الحكم المصرى للشام الجزء الاول

بعد عقد اتفاق كوتاهية ، انسحب ابراهيم باشا بجيوشه من الأناضول الى البلاد التي تقرر ضمها الى حكومة محمد علي، وتولى منصبي الحاكم العام والقائد العام فيها، لكنه وجه اهتمامه الى الشؤون العسكرية، فحد في العمل لتأمين الحدود، واقرار الأمن والسكينة في البلاد، ورمم أسوار عكا، وحصن الحدود الشمالية تحت مراقبة مهندسين أوربيين لصد هجوم الأتراك فيما لو حدثتهم نفوسهم أن يسترجعوا سوريا. ووزع جيشه الذي كاني بلغ نحو سبعين ألف مقاتل في جهات مختلفة من سوريا، انما جعل معظمه في شماليها لأجل حماية الحدود، كما أنه جعل مقره العام في أنطاجية مراعيا في اختياره اياها دون سواها موقعها الحربي، وجودة هوائها، وكثرة العلف في جوارها، هذا فضلا عن قربها من مصدر الخطر التركي الذي كان لابد له من السهر على مراقبته بنفسه. وزيد جيشه فيما بعد حتى بلغ نحو خمسة وثمانين ألفا، هذا ما عدا المتجندين الحديثين من سوريا.

 

دخلت الشام في حكم الدولة المصرية بعد صلح كوتاهية الذي توج انتصارات الجيش المصري، واصبحت مصر المرجع الاعلى لحكومة الشام، وصار ابراهيم باشا حاكما عاما للبلاد السورية وقائدا للجيش المصري.

 

Description: http://2.bp.blogspot.com/-o3HxPxtb0_0/UVy-zyJhFhI/AAAAAAAAAj8/FUyzO-OC8Rc/s1600/200px-Portrait_d'Ibrahim_Pacha_2.JPG

 

 

 

نظام الحكم المصري

 

كانت سوريا قبل أن يستولي عليها ابراهيم باشا مقسمة الى أربعة أقسام كبرى وهي: إيالات حلب وطرابلس ودمشق وصيدا، وكانت القدس ويافا وغزة داخلة في هذا التقسيم. غير أن الوزير الذي كان يتولى الحكم على ايالة صيدا كان يبسط سلطته أحيانا على البلدان المذكورة وعلى ولاية طرابلس الشام. وهكذا كانت الحال لما زحف ابراهيم باشا بجيشه على سوريا، فان عبد الله باشا والي صيدا كان متوليا ادارة ايالة طرابلس الشام ومتسلطا على بلاد فلسطين حتى برية سيناء. وكانت حكومة الآستانة المرجع الأعلى لحكام البلاد السورية.

 

أما بعد استيلاء ابراهيم باشا على سوريا وانضمام كيليكليا اليها، أصبحت حكومة محمد علي في القاهرة المرجع الأعلى لحكومة سوريا وكيليكليا. ووضع تشكيل اداري جديد لحكومة البلاد، فجعل ابراهيم باشا حاكما عاما وقائدا عاما كما ذكرنا قبلا، وضمت عكا وسائر بلاد فلسطين حتى برية سيناء الاى ولاية الشام. وفي خريف سنة 1832 عين شريف باشا أحد أقارب محمد علي حاكما عليها، وأطلق عليه لقب “حكمدار عربستان” لأنه في أثناء السنين الأولى كان يتولى ادارة الآيالات السورية جميعها، وكان ابراهيم باشا قد فوض الى كاخيته منيب أفندي ادارة شؤون الحكومة في عكا عند استيلائه عليها، فاستبدله في رمضان سنة 1249 هـ = كانون ثان (يناير ) سنة 1834 بالشيخ حسين عبد الهادي من زعماء نابلس وجعله تابعا لشريف باشا.

 

أما المدن الساحلية وهي صور وصيدا وبيروت وطرابلس ، فكان ابراهيم باشا قد وجه متسلمين اليها عند فتحها في كانون أول (ديسمبر) سنة 1831، ثم عاد في تشرين أول (أكتوبر) سنة 1832 ففوض ادارة شؤون بيروت وصيدا وصور الى الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان، فولى عليها متسلمين من أقاربه ، لكن عند ارجاء التشكيلات الجديدة بعد عقد الصلح بين السلطان محمود ومحمد علي رفع سلطة الأمير بشير عن السواحل، وعين متسلمين اختارهم بنفسه.

 

ولم تبق التشكيلات الادارية على حال واحدة في أثناء قيام حكومة محمد علي في سوريا بل ان كثرة الاضطرابات ، واتساع دائرة الأعمال أوجبتا مراقبة الأمور مراقبة شديدة لا يقوى عليها حاكم واحد. فولى سليمان باشا الفرنساوي على إيالة صيدا التي كانت قد سلخت عنها عكا، وجعل مقره مدينة صيدا وسليمان باشا كان أليق رجال ابراهيم باشا لهذا المنصب، لأنه كان أكثرهم أهلية لتنشيط التجارة، وأوسعهم خبرة بمعاملات الأجانب الذين كانت بيروت مركز قناصلهم، وكان فيه أكثر وأكبر بيوتهم التجارية. أما حلب فولى عليها في سنة 1838 اسماعيل بك أحد أبناء عم ابراهيم باشا، وعين أحمد منيكلي باشا حاكما على أدنه، وبعد انتقاله منها خلفه خورشيد باشا.

 

فبعد ذلك بقى شريف باشا متوليا على ايالة الشام والبلاد الفلسطينية بما فيها عكا. أما توليته في بادئ الرأي على جميع البلاد السورية، فواضع من تلقيبه “حكمدار عربستان” ويعززها الأوامر الصادرة منه الى أنحاء مختلفة من الآيالات السورية، والنصوص الواردة في تأليف بعض المعاصرين كنوفل نوفل وغيره. فقد قال نوفل في كتابه “كشف اللثام عن محيا الحكومة والأحكام” ص 493: ان جريدة ضبط مجالس المشورة كانت ترسل الى الشام ليراجعها يوحنا بك البحري”. وهذا يدل على أن الشام كانت مركز الادارة العامة حينئذ.

 

وقال في الصفحة نفسها ما هو أكثر من هذا صراحة وهو: “ونصب لكل بلدة متسلما من أهل الاسلام، ومرجع الكل هو مركز الحكم العمومي الذي في الشام، وفيها يقيم الحكمدار العام الذي هو شريف بك خزينة دار محمد بك باشا سابقا.. وكذلك مدير الحسابات الذي هو الخواجة يوحنا بحري وهو بمنزلة دفتر دار عمود أيالات سوريا، وأخيرا صيره مير لواء وصار يدعي بحري بك”. وقال معاصر آخر: “وهوفي 9 جماد الثاني 1249 عـ (1833م) حضر كتاب من شريف بك في حلب الى الأمير بشير الشهابي أن يأمر بعدد أهالي جبل لبنان، ويتحرر دفاتر بأسامي كل مقاطعة ببيان قراها، وتقسم على عشر مراتب، كل مرتبة فئة معلومة على قدر احتمالها بوجه العدل، وتختم الدفاتر من مشايخ القرى، وبعده تختم من أمراء المقاطعة وترسل الى عنده”.

 

المتسلم: كان لكل مدينة متسلم يتولى ادارة أعمال البلد ومراقبتها، ويقوم في أحوال كثيرة بالأعمال التي يقوم بها قضاة الصلح والمجالس البلدية.

 

المباشر: كان بمثابة أمين سر المتسلم، ويتولى أيضا وظائف الصراف أو مدير المال وادارة حسابات المدينة وأموال الفريضة والميري. وكان المباشرون عادة من المسيحيين، لأنهم كانوا أكثر من سواهم خبرة بالأعمال الحسابية.

