقه ). الأعلام تأليف : خير الدين الزركلي ج 1 ص 67 ، 68

([32]) انظر تفصيل أسماء مشايخ الجامع الأزهر الشريف وتاريخ توليهم المشيخة بالتفصيل في كتاب الأزهر جامعا وجامعة للأستاذ محمد كمال السيد محمد ص 326 : 344 ط مجمع البحوث الإسلامية 1406 هـ / 1986 م وكتاب الأزهر تاريخه وتطوره تأليف لجنة من الأمانة العامة للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر ص 161 : 164 ط 1403 هـ / 1983 م

([33]) ( المهدي العباسي (1243 – 1315 هـ = 1827 – 1897 م) محمد (العباسي) بن محمد أمين ابن محمد المهدى الكبير: مفتى الديار المصرية، وأول من تولى مشيخة الأزهر، من فقهاء الحنفية. ولد بالإسكندرية. وتعلم بالقاهرة. وتولى الإفتاء سنة 1264 ه وأضيف إليه مشيخة الأزهر (1287) ولما قام (عرابي باشا) بثورته (1298) عزل المهدي لامتناعه عن التوقيع على عزل الخديوي توفيق (1299) وكافأه الخديوي بعد الثورة، بإعادته شيخا للأزهر مع الإفتاء. وقيل للخديوي (سنة 1304) إن جماعة من الوجوه والتجار يجتمعون للسمر في منزل المهدى ويتكلمون في الأمور السياسية ويظهرون أسفهم لوجود الإنجليز بمصر وانقياد الحكومة المصرية إلى رغباتهم، فعاتبه على ذلك، فاستقال من منصبيه، وقد استمر في الافتاء أربعين سنة. ثم أعيد إليه قبيل وفاته. وفلج وتوفى بالقاهرة. الاعلام تأليف : خير الدين الزركلي ج 7 ص 75

([34]) ( حسونة النواوي (1255 – 1343 هـ = 1840 – 1925 م) حسونة بن عبد الله النواوي الحنفي الأزهري: فقيه مصري. ولد في نواي (من قرى أسيوط – بمصر) وتعلم في الأزهر، وتولى تدريس العلوم الشرعية في مدرسة الحقوق المصرية، وتنقل في مناصب القضاء، ثم ولي إفتاء الديار المصرية ومشيخة الجامع الأزهر مرتين (1313 – 1317 هـ) و (1324 – 1327 هـ ) له كتب، منها (سلم المسترشدين في أحكام الفقه والدين – ط). توفي في القاهرة ) الأعلام تأليف : خير الدين الزركلي ج 2 ص 229

([35]) انظر تفاصيل هذه القوانين في الأزهر جامعا وجامعا ص 345 : 366

([36]) دور الأزهر في السياسة المصرية د / سعيد إسماعيل علي ص 49

([37]) دور الأزهر في السياسة المصرية د / سعيد إسماعيل علي ص 50

([38]) مواقف تاريخية لعلماء الإسلام د / محمد رجب البيومي ص 171

([39]) رسالة في الطريق لإلى ثقافتنا أ / محمود محمد شاكر ص 155

([40]) قصة الأزهر لجمع من أعلام الأدب والفكر والدين ص 33 ودور الأزهر في السياسة المصرية د / سعيد إسماعيل علي ص 105 : 108 وكتاب الأزهر جامعا وجامعة أ / محمد كمال السيد ص 138 ، 139