 

ديوان المشورة: وألف في كل مدينة عدد سكانها من عشرين ألف نفس فما فوق مجلس سمي “ديوان المشورة” عدد أعضائه يتراوح ما بين 12 و21 عضوا مراعين في ذلك عدد السكان، وكان هؤلاء الأعضاء ينتخبون من بين أعيان البلد وكبار تجارها ويمثلون جميع المذاهب، ففي دمشق مثلا كان هذا المجلس مؤلفا من واحد وعشرين عضوا ينتخبون من بين أعيان البلد وكبار تجارها ويمثلون جميع المذاهب ، ففي دمشق مثلا كان هذا المجلس مؤلفا من واحد وعشرين عضوا من المسلمين والنصارى واليهود، ورئيس هذا الديوان كان من أهل البلد أيضا. ولم يكن هذا المجلس خاضعا لسلطة المتسلم أو حاكم البلد، وفي بيروت كان مؤلفا من اثني عشر عضوا وقد ورد ووصف ديوان المشورة باسهاب في كتاب حروب ابراهيم باشا المصري في سوريا والأناضول، ج1 ص37 و38 وهو:

 

“في 14 رمضان 1249 هـ (1834 م) أمر ابراهيم باشا يصير ديوان مشورة في بيروت، وجعل اثني عشر رجلا من أكابر بيروت أصحاب فطنة والمتسلم لا يبدي بشئ الا بما يبرز به الحكم من ديوان المشورة بموجب كتاب منه الى أرباب الديوان المذكورة، وهم ستة: اسلام عبد الفتاح حمادة ناظر المجلس، عمر بيه (بيهم)، أحمد العريس، حسن البربير، أمين رمضان، أحمد جلول، وستة نصارى وهم: جبرايل حمصي، بشارة نصر الله، الياس منسا، ناصيف مطر، يوسف عيروت، موسى بسطرس، وترتيب الديوان المذكور:

 

(1) تعيين وقت معلوم كل يوم الى حضور أرباب المجلس، وعند حضورهم يحرر الكاتب أسماءهم بقايمة برتبة حضورهم لا برتبة مقامهم. (2) الكاتب يحرر كل يوم الأشغال الموجودة عنده وحين يحضر أرباب المجلس يعرضها عليهم حتى يعملوها ولا تبقى من يوم الى يوم. (3) اذا كانت هذه الأشغال لا تنتهي في ذلك اليوم فيصير الاجتماع ثاني يوم قبل الوقت المعين بزمان كاف لنهيها. (4) الأشغال المذكورة المتبقية من اليوم السابق لا تتقيد في أعماله بل في اليوم الذي تنتهي فيه. (5) حين يقرأ الكاتب الدعوى يطلب الجواب ممن هو خبير بها من أرباب الديوان قبل الجميع، وبعده يأخذ رأي الباقي بحيث لا يبقى أحد بدون تكلم، واذا وجد واحد من أرباب المجلس تكلم مع آخر في حديث خارج عن الدعوى ينبه عليه الكاتب أولا وثانيا، فاذا ما أفاد فيحرر في مضبطة المجلس ان فلان مشغول يشغل أحاديث خارجة عن المصلحة، والكاتب لازم يحرر كلما يتقرر بالمجلس ولا يترك منه شيئا وكلما يتقرر يكون مكتوبا ولا يتحرر الا الذي موافق الحق. (6) بعد نهاية المجلس وتمام رؤية المصالح التي نظر فيها واستقر الحكم عليها باستحسان الجميع يحررها الكاتب بمسودة، وثاني يوم يبيضها ويوجهها لمحلاتها، وبعد ذلك تتقيد في سجل المجلس، وهذه الخلاصات بعد تحريرها يأخذها الكاتب كل يوم للمجلس لكي بعد نهايته يقرأها بأعلى صوته بحضور الجميع ، فان استحسنوا رأيا أوفق من الذي تقدم فيغيروا الخلاصة، وتتقدم الخلاصات لناظر المجلس فيختمها بختم مجلس الثورة، وبعد القيد تصل الى صاحب الأمر لكي يشرح عليها الى أصحابها أمرا باجراء ما يتضمن من الحكم، واذا ما كان سعادة الحاكم دار موجودا ينشرح من طرف متسلم آغا. (7) الكاتب يمسك دفترين الواحد الى صورة المجلس المتضمنة التقرير، والآخر الى الخلاصات من بعد ختمها ويلزم حفظ المسودات اليومية ضمن كيس أيضا”.

 

وكانت قرارات مجالس الشورة في المدن الصغيرة، تستأنف عند الاقتضاء الى مجلس مشورة عكا أو مجلس مشورة دمشق، واذا اقتضت الحال تميز قرارات هذين المجلسين الى القاهرة. على أنه لم يرو أنه حدث أي تمييز.

 

ومن التغييرات الادارية التي أحدثتها حكومة محمد علي القضاء على الحكم الاقطاعي، وجعل أصحاب الاقطاعات في بادئ الرأي موظفين بمرتبات مقررة لا تساوي عشر ما كانوا يستولون عليه من اقطاعاتهم، وتدرجت من ذلك الى عزلهم وتولية سواهم في أماكنهم. هكذا عاملت الامراء بني الحرفوش في بعلبك والأمراء آل شهاب في بلاد حاصبيا وراشيا، وكذلك زعماء فلسطين وغيرهم.

 

على أن هذه التنظيمات رغما عما لهامن حسن المظهر ومع ما في وضعها من حسن القصد، أدى تطبيقها الى خلل في الادارة واجحاف شديد بحقوق الأهلين، لأن الحكام كانوا يجهلون أو يتجاهلون حدود سلطتهم، فاتسع المجال للفوضى الادارية والاستبداد، نظرا لتجاوز كل منهم حدود وظيفته واعتدائه على سلطة غيره، وقيامهم بأعمال متناقضة وهذا ما يحدث عادة عن قلة الاختبار عند تطبيق النظامات الجديدة. انما أشاد أسباب الشكوى نشأ عن فساد العمال واستبدادهم بالعرية، من أمثلة ذلك أن شريف باشا حكمدار عربستان كان صارما مستبدا مولعا بجمع المال بطرق غير مشروعة، وحملته قرابته لمحمد علي على الظن أنه لا يحاسب على ما يفعل.

 

وكان اسماعيل باشا حاكم حلب محبا للمال، احتكر لنفسه الاتجار باللحوم والفواكه والبقول وما شاكل ذلك. وكان يستثمر بعض الأراضي الزراعية، ويبيع محصولاتها للتجار بالمزاد ولا يسمح لغير الذين اشتروا منه أن يبيعوا ما عندهم من جنس محصولاته، الا بعد ما يفرغ الذين اشتروا منه ما بيع ما اشتروه.

 

ويقال ان حنا بك بحري وأخاه جرمانوس الذي كان يتولى ادارة أموال وحسابات ولاية حلب لم يكونا أكثر نزاهة ورفقا بالأهلين من شريف باشا واسماعيل بك. وكان حنا بك يتخذ مختلف الوسائل ليزيد دخل الخزينة، وينال الحظوة لدى محمد علي وابراهيم باشا، من ذلك أنه كان يلزم بعض الاصناف التجارية في المدن كاللحم والبقول وغيرها بأسعار عالية، ويسمح للملتزمين ببيعها بأكثر من ضعفي ثمنها، فتربح الخزينة والملتزمون أرباحا فاحشة، كما يخسر الأهلون خسارة جسيمة لغلاء لوازم معيشتهم.

 

وكان جرمانوس يحذو حذو أخيه في سياسته المالية ، ويشارك اسماعيل بك حاكم حلب في ابتزاز الأموال. وكان المباشرون بمن تقدم، ولم يكونوا مكلفين بتقديم ضمان مالي يخشون فقده فيما لو اختلسوا الأموال، كما أن مرتباتهم كانت صغيرة لا تكفي لسد حاجاتهم واعاشة عائلاتهم، فالحاجة والفساد الاداري المنتشرة بين عمال الحكومة على اختلاف طبقاتهم، كانت تدفعهم الى اتخاذ أساليب مختلفة لكسب المال بطرق غير مشروعة. ووجود ديوان المشورة لم يحل دون وقوع المظالم بل كان هو نفسه مصدرا لكثير منها.

 

على أنه لا يسع المنصف الا الاعتراف بأن المبادئ التي شاء محمد علي أن يؤسس عليها الادارة والقضاء في سوريا كانت صحيحة بوجه عام، لأنها كانت ترمي الى تنظيم الأعمال وتوزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة، ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بالنصوص القانونية، وتدريب الأهلين على ادارة شئونهم المحلية، غير أن جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وفطرتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبة فعالة على أعمالهم، وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعاداتها، وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت تلك القوانين من أجلها.