([41]) يظن بعض الناس أن الجامع الأزهر أغلق قبل ذلك في عهد صلاح الدين الأيوبي ، وهذا الاعتقاد غير صحيح ، فقد عطلت فيه الخطبة فقط – أي خطبة الجمعة وصلاتها – وبقي مفتوحا للصلوات الخمس ، وأنشأت عدة مدارس مستقلة عن المسجد لنشر المذاهب الفقهية السنية ، والقضاء على المذهب الشيعي . ( وانزوى الأزهر يعاني هذه المحنة من قطع الخطبة ، وانصراف الدولة عن رعايته … ومنافسة هذه المدارس التي حظيت بالإقبال عليها  لما فيها من مرتبات ، وما لها من أوقاف ، ولكنها لم تكن محنة كاملة ، فقد ظلت للأزهر مكانته – وإن كانت تزعزعت بعض الشيء – فقد رأينا عمر بن الفارض يقيم في الأزهر ، كما يحدثنا التاريخ أن العالم العربي الشهير عبد اللطيف بن يوسف البغدادي ؛ كان في هذه الفترة من حكم الأيوبيين نزيل مصر ، ويلقي دروسا في الجامع الأزهر . ) الأزهر جامعا وجامعة أ / محمد كمال السيد ص 41 ، 42 وانظر : دور الأزهر في السياسة المصرية د / سعيد إسماعيل علي ص 33 ، 34

([42]) دور الأزهر في السياسة المصرية د / سعيد إسماعيل علي ص 112

([43]) حيث ( ظل مغلقا حتى وقعت معاهدة جلاء الفرنسيين عن القاهرة ، فأعيد فتحه في 25 صفر سنة 1261 هـ ” 7 / 7 / 18001 م ” ) الأزهر جامعا وجامعة أ / محمد كمال السيد ص 151

([44]) ( العدوي ( 1221 – 1303 هـ  = 1806 – 1886 م ) حسن العدوي الحمزاوي . فقيه مالكي ، من قرية ( عدوة ) بمصر . تعلم ودرس بالأزهر ، وتوفي بالقاهرة . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 2 ص 199

([45]) ( الخديوي توفيق ( 1269 – 1309 هـ = 1852 – 1892 م ) محمد توفيق ( باشا ) بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي . أحد الخديويين بمصر . ولد وتعلم بالقاهرة . وأحسن العربية والتركية والفرنسية والإنجليزية . وتقلد نظارتي الداخلية والأشغال ، فرياسة مجلس النظار . وكان أكبر أبناء ( إسماعيل ) فلما عزل أبوه عن الخديوية … تولاها ( سنة 1296 هـ ، 1879 م ) ببرقية من الآستانة ، تبعها على الأثر      ( فرمان ) سلطاني بولايته . وفي أيامه أنشئ نظام الشورى ، وأنشئت المحاكم الأهلية ، وجدد بعض الترع ، وأقيمت عدة قناطر كبيرة . وتكاثرت في عهده الأحداث فصبر لها . وفي زمنه نشبت ثورة عرابي باشا (  سنة 1299 هـ ) وتوفي في القاهرة . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 6 ص 65

([46]) ( عرابي باشا ( 1257 – 1329 هـ = 1841 – 1911 م ) أحمد عرابي بن محمد عرابي بن محمد وافي بن محمد غنيم زعيم مصري … ولد في قرية ( هرية رزنة ) من قرى الزقازيق بمصر ، وجاور في الأزهر سنتين ، ثم انتظم جنديا في الجيش سنة 1271 هـ وبلغ رتبة ( أميرالاي ) في أيام الخديوي توفيق … ووقعت المذبحة في الإسكندرية وضربها الإنكليز ( 1299 هـ / 1882 م ) واستولوا على التل الكبير بعد معارك ، ودخلوا القاهرة ، فحلوا الجيش المصري ، ونفوا عرابي باشا إلى جزيرة سيلان ( 1300 هـ / 1882 م ) حيث مكث 19 عاما . وأطلق في أيام الخديوي عباس سنة 1319 م ، فعاد إلى مصر ، وتوفي بالقاهرة . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 1 ص 168

([47]) مواقف تاريخية لعلماء الإسلام د / محمد رجب البيومي ص 218 وانظر الأزهر جامعا وجامعة أ / محمد كمال السيد ص 280