 

ولابراهيم باشا فضل خاص في السنين الأولى بعد الفتح في ضبط الأحكام وشدة مراقبة الحكام واجراء العدل بين الأهلين، وقد كان شديد الوطأة على المستخدمين الذين يحيدون عن السبيل القويم، فعاقب كثيرين منهم بالطرد والضرب والحبس والاعتداء على أهل البلاد أو عدم النزاهة أو غير ذلك مما يخرج عن جادة الاستقامة، فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم الحكيم لملكت قلوب السوريين.

 

 

واخذ ابراهيم باشا في تنظيم سورية وتدبير امورها الادارية والسياسية والحربية، فعنى باقرار الامن والنظام في ربوعها، وامن الطرق، ومنع اعتداء البدو على غلات الاهالي واملاكهم وارواحهم.[1]

 

واخ من الوجهة الحربية يعنى بتوطيد مركز مصر في سورية، فأمن حدودها الشمالية وعنى بتحصين مضايق جبال طوروس لصد هجوم الترك اذا حدثتهم انفسهم بالزحف على الشام، ورمم حصون عكا وأسوارها، وشيد الثكنات والمستشفيات، وخطط الطرق الحربية، واستقرت الحاميات المصرية في اهم المدن السورية.

 

وبلغ عدد الجيش المرابط في سورية نحو سبعين الف مقاتل رابط معظمه في الجهات الشمالية القريبة من الحدود التركية.

 

واتخذ ابراهيم باشا مقره العام في انطاكية لموقعها الحربي وقربها من التخوم الشمالية وعين محمد شريف بك (باشا) حاكما عاما على سورية سنة 1832 ولقب حكمدار عربستان، وظل في معظم سنوات الحكم المصري يتولى ادارة الايالات السورية جميعا.

 

وجعل سليمان باشا الفرنساوي على ايالة صيدا (عكا)، وعين اسماعيل بك سنة 1837 حاكما لولاية حلب، وعين محمود نامي بك احد خريجي البعثات المصرية محافظات لبيروت وبقى في هذا المنصب من سنة 1833 الى سنة 1840.

 

ان الفوضى كانت سائدة على مالية السلطنة العثمانية من دخل وخرج سيادتها على غير ذلك من الشؤون، لان الانظمة لو وجدت لما أمكن العمل بموجبها الا بطريقة عامة لعجز حكومة الآستانة عن تنفيذ أوامرها ونظاماتها في الولايات البعيدة كالولايات السورية، فقد كان ولاة صيدا مثلا كأحمد باشا الجزار ثم عبد الله الخزندار يسيرون الأمور في البلاد التي يحكومنها حسبما شاءت أهواؤهم ومطامعهم. ومع أن الضرائب المفروضة على بلاد السلطنة كانت أنواعها ومقاديرها مقررة بوجه عام، وهي مال الميري والجزية والرسوم الكمركية – وأحيانا كانوا يلجأون الى احتكار بعض الأصناف – فأن الولاة لم يتقصروا على ذلك، بل كانوا يكلفون الأفراد والجماعات بدفع اعانات مختلفة ينتحلون لابتزازها شتى الأسباب.

 

وهذا جبل لبنان مع ما كان له من الامتياز الخاص، فيما أن حاكمه كان يتلقى خلعة الولاية من والي صيدا، كان أهله يكلفون ما يفوق طاقتهم دفعه من الأموال، ويسامون صنوف العذاب في تحصيلها. فالتولي على لبنان كان موضوع التنافس بين الأمراء وعرضه للمساومه بينهم وبين والي صيدا. فلما وقع التنافس بين الأمير بشير الكبير وبين طالبي الولاية من أقاربه، أكره الأمير على التنحي عن الولاية للأميرين قعدان وحيدر شهاب، لكن بعد حين رضى عنه الجزار وأرجعه الى الولاية “بعدما أخذ رهينة على المال ابنه قاسم” الخ، لكن “بعد مدة أيام ظهر ابنا الامير يوسف وكاخيتهم جرجس باز ونزلوا عكا .. فلبسهم الباشا حكام الجبل .. واستقاموا حكاما أيام. ومن طمبع الباشا رتب عليهم مالا كثيرا، وقبلوا فيه غصبا، وصار طلب الغرش من الناس بما يفوق الاحتمال. فمن اتصال الطلب هاجت العامة وطردوا أولاد الأمير يوسف ورجعوا الأمير بشير”.

 

على أنه لم يمض زمن طويل حتى عزل الأمير بشير وأعيد ابنا الأمير يوسف الى الحكم “تحت مال معلوم” و”أخذ جرجس باز يفرض المال على الناس من مشايخ وعامة ومطارنة ورهبان حتى ما بقى أحد سالم من دفع غرش حتى من الغريبة (الأجانب) وكل مدة يجد طلب وشئ ما له نهاية”.

 

أما حكومة محمد علي فقضت على هذه الفوضى، لكنها لم تخفف عن عواتق الأهلين الأثقال المالية، بل أضافت الى الضرائب التي كانت تجبى قبلا ضرائب جديدة وهي الفردة والدخوليات، واحتكرت محصول الحرير، وأوجبت دفع الأموال الأميرية عن الأملاك الموقوفة مع أنها كانت معفاة منها في عهد العثمانيين، ومع أنها ألغت الاعلانات التي كان يتقاضاها الحكام العثمانيون، فان الالغاء لم يك الا اسميا، لأنها أضافت الى مال الميري الاصلي جميع ما كان يبتزه الموظفون والملتزون في العهد العثماني، كما سنبين ذلك في الفصل التالي.

 

وعدا الضريبة العامة على العقار ، كانت حكومة محمد علي تجبى مالا خاصا عن الأشجار كالتوت والزيتون وغيره من الأشجار المثمرة تقدر بخمسة بالمائة من دخلها في سنة معتدلة الاقبال، وكانوا يحسبون ذلك بأن يفرضوا على كل أرض مشجرة مسطحها خمسون قدما قرشين ونصفا، يضاف الى ذلك بارتان عن كل قرض.

 

وكانت المغروسات الجديدة من هذه الأشجار تفرض عليها الضريبة من وقت غرسها، أي كانوا يتقاضون الضريبة عن بعضها، كالزيتون مثلا قبل أن يستثمره صاحب ببضع سنين، وهذا ما حمل كثيرين من الناس على العدول عن غرس الاشجار المثمرة.

 

الفردة أو الفرضة: هو ما فرضته حكومة محمد علي باشا على الذكور من مختلف المذاهب البالغين من العمر خمسة عشرة سنة الى ستين سنة. وكانت قيمتها 12 في المائة من دخل المكلفين، ولهذا كان يختلف مقدارها بحسب اختلاف درجات دخل المكلفين، انما كان لها حدان أعلى وأدنى، فلا تزيد عن خمسمائة قرش على المكلف المثرى، ولا تنقص عن خمسة عشر قرشا على المكلف الفقير. وقد شذت حكومة محمد علي عن هذه القاعدة في سنة 1839 حينما اضطرت الى المال، بسبب تجدد الحرب مع السلطان محمود، فضاعفت مقدار هذه الضريبة وجمعتها عن سنتين دفعة واحدة.

 

وقد كانت الفردة من أهم مصادر الدخل لخزينة محمد عي في سوريا، وكان يقوم بتقديرها وتوزيعها على طبقات المكلفين ديوان المشورة، لكن كانت الشكوى كثيرة من المحاباة في التوزيع. وتضاعفت الشكوى اذ أخذ عدد المكلفين بالتناقض بسبب الوفيات والتجنيد والمهاجرة، لأن الرجال الباقين في البلدة أو المقاطعة كانت تكلفهم الحكومة دفع ما كان مفروضا على الموفين والغائبين. أما اذا زاد عدد المكلفين في بلدة ما، فكانت تزاد الضريبة بنسبة زيادة العدد. وكان يعفى من دفع الفردة رجال الدين والموظفون الملكيون والعسكريون، كما أن الجنود لم يكونوا مطالبين بدفع الفردة في أثناء تجندهم، غير أن أهلهم أو مواطنهم كانوا يكلفون بدفعها عنهم.

 

رسوم الكمارك والدخوليات: كانت الرسوم الكمركية التي تستوفى من الأجانب اقل كثيرا من الرسوم التي تستوفى من رعايا الحكومة المحلية. على أن اللوم في ذلك لم يكن واقعا على حكومة محمد علي بل على الحكومة العثمانية التي خولت الأجانب الامتياز على رعاياها بمقتضى معاهداتها مع الدول الأجنبية. فبمقتضى تلك المعاهدات كان يدفع الرعايا الأجانب رسوما كمركية قدرها من نصف الى واحد بالمائة عن الأصناف المذكورة في التعريفة وثلاثة بالمائة عن الأصناف غير المذكورة فيها. أما الرعايا المحليون فكانوا يدفعون أضعاف ذلك مرارا في عهد الحكومة العثمانية، فخفضها محمد علي الى أربعة بالمائة عن جميع البضائع المذكورة في التعريفة وغير المذكورة فيها.

 

وكانت تجبى مثل هذه الرسوم عند ارسال البضائع من مدينة الى مدينة في داخل البلاد، ويكلفون فوق ذلك رسوم مختلفة، كرسم التسريح مثلا فتصبح جملة الرسوم التي يدفعونها من 6.2 إلى عشرة في المائة الى 12 بالمائة. بينما جملة ما يستوفي من الأجانب في مثل تلك الأحوال لم يكن ليتجاوز 3.2 بالمائة . على أنه كما ذكر قبلا كانت معاملة التجار الوطنيين من جهة الرسوم في عهد محمد علي أفضل منها في عهد الحكومة العثمانية، حيث كان يبلغ مجموع الرسوم ما بين 18 و21 بالمائة، ولهذا عجز التجار الوطنيون عن مجاراة التجار الأجانب، ليتخلصوا من الرسوم الباهظة وكانوا في مقابل ذلك يدفعون لأولئم الأجانب مبلغا قدره 3 أو أربعة بالمائة من قيمة بضائعهم.

 

 

رسم التسريح: وكان يستوفي رسم تسريح على المحصولات المحلية عند ارسالها من بلد الى آخر إما لأجل المقوطعية الخصوصية أو للاتجار به، أما الأجانب فكانوا مفين من رسوم التسريح اذ كانت المحصولات المطلوبة لأجل مصروفهم الخاص. وكان بعض موظفي القنصليات يسيئون استعمال هذا الامتياز فيطلبون مقادير كبيرة من المحصولات زاعمين أنها لازمة لسد حاجاتهم، فيستهلكون بعضها ويبيعون البعض الآخر.

 

رسوم الدخولية على الحيوانات: ان الحيوانات التي تدخل المدن كان يستوفى عنها عند دخول المدينة رسوم دخولية قدرها عن رأس البقر من 12 إلى 21 قرشا اذا لم يكن دخوله لأجل الذبح، ومن ستين الى سبعين قرشا اذا كان لأجل الذبح.

 

أما الغنم والمعزى والجمال فكانت تستوفي عنها رسوم سنوية.

 

الضريبة صنفا (الشونة): عدا مال الميري الذي كان يستوفى نقدا، كان أهالي كل ناحية يكلفون تقديم بعض ما يلزم الجيش من حصالاتهم، كالحبوب والسمن والزيت الخ. وكانوا يكلفون نقل هذه الحاصلات الى أقرب شونة عسكرية من بلدتهم، اما على دوابهم أو على دواب يستأجرونها بمالهم. ولم يقف الحيف عليهم عند هذا الحد، بل كانوا عند تسليم المقدار المطلوب منهم يجدونه ناقصا، لأن الحكومة على ما يقال كانت تستعمل ميزانين ومكيالين مختلفين في الوزن والكيل. فالميزان أو المكيال الكبير تتسلم بموجبه من الأهلين، والصغير تستعمله عند ما يكون التسليم منها اليهم. وكان الفرق بين الاثنين نحو الربع. فبسبب هذه المعاملة الجائرة، كان الملاك مكلفين بتسديد العجز صنفا أو دفع ثمنه نقدا.

 

دخل الخزينة وخرجها: ان حكومة محمد علي زادت الضرائب على السوريين زيادة فاحشة، ففي جبل الشوف وتوابعه لا غير كانت الزيادة من مال “الفردة” فقط 1.919.500 غرش، لكن بالرغم عن ذلك لم يكن مجمود الدخل كافيا للقيام بنفقات الحكومة. على أن أحوال سوريا حينئذ كانت شاذة، وكان فيها جيش جرار اضطرت حكومة محمد علي لحشده لاخماد الثورات، أو لتكون على استعداد لصد هجوم العثمانيين اذا حاولوا استرجاع سوريا. فالعجز الذي كان ينشأ عن ذلك كانت تستورده الحكومة من خزينة مصر.

 

 

وجعل على ادارة الشئون المالية حنا بك بحري احد اعيان السوريين، فصار صاحب النفوذ الاكبر في ادارة شئون الحكومة واحوالها، وقد ذكر المسيو جومار ان تعيين احد السوريين الاكفاء في هذا المنصب الكبير دليل على رغبة ابراهيم باشا في اسناد كبار المناصب الى ابناء البلاد، وهو ما لم يكن مالوفا في عهد الادارة التركية، وقال الدكتور مشاقة ، وهو معاصر للحكم المصري:

 

“لم يمض على حصار عكا زمان حتى ارسل محمد علي تفويضا الى حنا البحري في سن النظامات لحكومة سورية على النمط الحديث، وكان حنا البحري على جانب عظيم من اصالة الراي، وله القدح المغلي في السياسة المدنية، وكان العدل والانصاف شانه والنزاهة زمامه، لا فرق عنده بين القوى المثري والضعيف الفقير او المسلم والذمي، وكان يعاملهم بالقسط والعدل حسب وصية محمد علي باشا الذي كان عارفا ان لا قيام للدولة الا بالعدل والانصاف”.

 

وعين ابراهيم باشا لكل بلد متسلما اي حاكما يتولى ادارتها.

 

والف في كل مدينة يزيد عدد سكانها على عشرين الف نسمة مجلسا يسمى (ديوان المشورة) يتراوح عدد اعضائه بين 12 و21 عضوا ينتخبون من بين نبهاء (أعيان) البلد وتجارها، وتنظر هذه المجالس في مصالح كل بلدة ومطلوبات الميري واليها ترفع بعض الدعاوى للفصل فيها.

 

ووحد الادارة ووطد سلطة الحكومة المركزية، وابطل سلطة الامراء والرؤساء الاقطاعيين وخضد شوكتهم، وضرب على ايدي الاشقياء وقطاع الطرق وبسط رواق الامن في البلاد، ونظم طرق الجباية، وعامل الاهلين بالعدل والمساواة من غير تفريق بين الطبقات والمذاهب والاديان، وكان ذلك اجل اعمال الادارة المصرية في سورية.

 

ونشطت التجارة والزراعة في عهد الحكم المصري، فعمم ابراهيم باشا تربية دود القز (الحرير)، واكثر من غرس اشجار التوت لهذا الغرض، وغرس في ضواحي انطاكية اشجار الزيتون، وازدهرت زراعة العنب، وعنى باستخراج بعض المعادن ولاسيما الفحم الحجري في لبنان، وراجت التجارة واتسع نطاقها، وكثرت المعاملات بين سورية والبلاد الاوربية.

 

وقد كان دخل الولايات السورية اقل من الخرج اي ان غلاتها تقل عن نفقاتها، وخاصة لما يقتضيه الانفاق على الجيش الموزع على المدن من المال، فكانت الخزانة المصرية توازن بينها فتسد عجز الميزانية وتحتمل مصر هذا الغرم في مالها.

 

كانت الادارة المصرية في سورية رغم ما بها من عيون اصلح من الحكم التركي السابق، وحسب هذه الادارة فضلا انها اقرت الامن في البلاد واستنقذتها من الفوضى.

 

ويكفيك لتتحق مبلغ تقدم الادارة السورية في ظل الحكم المصري ان تقرأ ما كتبه مؤرخو سورية في هذا الصدد.