([48]) ( علي عبد الرازق ( 1305 – 1386 هـ = 1888 – 1966 م ) علي بن حسن بن أحمد عبد الرازق . باحث ، من أعضاء مجمع اللغة العربية بمصر . ولد بأبي جرج ( من أعمال المنيا ) وتعلم بالأزهر ، ثم بأكسفورد . وأصدر كتاب ” الإسلام وأصول الحكم – ط ” سنة 1925 م ” فأغضب ملك مصر ، وسحبت منه شهادة الأزهر . وانصرف إلى المحاماة . وانتخب عضوا في مجلس النواب ، فمجلس الشيوخ ، وعين وزيرا للأوقاف . وعمل في حزب المعارضة لسعد زغلول . واستمر 20 سنة يحاضر طلبة  ” الدكتوراه ” بجامعة القاهرة في مصادر الفقه الإسلامي . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 4 ص 276

([49]) يقول الشيخ علي عبد الرازق – في مقدمة كتابه الإسلام وأصول الحكم – : ( وليت القضاء بمحاكم مصر الشرعية منذ سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف هجرية ” 1915 م ” ، فحفزني ذلك إلى البحث عن تاريخ القضاء الشرعي ، والقضاء بجميع أنواعه فرع من فروع الحكومة … وأساس كل حكم في الإسلام هو الخلافة والإمامة العظمى – على ما يقولون – فكان لا بد من بحثها . شرعت في بحث ذلك كله منذ بضع سنين ، ولا أزال بعد في مراحل البحث الأولى . ) كتاب الهلال : الإسلام وأصول الحكم تأليف الشيخ / علي عبد الرازق ص 31 ، 32

([50]) ( الملك فؤاد ( 1284 – 1355 هـ = 1869 – 1936 م ) أحمد فؤاد الأول ابن الخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي . ملك مصر الأسبق . مولده ووفاته بالقاهرة . تعلم بها ثم في جنيف ( بسويسرة ) ففي المدرسة الحربية بتورينو ( إيطاليا ) وتخرج ضابطا في الجيش الإيطالي … وكان ينتدب في بعض المهمات إلى أن دعي لتولي سلطنة مصر سنة 1335 هـ ( 1917 م ) بعد وفاة أخيه السلطان حسين كامل ، والحماية البريطانية مضروبة على مصر . وفي أيامه قامت مصر بحركتها الوطنية ( سنة 1918 م ) بقيادة سعد زغلول … وحفل عهده بالأحداث إلى أن توفي . وفي أيامه أنشئ ( مجمع اللغة العربية ) بمصر . وكان يحسن مع العربية التركية والفرنسية والإيطالية ، ويفهم الإنكليزية . ) الأعلام تأليف خير الدين الزركلي ج 1 ص 196

([51]) الأزهر بين السياسة وحرية الفكر د / محمد رجب البيومي ص 102 : 105 وانظر دور الأزهر في السياسة المصرية د / سعيد إسماعيل علي ص 312 : 315

([52]) يقول الشيخ علي عبد الرازق – في ختام الباب الثالث الذي عقده لمناقشة أدلة القائلين بوجوب الإمامة العظمى – : ( أما بعد ؛ فإن دعوى الوجوب الشرعي دعوى كبيرة ، وليس كل حديث – وإن صح – بصالح لموازنة تلك الدعوى . ) الإسلام وأصول الحكم للشيخ / علي عبد الرازق ص 55 ويقول في الباب الرابع : ( إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة ؛ كان صحيحا ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة بمعنى الحكومة ، في أي صورة كانت الحكومة ، ومن أي نوع كانت مطلقة أو مقيدة ، فردية أو جمهورية ، استبدادية أو دستورية أو شورية ، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية . لا ينتج لهم الدليل أبعد من ذلك ، أما إن أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم – الذي يعرفون – فدليلهم أقصر من دعواهم ، وحجتهم غير ناهضة . ) الإسلام وأصول الحكم للشيخ / علي عبد الرازق ص 71

([53]) كان هذا الكتاب بعنوان ( محمد رسول الحرية )