 

قال الاستاذ محمد كرد علي بك رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق خلال كلامه عن الفتح المصري:

 

“كان من اول اعمال ابراهيم باشا الجليلة في بلاد الشام ترتيب المجالس الملكية والعسكرية واقامة مجالس الشورى وغيرها من النظم الحديثة، وترتيب المالية، فجعل نظاما لجباية الخراج ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل، لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم، ولذلك لم يلبث الامراء والمشايخ وارباب النفوذ ان استثقلوا ظل الدولة المصرية. وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء، وينالهم من ذلك مصة الوشل، مع ان البلاد رات في ايام ابراهيم باشا ابطال المصادرات وتقرير حق التملك، وتوطد الامن في ربوعها، واحييت الزراعة والتجارة والصناعة، وعممت تربية دودة القز (الحرير)، واستخرجت بعض المعادن ولاسيما معدن الفحم الخجري في قرنايل (لبنان)، وفرض على لبنان 6782 كيسا يتقاضى الامير ضعفيها ويدخل في خزانته الخاصة المال الزائدة على المفروض.

 

“وأكد كثيرون ان بعمله هذا استعادت اكثر قوى حوران وعجلون وحماة وحمص وغيرها من اعمال الشام عمرانها القديم، واخربت بعض القلاع التي كان يعتصم بها الثائرون احيانا مثل قلاع جبل اللكام وقلعة القدموس، وقرب العلماء والشعراء، ورخص الاجانب في ارسال معتمديهم الى دمشق، وكانوا يمنعون من دخولها قبله، فينزل وكلاؤهم السواحل مثل صيدا وعكا وبيروت وطرابلس، ويقال على الجملة ان الناس حمدوا دولة محمد علي في الشام، ولم يتبرموا بها لو لم يقم ابنه ابراهيم باشا بايعاز ابيه بتجنيد الشبان ولو لم يثقل كاهل الاهلين بالضرائب، واقل الضرائب الشخصية 15 قرشا، واعظمها خمسمائة قرش، فان هذا مما نفرت منه بعض القلوب ولاسيما من كان يقع عليهم عبء معظمها مثل اهل حلب واهل دمشق”.

 

وقال الدكتور اسد رستم احد اساتذة التاريخ بجامعة بيروت الامريكية لمناسبة الكلام عن محمود نامي بك محافظ بيروت في عهد ابراهيم باشا:

 

“لما عزم عزيز مصر على ارسال بعض ضباط بحريته الى فرنسا وانجلترا لاتمام علومهم وممارسة الفنون الحربية انتخب حسن افندي الاسكندراني وشنان افندي والامير محمود نامي وارسلهم الى فرنسا، فتلقى محمود علومه العالية وتخصص في الرياضيات، ولما رجع من فرنسا ، عينه محمد علي باشا محافظا لبيروت، وابقاه في هذا المنصب سبع سنوات (1833-1840) تنشقت بيروت في خلالها نسيما منعشا من الغرب المتمدن، فاستيقظت من سبات العصور الوسطى، وخطت خطوتها الاولى في سبيل رقيها الحديث، وكان محمد علي باشا وابنه ابراهيم وعامله الامير محمود نامي لبيروت اول العثمانيين الذين اخذوا الافكار الحديثة فيما يتعلق بالحكومة ولاادارة وهم اول من وضعها، وضع الاجراء والتنفيذ، نعم ان سلطتهم في بيروت كان مطلقة، ولكنهم احكموا التدبير واحجموا عن الحجم الاستبدادي، فشكلوا في هذه المدينة من سكانها مجالس تباحثوا مع اعضائها في جميع اعمالهم المتعلقة فكان هناك مجلس للمشورة يدعى مجلس شورى بيروت وديوان للصحة واخر للتجارة”.

 

وقال سليمان بك ابو عز الدين احد ادباء سورية:

 

“على انه لا يسع المنصف الا الاعتراف بان المبادئ التي شاء محمد علي ان يؤسس عليها الادارة والقضاء في سوريا كانت صحيحة بوجه عام، لانها كانت ترمي الى تنظيم الاعمال وتوزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بالنصوص القانوينة، وتدريب الاهلين على ادارة شئونهم المحلية، غير ان جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وفطرتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبة فعالة على اعمالهم وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعادتها وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت تلك القوانين من اجلها، ولابراهيم باشا فضل خاص في السنين الاولى بعد الفتح في ضبط الاحكام وشدة مراقبة الحكام واجراء العدل بين الاهلين، وقد كان شديد الوطاة على المستخدمين الذين يحيدون عن السبيل القويم، فعاقب كثيرين منهم بالطرد والضرب والحبس للاعتداء على اهل البلاد او عدم النزاهة او غير ذلك مما يخرج عن جادة الاستقامة، فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم الحكيم لملكت قلوب السوريين”.

 

وقال في موضع آخر: “من التغييرات الاجتماعية التي نشات عن حكم محمد علي في سوريا اطلاق الحرية الدينية، ونشر روح الديمقراطية بالضرب على ايدي الزعماء والمتغلبين، ونزع السلطة من ايديهم، وانشاء العلاقة ما بين افراد الشعب وحكامه مباشرة، وتاليف مجالس مشورة تمثل الشعب بعض التمثيل ولها حق النظر في الشئون المحلية بعد ان كان النظر في جميع الشئون منوطا بحكام مستبدين”.

 

ثم قال في موضع آخر: لم تقم حكومة محمد علي في سوريا باعمال علمية وادبية ذات شأن ، فالمدارس التي انشاتها كانت قليلة العدد والتاثير، وكانت في معظم الاوقات مشتغلة بالفتح وتسكين الاضطرابات واخماد الثورات ومقاومة الدسائس والاعتداءات الداخلية والخارجية، على ان قيامها في سورية مهد السبيل لنهضة علمية ادبية، لان تنظيماتها استوجبت اختبار المتنورين لادارة الاحكام والقيام بالاعمال القضائية والمالية والكتابية، وسهلت قدوم الافرنج عن مرسلين دينيين وتجار وغيرهم، فانشئت بواسطتهم المدارس، كما ان ارسال بعض الشبان لدرس الطب في القطر المصري واستخدام بعض السوريين في حكومة محمد علي باشا انشا صلة ادبية دائمة بين القطرين فامتدت تلك الصلة ونتائجها الى وقتنا الحاضر ، وأدخلت حكومة محمد علي روحا علمية الى البلاد في اعمالها، فانشات محجرا صحيا في بيروت وبذلت اهتماما يذكر في الامور الصحية، وكانت تجرى فيها حسب مشورة الاطباء الصحيحة كما فعلت في دمشق بانشاء مصارف للمياه الراكدة، واستخدام المهندسين في ذلك وفي الانشاءات التي تحتاج الى معرفة فنية”.

 

هذا، وقد زار المارشال مارمون (الدوق دي راجوز)، سورية سنة 1834 فاجاب بما راه من اقرار السكينة والامن فيها، وكتب في رحلته يقول:

 

“اذا بقيت اعمال محمد علي وبقى الامن الذي بسطه فيما فتحه من البلاد كما صار اليه الان من الاستقرار الذي يدعو الى الاعجاب فان حالة هذه البلاد سينبه شانها وستتطور تطورا كبيرا.

 

ويقول المسيو لويس بلان المؤرخ الفرنسي في كتابه (تاريخ عشر سنوات):

 

“إذا اردنا ان نعرف ما افادته سورية من انتقالها من الحكم التركي الى حكم المصريين فما علينا الا ان نلقي نظرة على سهول انطاكية التي اكتست باشجار الزيتون وضواحي بيروت التي كثر فيها الكروم، والنشاط الذي انبعث في حلب ودمشق، صحيح ان محمد علي اظهر جنفا وقسوة في حكم سورية، ولكن في ظل هذا الاستبداد العارض الذي كان ضرورة ولزاما حيث سادت الفوضى في تلك البلاد، قد نالت سورية النظام والعمران”.

مظالم محمد علي

 

كثيرون من السوريين أملوا الخير من وراء تغلب حملة ابراهيم باشا على بلادهم، لأن من مزايا حكومة محمدعلي العمل على اقرار الأمن في البلاد، وانقاذها من الفوضى التي جعلت أرواح العباد وأموالهم تحت رحمة الأقويات والأشقياء، كما ان ابراهيم باشا كان قد وعد السوريين بأن سيعفيهم من التجنيد ويخفض الضرائب، ولا يكلفهم سوى بدفع الأموال الأميرية. والأموال الأميرية لم تكن عبثا ثقيلا عليهم في عهد الحكومة العثمانية، الا لما كان يرافقها من سوء المعاملة في التحصيل وابتزاز المبالغ الاضافية بحجج مختلفة.

 

وكان ابراهيم باشا قد حقق بعض الآمال على أثر احتلال سوريا، والشروع في ادارة أحكامها، فخفف عنهم الأثقال المالية، وأخذ ينشط الزراعة والتجارة فبدأ القوم يشعرون بالطمأنينة والرخاء والاخلاص للحكومة الجديدة، غير أن زمن الهناء والرخاء لم يطل. فقد ذكرنا في فصل سابق أن من أهم الأسباب التي حملت محمد علي باشا على الطموح الى الاستيلاء على سوريا هو رغبته بالانتفاع بما فيها من مال ورجال، ولذلك لم ينقض زمن طويل على امضاء اتفاق كوتاهية على الخطة الحكيمة التي كان ابراهيم باشا قد انتهجها في ادارة البلاد السورية حتى وردت عليه أوامر والده قاضية على آمال السوريين، موجبة عليهم الخضوع للسياسة العسكرية والاقتصادية التي جرى عليها في القطر المصري. فالأوامر التي أصدرها محمد علي الى ولده ابراهيم باشا في أوائل سنة 1834 أوجبت اجراء ما يلي:

 

1- احتكار الحرير في البلاد السورية. 2- تحصيل الفردة أي فريضة الرؤوس من جميع الرجال على اختلاف مذاهبهم. 3- التجنيد في البلاد الساحلية. 4- نزع السلاح من أيدي أهل البلاد.

 

ورغما عما لتنفيذا هذه الأوامر من سوء التأثير في عمران البلدان السورية، وفي شعور السوريين نحو حكومة محمد علي، ومع أنها تناقض الوعود التي كان قد قطعها ابراهيم باشا لأهل البلاد، فانه لم يتردد في تنفيذ أوامر والده. والطاعة العمياء لمشيئة محمد علي كانت من أظهر صفات ابراهيم باشا.

 

وقد لامه بعض الكتاب على مضيه في تنفيذ هذه السياسة في سوريا بدون أن يراجع والده في الأمر ويلفت نظره الى ما فيه من المجازفة، لأن ابراهيم باشا كان قد اكتسب خبرة شخصية باقامته في سوريا، واطلع على أحوال البلاد وعرف عنها وعن أهلها ما لم يعرفه والده. فان السوريين كانوا يئنون من جور الحكم العثماني لتكاليف كانت أخف وطأة من تلك التي فرضت عليهم في عهده، ولم يكن يخاف عليه أن من وقع بين شرين يختار أهونهما، وهو الميل الى الرجوع الى الحكم العثماني ، لاسيما ان الحكومة العثمانية ، وبعض الاوروبيين وفريقا من أهل البلاد كانوا يدسون الدسائس ويعملون على اثارة الفتن على حكومة محمد علي.

 

فلو أقام ابراهيم باشا على خطة الرفق في معاملة السوريين لازداد اخلاصهم للحكومة الجديدة، وزال أهم أسباب الثورات وتمكن من الانتفاع برجال سوريا ومواردها الاقتصادية انتفاعا مشروعا أكيدا، لأن السوريين بعدما تذوقوا طعم السكينة في أول عهده، صاروا يرون أن عود الحكم العثماني ليس لمصلحتهم، ولو لم تنقلب عليهم حكومة محمد علي وتحرجهم بما فرضته عليهم من التكاليف الثقيلة، لما خرجوا عليها المرة بعد المرة، بل لأصبحوا بأسرهم جيشا متطوعا لمقاومة كل اعتداء على سوريا من جانب الحكومة العثمانية، وللمحافظة على ما حصلوا عليه من بوادر الأمن والرخاء. كما أن انتشار السكينة والطمأنينة في بلادهم كان مما يمكنهم من توسيع نطاق الزراعة والصناعة والتجارة، فتنشأ عن هذا التوسيع زيادات عظيمة في الضرائب والمكوس لا يتذمر منها دافعوها متى أصبحوا يجودون بما يجدون.

 

انه لم المستبعد ان تكون أمور كهذه قد خفيت عن ابراهيم باشا وهذا ما يجعلنا على التساؤل عن الاسباب التي منعته من محاولة اقناع والده بالرجوع عن سياسة جمعت بين الاجحاف بحقوق السوريين، ونكث العهود التي كان قد قطعها لهم، وهو ما يؤدي حتما الى نفورهم من حكومته وعدم ثقتهم به. فمن رأي بعضهم أن اعتياد ابراهيم باشا اطاعة أوامر محمد علي اطاعة عمياء وشدة ثقته بحزمه وبعد نظره انسياه عهوده للسوريين، وحجبا عن بصره الأخطار التي تتعرض الحكومة لها بسبب نكث تلك العهود. على أن الأقرب الى المعقول هو أن محمد علي لم يقدم على فرض التكاليف السالف ذكرها الا بعد الوقوف على رأي ابراهيم باشا وان كليهما كان يرى ان من الحزم الاسراع في تقوية الجيش وحشد الأموال استعدادا للطوارئ، وان ذلك مما يستوجب تجنيد السوريين ومساواتهم باخوانهم المصريين في تأدية الضرائب والتسخير وما شاء كل ذلك، وعمدا أولا الى نزع سلاح السوريين ليبقوا كالطير المقصوص الجناح.

 

واغتر ابراهيم باشا بانتصاراته الباهرة على الجيوش العثمانية، فاستصغر شأن السوريين وبعدما اتخذ له حزبا منهم، توهم انهم لا يستطيعون جمع كلمتهم على المقاومة، ولا يجرأون على الانتفاض على الحكومة متفرقين. كما أن ابراهيم باشا مضى في تنفيذ أوامر والده بالتدريج فلم يشرع في نزع سلاح اللبنانيين وتجنيدهم الا بعد ما فرغ من نزع سلاح غيرهم وتجنيده. ولما جاء دور اللبنانيين أوهم المسيحيين أنه سيكتفي بنزع سلاح الدروز. وهكذا استمال المسيحيين اليه، لكنه ما كاد ينتهي من نزع سلاح الدروز حتى عمد الى نزع سلاح المسيحيين.

 

فلم يبق هناك شك في ان سياسة الرفق التي كان قد اتخذها في اول الامر، لم تكن الا تدبيرا وقتيا غايته تخدير أعصاب السوريين الى اجل مسمى. على أنه ثبت جليا لمحمد علي، لكن بعد خراب البصرة ان الشدة شر الوسائل لحكم الشعوب، وان السوريين الذين استصغر شأنهم في بادئ الرأي، كانت مقاومتهم له من أشد العوامل تأثيرا في انهاك قوى جيوشه، واتخذتها السياسة الاوروبية وسيلة لزعزعة اركان حكومته.

 

ويروى ان احدهم راه يوما قلق البال، فساله عما اذا كانت الدول الاوروبية سبب بلباله فأجابه: “ماذا؟ الدول الاوروبية؟ اني اضمها في علبة السعوط. انني اتالم من أولئك السوريين الاشرار الذين سيكونون سببا لجميع ويلاتي”. على أن تذمر محمد علي من صعوبة مراس السوريين لا يذكر في جانب ما فاقه هؤلاء من مر العذاب من حكومة محمد علي ، كما يتضح ذلك من اشباع الكلام عن المظالم والمغارم التي انزلتها عليهم.

احتكار الحرير

 

حينما بدا محمد علي باحتكار التجارة بمحصولات البلاد وصناعتها في القطر المصري، انتحل عذرا لذلك الاضطرار لحصوله على موارد تمكنه من انشاء الترع والمصارف العائدة منفعتها على الفلاحين. لان تلك المشاريع لم يكن في الامكان القيام بها بطريقة منظمة الا بواسطة الحكومة. فلما عمد الى اجراء مثل ذلك الاحتكار في محصول الحرير في سوريا تبين فساد تلك العذر، لان السبب الذي دعاه للاحتكار في مصر لم يكن موجودا في سوريا.