([54]) قذائف الحق الشيخ محمد الغزالي ص 76

([55]) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين الشيخ الغزالي ص85

([56]) ( عبد القادر الجزائري (1222 – 1300 هـ = 1807 – 1883 م) عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني الجزائري : أمير ، مجاهد ، من العلماء الشعراء البسلاء . ولد في القيطنة (من قرى إيالة وهران بالجزائر) وتعلم في وهران . وحج مع أبيه سنة 1241 هـ ، فزار المدينة ودمشق وبغداد . ولما دخل الفرنسيس بلاد الجزائر ( سنة 1246هـ – 1843 م ) بايعه الجزائريون وولوه القيام بأمر الجهاد، فنهض بهم ، قاتل الفرنسيين خمسة عشر عاما ، ضرب في أثنائها نقودا سماها ” المحمدية ” وأنشأ معامل للأسلحة والأدوات الحربية وملابس الجند . وكان في معاركه يتقدم جيشه ببسالة عجيبة … ولما هادنها سلطان المغرب الأقصى عبد الرحمن بن هشام ، ضعف أمر عبد القادر ، فاشترط شروطا للاستسلام رضي بها الفرنسيون ، واستسلم سنة 1263 هـ (1874 م) فنفوه إلى طولون ، ومنها إلى أنبواز حيث أقام نيفا وأربع سنين . وزاره نابليون الثالث فسرحه ، مشترطا أن لا يعود إلى الجزائر . ورتب له مبلغا من المال يأخذه كل عام. فزار باريس والآستانة ، واستقر في دمشق سنة 1271 هـ ، وتوفي فيها . ) الأعلام ج4 ص 46

([57]) القول البراق في نازلة العراق أحمد آل عبد العزيز ص 188

([58]) نقلا عن مجلة البيان ج54/ ص 39-42 .

([59]) قضية التنوير الشيخ محمد قطب ص 22

([60]) (سليمان الحلبي (1191 – 1215 هـ = 1777 – 1800 م) سليمان بن محمد أمين الحلبي: قاتل الجنرال كليبر Kleber بمصر. سوري الأصل. ولد ونشأ بحلب ، وأقام ثلاث سنوات في القاهرة ، يتعلم بالأزهر . وعاد إلى حلب ، فحج مرتين . وزار القدس وغزة ، وقابل بعض قواد الجيش العثماني ، فعاهدهم على أن يقتل كليبر ( قائد الجيش الفرنسي والحاكم العام، بمصر ، بعد عودة بونابرت إلى فرنسة ) وحمل من علماء غزة رسائل إلى بعض علماء الأزهر ، يوصونهم بمساعدته . وقصد القاهرة ، فقضى 31 يوما يتعقب كليبر حتى ظفر به يتمشى مع فرنسي آخر ، فطعنه بخنجر كان يخفيه في ثيابه ، عدة طعنات ، مات كليبر على أثرها . وفر سليمان ، فقبض عليه ، وحوكم أمام محكمة عسكرية فرنسية ، فقضت بإعدامه ( صلبا على الخازوق ، بعد أن تحرق يده اليمنى ، ثم يترك طعمة للعقبان ) ونفذ فيه ذلك في تل العقارب يوم 17 يونية 1800 م. وعلقت إلى جانبه رؤوس ثلاثة من علماء الأزهر، كان قد أفضى إليهم بعزمه على القتل ولم يفشوا سره.) الأعلام ج3 ص 133

([61]) العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة

الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 459

([62]) قضية التنوير الشيخ محمد قطب ص49

([63]) سورة فاطر الآيتان 27 : 28

([64]) صحيح مسلم المؤلف : مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر ج4 ص 2047

([65]) أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها عبد الرحمن حسن الميداني ص 87 : 89

([66]) أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها ص 88

([67]) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا أ / محمود محمد شاكر ص 88 : 102

([68]) لمزيد من التفصيل الأزهر جامعا وجامعة ص 342 : 343 والأزهر تاريخه وتطوره ص 158 : 164

([69]) وسائل وأساليب التنصير بيان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ص 6

([70]) التنصير مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته ص59

([71]) ( أكبر مستشرق انكليزي وكان عضوا بالمجمع اللغوي بمصر … ومن كبار محرري وناشري دائرة المعارف الإسلامية ) أجنحة المكر الثلاثة ص 114 ، 115