 

فالاحتكار كان يوجب على الاهالي بيع محصولات ارضهم الى الحكومة بالثمن الذي يقدره عمال الحكومة نفسها، وعدا ما كان هذه الطريقة من الحيف في تقدير الثمن، فانها كانت تحول دون تزاحم التجار والسماسرة على المشترى، فتحرم الملاك والفلاح من الحصول على ثمن عال لمحصولاته، وتثبط عزائم المنتجين، وتحرم السماسرة من الانتفاع برسوم السمسرة عما يشترون، فالربح الذي كان يجب أن يحصل عليه هذان الفريقان تسرب الى خزينة الحكومة التي شاركت الفلاح في تعبه، وحرمت السمسار عملا يقوم به. اما احتكار صناعة الحرير فعدا ما فيه من مزاحمة الحكومة للأهلين على ربح هم أولى به، فانه يحول دون تنشيط المشاريع المحلية، ويمنع المتمولين واصحاب العقول النيرة والهمم العالية من استثمار اموالهم وجهودهم.

الفردة والميري

 

ان الفردة كان لها تأثير سيئ في نفوس المسلمين بنوع خاص لانهم لم يعتادوا دفع مثلها من قبل، وكانت ثقيلة الوطأة على بوجه عام، لأن ما يفرض منها على بلدة او مقاطعة كانت مكلفة بدفعه ولو نفص عدد الرجال فيها، فمن كان ذا عائلة فيها ثلاثة أو أربعة شبان يكلف بالدفع عنهم جميعا، ولو مات بعضهم او كلهم اما بسبب المرض او في الحرب في سبيل الحكومة، واذا عجز عن ذلك فبلده او المقاطعة التي ينتسب اليها توزع المبلغ المطلوب على الرجال الموجودين.

 

وهذه التكاليف كانت تزداد سنة فسنة على الذين يقومون بدفعها، نظرا لازدياد عدد الغائبين والمفقودين موتا او قتلا او فرارا الى حيث لا تطالهم يد الحكام، خوفا من الحبس او الضرب والتعذيب. وقد كان رجال الحكومة يعاملون الأهلين بمنتهى القوة في تحصيل هذه الضريبة وغيرها من الاموال. وزادت حكومة محمد علي هذه المغارم تقدير الاموال الاميرية على الاملاك بطريقة جعلتها اشد وطأة على الملاكين مما كانت عليه في عهد الحكومة السابقة، حيث لم تقتصر على تحصيل ما الميري فقط بل اضافوا عليه كل ما كان يبتزه الملتزمون والعمال المحليون، واعتبروا المجموع مالا اميريا فعلى هذه الحالة ينطبق قول حافظ

 

وقد كان فين الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلما منظما

 

وقد وصف نوفل نوفل الطريقة الجائرة التي كان يتبعها مندوبو الحكومة لتقدير الاموال الاميرية فقال:

 

“وأول عملية يلزمه اجراؤها عند وصوله هو ان يطوف بنفسه على القرايا، قرية فقرية ومقاطعة فمقاطعة، ويتحقق من الفلاحين عن مقدار ما كان يتناوله منهم المتلزمون من غلال ونقود، وعن ميري ابقارهم وما يقدمون لهم من العوايد والرسميات والهدايا في المواسم والاعياد والافراح من كلي وجزئي، لأن المقاطعات كانت تعطى قبلا الى ملتزمين تحت بدلات معلومة، كما كان جاريا في مصر قبل حكومة محمد علي باشا… وأوهم الفلاحين حين أن قصد الحكومة من ذلك ابطال ما كان من تلك الاشياء ظلما فترفعه عنهم، وتحت هذا الظن والامل كان الفلاحون يقررون عن كل شي حتى عن ثمن حلوة حصان أو عن ربطة شعر ماعز يكون قدمها أحدهم للمتلزمين في احدى السنين ، ليصلح بها غربالا أو ليعملها عقالا لدابة من دوابه، ثم بعد ان يقيد هذا الباشكاتب كل هذه الاشياء بثمنها، ويرسخ مقدار مجموعها بتمامه مالا راتبا على كل تلك القرية، يتحصل منها كباقي الاموال الاميرية في كل سنة”.

 

وقال ايضا مشيرا الى ما تقدم:

 

“وندم الفلاحون غاية الندم على تقاريرهم اذ ما كان اخذه منهم المتلزم مرة في العمر مثلا ترتب عليهم مالا سنويا، وحزن الملتكمون على ما خسروه من سعة العيش ولذة السلطة والنفوذ في المقاطعات التي سلبت من أياديهم”.

 

ومما زاد من تعاسة الفلاحين وعجل في فقدان أملاكهم ، هو أن العسر كان يدفعهم الى الاستدانة من مرابين قساة القلوب، وبيع محصولاتهم مقدما بنصف قيمتها الحقيقية، فاذا أمحل الموسم أو لم يكف ثمنه لتسديد مطلوب المرابي، يمدد أجل الدين مضافا اليه الربا الفاحش، وينتهي الامر باضطرار الفلاح الى بيع أملاكه لاجل تسديد ديونه.

السخرة

 

وزاد الاهلين ضنكا تسخيرهم وتسخير حيوانات النقل لاشغال الحكومة ، فمن امثلة ذلك ما رواه نوفل نوفل ايضا حيث قال:

 

” فلا يقدر أحد من أية رتبة كانت من الاهالي في المدن فضلا عن القرى ان يحمي دابته ويحافظ عليها ولو جعل معلفها داخل داره، فان الضابط المسحى بالتفكجي له سلطان ان يخلع الابواب ويكسر الاقفال، ويفوت هاجما الى الدار ويجرها قهرا جبرا ويركبها لاي عسكري او ضابط اراده، ويكون صاحبها مجبورا بان يستأجر لها رجلا يرسله معها لاجل عليقها وليحضرها له عند انتهاء عملها، والا لا دعوى له اذا ضاعت عليه، وفي اكثر ايام السنة كان يمتنع الفلاحون عن النزول الى المدينة، لانه لا يمكن ان ينزل اليها الفلاح الا ويتسخر هو ودابته او هو وحده ودابته وحدها، فيجره الضابط الى حيث اراد، واذا تعند معه أصابه من الضرب الأليم والعذاب المفرط ما يجعله ان يخضع لارادته رغما عن انفه”.

 

وكانوا يرسلون البنائين الى عكا وقولاق بوغاز وغيرها من الاماكن التي تبعد عن أوطانهم مسيرة يوم أو أيام، ويكرهونهم على العمل بربع الأجرة. ومن مظالم السخرة انهم كانوا يكلفون المكارين نقل الفحم الحجري من معدن قرنايل باجرة زهيدة، وبما ان الفحم المحفور حديثا تكون فيه رطوبة تتبخر عن تعرضه للشمس والهواء في اثناء نقله مسيرة ساعات عديدة فيجف وينقص وزنه، فكانوا يلزمون المكارين بدفع ثمن الفرق في الوزن الناشئ عن فعل الطبيعة، فيفقدون اكثر اجرتهم او كلها ظلما وعدوانا.

 

ومن فظائع البلص والتسخير هي ان الحكومة عملت بالمثل المشهور فكانت تكيل بمكيالين وتزن بميزانين، فتأخذ بمكيال او ميزان يزيد على الميكال او الميزان الذي تعطى به والذي فرضت التعامل به بين الناس كما بينا قبلا في الكلام عن الضرائب.

 

ولم يقتصر حيف الحكومة على الملاكين او المكارين بل شمل افقر الطبقات وهي طبقة العامل الفقير الذي يأكل خبزه بعرق جبينه ويعول ذويه من اجرته اليومية. فمن هؤلاء من كان يستخدم في قطع الاشجار في الغابات، فاذا قطع شجرة ووجدت لاي سبب من الاسباب غير صالحة للغرض الذي تطلبه الحكومة يحرم اجرته. نعم ان الحكومة كانت تترك له حرية التصرف في الشجرة التي تمسك عنه اجرة قطعها، غير أن بعد الغابات عن المدن كان يحون دون الانتفاع بها.

 

ومن المظالم التي ذكرها نوفل نوفل بعد ان عدد اضرار السخرة ما يلي قال:

 

“والأعظم من ذلك جميعه اخراج الناس من بيوتها لاجل اسكان العساكر التي لا تفتر من الجولان في البلاد وخاصة مدن الساحل فلا يرثون لانين شاكي ولا يرحمون دمعة باكي، فترى النساء والارامل فضلا عن المتزوجات من المسلمين والنصارى دايرات في الاسواق يتوقعن مأوى يأوين اليه، وقد يتفق البعض منهم أنهم بعد مقاساة العناء يجدون محلا، لكنهم لا يستقرون فيه برهة الا وتأتي العساكر وتخرجهن منه، أيضا ولا يعفى من ذلك احد لا كبير ولا صغير الا من كان ذا رتبة معروفة بين خدام الميري”.

 

“وكثيرا ما تتعطل المساجد والمدارس لتجعل عنابر لوضع الذخائر والمهما”. وقد ذكر نوفل نوفل حوادث من هذا النوع منها ما حدث في دمشق فانهم “أخذوا جملة جوامع ومدارس نزلوا بها عساكر مثل الجامع الذي في الخياطين والمدرسة التي بلصق بين عبد الله باشا والمدرسة التي قاطع حبس باب البريد والجامعة الذي بالدرويشية وجامع المعلق”.

التلاعب بأسعار العملة

 

ومن مساوئ حكومة محمد علي في سوريا التلاعب بأسعار العملة تلاعبا يعود بالخسارة على عموم الأهلين فتربح خزينتها ما خسره أهل البلاد، وذلك أنها تخفض أسعار العملة عندما تشرع في تحصيل الضرائب، فاذا انتهى جمع الضرائب عادت الى رفع أسعارها، وهذه المعاملة شبيهة بما ذكرناه قبلا عن الكيل بمكيالين والوزن بميزانين.

التجنيد

 

كان السوريون ينفرون من التجنيد اشد النفور، لانهم لم يألفوه ، وان كانوا قد الفوا الحروب. فالحروب التي كانوا يشتركون فيها قبلا كانت تقع في داخل البلاد، وكان المحارب لا يغيب عن أهله وبلدته الا اياما معدمودة ويسير الى الحرب مع اخوانه ومواطنيه جنبا الى جنب وتحت راية زعيم يعطف عليه، وتجمع به جامعة المبدا والمصلحة والوطن. أما التجنيد الاجباري في جيش ابراهيم باشا فكان خاليا من كل هذه المزايا، ولم يكن له شريعة خاصة ولا نظام معروف ولا وقت معين. وكانت طريقة تنفيذه فظيعة، اجمع على استنكارها جميع المعاصرين حتى ان كلوت بك وهو من كبار رجال حكومة محمد علي ومن الحائزين على ثقته لم يسعه الا الاعتراف بانها كانت طريقة هجمية، وان كل ما رواه الرحالون عن فظاعتها مطابق للواقع.

 

وقال نوفل نوفل عن التجنيد انه “لم يكن له وقت ولا نظام مخصوص ولا على اصول القرعة الشرعية، بل في اي وقت صدرت به الارادة، يدور العساكر في المدن والقرى للقبض على اي من وجدوه، واذا وشى باحد انه مختبئ في احد البيوت، تهجم العساكر وتدخل الى ذلك البيت فجاة للبحث عنه، فتصبح اسواق المدن ودكاكينها خالية وتتعطل حوانيت البيع والشراء، ويهرب الشبان منها ، ويمتنع الفلاحون واهل القرية عن المجئ اليها وكثيرون من الناس كانوا يقطعون السبابة، وهو الاصبح الذي يلي الابهام من الكف اليمين او يقلعون العين الشمال ليخلصوا من الدخول الى هذه الخدمة”.

 

وروى بوجولا ما خلاصته: “كان ثاني يوم وصولنا الى حمص يوم سوق، ففتحوا ابواب المدينة مبكرين ليمكنوا الفلاحين من الدخول وبيع حاصلات أراضيهم. فنحو الساعة العاشرة صباحا بينما كانت مدينة حمص غاصة بالناس، حركة السوق على اشدها، وكان الباعة والمشترون قائمين باعمالهم بسلام، أقفلت ابواب المدينة اقفالا محكما، وانقض فجاة على الجمهور نصف الاي من الجنود المشاة، فساد الاضطراب الشديد مدينة حمص باسرها، كانما هجمها عدو لدود. فقبض الجنود على الشيوخ والشبان من مسلمين ومسيحين سواء أكان من التجار او الصناع او العمال، وقادوهم جميعا مشدودي الوثاق، يتبعهم عدد عديد من النساء والبنات يملأ صراخهم ونواحهن الفضاء، وهن يقرعن صدروهم ويلطمن وجوههن حزنا على أبنائهن واخوتهم وآبائهن الذين اقتادهم الجنود كرها بدون ان يترك لهم فرصة لمشاهدة مسقط راسهم او التزود بنظرة من ذويهم.

 

أما المقبوض عليهم، فسيقوا الى دار احدى الثكنات العسكرية، وهناك جرى فرزهم، فأخلي سبيل المسيحيين والشيوخ من المسلمين، وسبق الباقون الى مصر كما يساق الجناة تخفرهم فرقة من الجند ويرافهم اليأس من الرجوع الى أوطانهم، لانهم سيبقون جنودا مدى الحياة.

 

وهكذا كان كلما شاء محمد علي زيادة قوة جيشه، يغتنم فرصة حلول عيد أو اقامة سوق بيع وشراء او اذا اقتضت الحال بجمع الناس لحفلة دينية، ويحيط المجتمعين بفرقة من الجنود الذين يعتمد عليهم فيقومون بالمهمة التي انتدبوا لها بالصورة التي سبق وصفها”.

نزع السلاح

 

ان السلام آلة شديدة الضرر بالأهلين ونزعه من أيديهم بعد قيام الحكومة بحفظ الامن واقرار السكينة في البلاد أمر لا غبار عليه، على أنه في كل حال أحدث استياء عظيم بين السوريين، لأنهم اعتادوا نقل السلاح واستعماله منذ أجيال، وكان الزعماء يفاخرون بالتفاف رجالهم حولهم وخم شاكو السلاح.

 

فالسلاح كان احد مظاهر القوة والعظمة التي عز على السوريين فقدها. غير أن تجريد الأهلين منه له ما يبرره، انما الخطة التي اتبعت في التنفيذ كانت جائرة، وكان فيها من القسوة والترويع ما في جميع اجراءات حكومة محمد علي في التجنيد وجمع الضرائب وغيرها. وكانت تعتبر كل رجل مسلحا ولو كان ممن لم يقتنوا السلاح مطلقا، وتكرهه على تسليمها سلاحا يضطر الى مشتراه لينجو من ضغط الحكام.

انشاء الخمارات

 

اجازت حكومة محمد علي انشاء الخمارات وحصرت فيها حق بيع الخمور للأفراد ولأصحاب المقاهي. فكان من ذلك اباحة شرب الخمر جهارا لأي شاء حتى المسلمين، وقد غالب بعض الجهال بالجهر في استعمال الخمر، وفي اثناء احدى الزينات التي اقيمت في دمشق ركب رجل مسلم جملا ووضع علي جانب “مسودتين” من العرق وسار في موكب عظيم متنقلا في احياء المدينة، وكان الرجل يتناول العرق من حين الى آخر وهو على ظهر الجمل على مرأى من ألوف من المسلمين، الذين كادوا يتميزون غيظا مما شاهدوا.

 

فانشاء الخمارات أثار في نفوس المسلمين ثائر الغيرة الدينية، كما أنه حرم عددا كبيرا من المسيحيين الأرباح التي كانوا يصيبونها من المتاجرة به، واستولت الحكومة على ما كان مخزونا عندهم من العرق والنبيذ لأجل البيع، ولم تدفع لهم سوى ربع ثمنه، كما انها استولت على الآلات المستعملة لصنع الخمور وعلى المواعين المعدة لحفظ الخمر في بيوت النصارى واليهود. وهكذا أوجب انشاء الخمارات استياء جميع الطوائف السورية