([72]) ( أكبر مستشرق فرنسي معاصر … والراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر وكان عضوا بالمجمع اللغوي المصري والمجمع العلمي العربي بدمشق ) أجنحة المكر الثلاثة ص 115

([73]) ( مرجليوث (1274 – 1359 هـ = 1858 – 1940 م) دافيد صمويل مرجليوث … الإنجليزي البروتستانتي : من كبار المستشرقين. من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللغوي البريطاني، وجمعية المستشرقين الألمانية. مولده ووفاته بلندن. تعلم في جامعة أكسفورد، وعين أستاذا للعربية فيها سنة 1899 م. وعمل في مجلة الجمعية الآسيوية الإنجليزية، وترأس تحريرها، ونشر فيها بحوثا منها (فهارس) لديوان أبي تمام، بناها على طبعة بيروت (شرح الشيخ محيي الدين الخياط) وزار الشرق الأوسط مرارا. وألف بالعربية كتاب (آثار عربية شعرية – ط) وامتاز بكثرة ما نشره من مؤلفات العرب، كمعجم ياقوت (إرشاد الاريب) و (الانساب) للسمعاني، و (ديوان ابن التعاويذي) و (حماسة البحتري) و (نشوار المحاضرة) للتنوخي، و (رسائل أبي العلاء المعري) مع ترجمتها إلى الإنجليزية. وله في لغته كتب عن الإسلام والمسلمين، لم يكن فيها مخلصا للعلم، على الرغم من توسعه في معرفة المسلمين وأدبهم ) الأعلام ج 2 ص 329 ، 330

([74]) أجنحة المكر الثلاثة ص 114 ، 115

([75]) عن مقال بعنوان أثر الاستعمار في مناهج التربية والتعليم في بعض البلاد العربية بقلم: الشيخ محمد المهدي محمود مجلة الجامعة الإسلامية عدد 18 ص 416

([76]) أجنحة المكر الثلاثة ص 304 ، 305

([77]) قذائف الحق ص 119

[78] ) قذائف الحق ص206

([79]) ( الشرقاوي ( سنة 1227هـ ) عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي الأزهري ، فقيه من علماء مصر ، تعلم في الأزهر وولى مشيخته ، وصنف كتبا منها : فتح المجدي لشرح مختصر الزبيدى ، وحاشية على شرح التحرير في فقه الشافعية ، وغير ذلك . ) موسوعة الأعلام ص 302

([80]) الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط المؤلف : علي محمد محمد الصلابي ج 2 ص 151

([81]) ( رفاعة الطهطاوي (1216 – 1290 هـ = 1801 – 1873 م ) رفاعة رافع بن بدوي بن علي الطهطاوي ، يتصل نسبه بالحسين السبط : عالم مصري ، من أركان نهضة مصر العلمية في العصر الحديث . ولد في طهطا ، وقصد القاهرة سنة 1223 هـ فتعلم في الأزهر . وأرسلته الحكومة المصرية إماما للصلاة والوعظ مع بعثة من الشبان أوفدتهم إلى أوربة لتلقي العلوم الحديثة، فدرس الفرنسية وثقف الجغرافية والتاريخ. ولما عاد إلى مصر ولي رئاسة الترجمة في المدرسة الطبية، وأنشأ جريدة (الوقائع المصرية) وألف وترجم عن الفرنسية كتبا كثيرة، … وهو مؤسس مدرسة الألسن وناظرها ، وأحد أركان النهضة العلمية العربية بل إمامها في مصر . توفي بالقاهرة . ) الأعلام ج 3 ص 29

([82]) مجلة التاريخ العربي مقال بعنوان جذور الهيمنة على الثقافة العربية الإسلامية الأستاذ سمير أحمد الشريف ص 8502

([83]) الخنجر المسموم انور الجندي 17 ، 18

([84]) عن مقال بعنوان محب الدين الخطيب لمحات من حياته وقبسات من أفكاره بقلم الشيخ: ممدوح فخري مجلة الجامعة الإسلامية العدد 7 ص 279

* الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف

* باحث وصحفي بجريدة اليوم ـ مصر